شعرية الياسمينة الدمشقية في "صمت الظل" لمديحة باراوي د. راشد عيسى/ الأردن
شعرية الياسمينة الدمشقية في "صمت الظل"
لمديحة باراوي
د. راشد عيسى/ الأردن
إذا كان ثمة شعراء وشاعرات تتوافق قصائدهم وقصائدهن مع الطبائع الشخصية لهم ولهن فمديحة باراوي أنموذج لامع لذلك، وقد عرفتها عن قرب بهيجة الحضور كبيرة القلب مطمئنة رؤوماً ودوداً، وهذه صفات لمحتها في قصائدها في ديوانها "صمت الظل" الصادر عن اتحاد الكتاب العرب/ دمشق في العام الماضي.
تكشف القصائد عن مثال ناعم من الرومانسية الأصيلة سواء في بعدها الانتمائي الوطني أو بُعدها الذاتاني في الأحلام الخاصّة، وهما بعدان مركزيان في الديوان تتجوهر بهما وحولهما الرؤى والمعاني والاستعارات، غير أن البعدين متلاحمان معاً مثل اليدين في جسم الإنسان.
ففي البعد الخاص نقع على دفقات لطيفة عذبة من الزهو بالذات والتفاخر بالكينونة من مثل:
ولدتُ يوم هروب الشمس من غدها وليس لي بعد هذا العمر أشباهُ
فصدر البيت ينبئ عن خبر شعري مدهش، وهو أن ميلاد الشاعرة كان في اليوم الذي هربت فيه الشمس من غدها، أي بقيت في يومها مشمسة لا تفكر في الغد، وفي ذلك كناية إلماحية تقول:
أنا امرأةٌ قدَّت من الهمّ ثوبَها
ومرّت عليها نائباتٌ من الكرْبِ
كنرجسةٍ بيضاء وجهي ومهجتي
صفاء ندى الوديان في ذروة الخصْبِ
إذا الشرقُ وافاني فهل من وصيفةٍ
على قمة مثلي تلوّحُ في الغربِ؟
عشقت بلادي وردة إثرَ ورودةٍ
إذا كان بي نار المحبّ فما ذنبي؟
يروْن بوجهي غوطة الشام سمْحة
وعطر زهور الياسمين إلى جنبي
تعرّف الشاعرة بنفسها بأنها امرأة مقدودة من الهمّ والكروب، ثم نراها تتسامى عن مظهرية الأحزان الكئيبة إلى وصف ذاتها بالنرجسة وصفاء الوديان الخصيبة، فلم يخذلها الهمّ إنما نصرَها التحّول إلى مباهج سعيدة لتصبح امرأة القمة بلا منازع، ولكن هذه المرأة القمة لم تكن (قمة) إلا لعشقها بلادها أرضاً وكائنات جمالية، فكان مسوّغ التزاهي مقبولاً وجميلاً.
وفي تاريخ الشعر النسوي العربي شاعرتان قدّمتا مثل هذا التغني بالذات، عشرقة المحاربية قبل الإسلام، وولادة بنت المستكفي في العصر الأندلسي، أما ولادة فلها البيتان الشهيران:
[أنا والله أصلح للمعالي
وأمشي مشيتي وأتيه تيها]
[أمكّنُ عاشقي من صحن خدي
وأعطي قبلتي من يشتهيها]
فالصلاح للمعالي والتميز دون الأُخريات هو السمة المشتركة، أما بيت ولادة الثاني فلا حاجة لنا به لأنه غرور كاذب وادّعاء ساذج.
غير أن التناص في فكرة الاعتداد بالنفس كان مع المحاربية حين قالت:
جريتُ مع العشاق في حلْبة الهوى
ففقتهمُ سبْقاً وجئتُ على رِسْلي
فما لبس العشاق من حلل الهوى
ولا خلعوا إلا الثياب التي أُبلي
ولا شربوا كأساً من الحب مرةً
ولا حلوةً إلا شرابهم فضلي
فكلا الشاعرتين جمعهما إيقاع بحر الطويل، وفكرة التباهي بالتفرّد في الهوى، غير أن المحاربية تنزع إلى ما يشبه الكيْد النسوي والغيرة، والتألّم من شيخوختها بعد أن كانت صبيةً فاتنة، على حين ورد تباهي مديحة متسامياً منحازاً للمحبة المطلقة من نحو ومصوغاً بصور شعرية فائقة تظهر فيها الأنسَنة والتمازج مع جماليات الطبيعة حين تقول:
اسم مولاي الهوى لو سألوا
عين أحلامي لقالت: مَنْ أنا
ساعدي غصْنٌ وكفيّ زهرةٌ
وشذا عطري يزور المدنا
حبستْ أنفاسها الريحُ ففي
صمتِها أقرأ لحناً مُتْقنا
ياسمين الشام زادي فعلى
عطره أغفو وأحيا زمنا
وأغني ألف موالٍ وفي
لحن موالي رنين الميجنا
بردى يمشي على وقع صدى
صوتيَ العابرِ أصقاع الدُّنا
فالهوى نابع من ذاتية الشاعرة ومن جماليات المكان الشامي كوطن جميل، إنه هوى مستقى من ياسمين الشام، فالشاعرة تعلن أنها دمشقية المولد والهوى والشعرية:
أنا من دمشق واسم أمي غوطةٌ
وعليّ كل العائدين تعرّفوا
ففي البيت شعور وطني متجذر في الروح والشعر والشعور، على أن الشاعرة تغني للحب بتصوير جاذب ممتع في قصيدة تبدو موشحاً دمشقياً تفيض منه موسيقا روحانية، وهي بذلك تجسّد الغنائية الرومانسية في أبهى إشراقاتها حين تقول على بحر الرمل:
حبّنا صوت هسيس المطرِ
ومرور العمر فوق الصورِ
حبّنا طير على داليةٍ
ضيّع الصياد في المنحدرِ
جمعتنا جوقة حالمةٌ
بزمان صيفُه من ثمرِ
ووقفنا خلف أعتاب المنى
نقطف الحلمِ نديّ الزهرِ
لا نبيع الموقف الحرّ ولا
صوتنا العذب ولكن نشتري
من محار البحر من لؤلؤةٍ
من أديم الماء خلف الجزرِ
نخطف الفكرة من شاهقها
ونشدّ النجمَ نحوَ السَّهرِ
هكذا نقع في هذا الديوان على ترانيم عاطفية مملوحة كأنها نسمات طريّة يبوحها صباح بردى ،لا تكلّف في الشاعرية ولا تعقيد مجازيّ، إنما نقرأ شعْراً صافياً من نبع أرض شامية تحمل جماليات الأمومة والحنين والاحتفاء بالحب والورد والمكان الشامي دون صراخ أو ادّعاء أو هدف.