كريم العراقي : (موت نبيل) يكشف (خسة حياتهم) !! .. جواد الحطاب
كريم العراقي :
(موت نبيل) يكشف (خسة حياتهم) !!
.. جواد الحطاب
.
-1-
يشكّل عندي الشاعر كريم العراقي "مُحتَرفا شعريا" باذخ التجربة والعطاء، واطلاعي على منجزه الثر، الذي أمتدّ من نفثات روحه في "مستشفى ابو ظبي" والى آخر مكالمة لي معه شاركني فيها الصديق الملحّن المبدع "علي سرحان" وشاعرة صديقة قادمة من مغترب هي أيضا، وارادت ان تطمئن عليه، وأردت ان "أكشخ" بمكالمته فطلبته، ويوم خذلنا خط "الواتساب" مع الإمارات، اتصل "كروم" من رقمه الخاص لنكمل حديثنا، رغم ان المكالمة عبر الرقم الخارجي تكلّف كثيرا، لكنه كريم.
الشاعر الذي روّض أشدّ الأمراض فتكا، ذاك الذي نتجنب ذكر اسمه رعبا فنسميه "الخبيث"، بل وجعل منه موضع سخرية متداولة عبر حواراته في الفضائيات، مصرّحا نكاية به، متحدّيا بأنّه لن يقدر على هزيمته، وأنّه إن آثر الرحيل، فسوف : (أموت واقفا كنخلة) !!
حتى اذا تعب الإثنان من رفقة بعضهما، وآثرا الافتراق أخيرا، ذهب "كريم" الى "رب كريم" ، وذهب الآخر مثل "ضبع قميء" ينصب كمائنه -اينما شاءت- خباثته ليصطاد بها ضحاياه، شريطة الا يؤرّقه أحد منهم كما فعل معه "العراقي"، والذي بدلا من أن يكون خادما وتابعا لعلاجاته الكيميائية، جعل منه حارسا لأوجاعه وطوال سنوات رفقته له.
.
-2-
كريم بالنسبة لي واحدا من مُحتَرفي الشعر الكبار ( سعدي يوسف- الصائغ يوسف - نزار قباني – محمود درويش – الأخوة الرحابنة).
وانا هنا اتحدّث عن "الإحتِرافية" باختلاف منجزها وتقييماته النقدية، فالشاعر الذي يكتب اكثر من 700 اغنية لكبار مطربي العرب ، فضلا عن مؤلفاته، وعديدها المختلف في الشعر، والرواية، والكتابة للطفل، والأوبريتات، والحوارات، والأماسي، والمسرحيات .
الا يستحق – هذا الشاعر- ان أضعه في القائمة الأولى من قوائم "الظواهر الشعرية" المعاصرة ؟!!
ولا تستكثروا عليَّ هذا القول ، أليس إنحيازي الى ابن "الشاكرية"، فتى الـ"ثورة"، عاشق "الحمامات"، الماهر بصناعة "الطائرات الورقية"، ومكتشف "الأناشيد" الفطرية البسيطة في مدرسته الإبتدائية، والذي يختاره انداده – دائما- ليتدافع قبلهم على ما يتركه جند "معسكر الوشاش" من "قصعات" فائضة !!
أليس إنحيازي الى هذا الفتى، الباشط، مشروعا ؟!!
.3-
تعرفت عليه في بدايات قصائده التي احتلت مساحة واسعة من محفوظاتي لرومانسيتها العالية، ولسهولة وعذوبة لغتها، وعوالمه التي سعت الى كسر "الرتابة النظمية" التي اجتاحت موجة القصائد الشعبية، وغزت المهرجانات والأماسي في فترة السبعينيات (وقد لا افشي سرا حين اقول بأنني أدعيت الكثير من قصائده (الشعبية) على انها لي، حين انفرد بالحبيبات، او حين أحاول جلب انتباه إحدى الجميلات، فأسمعها آخر ما كتبت، وأقرأ لها قصائد كريم العراقي بصوتي، فالمهم لديها – ولديّ- ان هناك صورا شعرية بسيطة ومتلاحقة تغازل الحس، وترطّب الوجدان ..
.. وبالمناسبة،هذه العادة تأصلت لفاعليتها، وان كانت القصائد مكتوبة لكاظم الكاطع، او فالح حسون الدراجي، أو بعض الشعراء العذاب الآخرين، فهذا لا يهمّ، المهم هو انها تؤدّي دورها المطلوب لحظتها، على أن افضح تأثيرها فيما بعد للشعراء أنفسهم !!..
حين كنت انقل اليه إعجاب الفتيات بما أدّعيه من قصائده، يستغرق بالضحك، ويطالبني ولو بهامش صغير، ولكن أنّى له ذلك.
.
هذه المعرفة الرومانسية الأولى التي توطّدت عميقا، فيما بعد، أصبحت مثابة انتماء للحرف والحياة، وزادها ما تعرّض له كريم من حوادث، وكأنّ القدر قد خطّ له طريق معاناته – منذ البدء- ليتشكّل كما يشتهي ان يكون أي مبدع، أو مناضل .
( في احدى حواراته التلفزيونية، سألته المذيعة عن "السجن" فأجاب: تجارب مؤلمة، وسكت.. ولم يدخل في التفاصيل التي سأذكرها انا نيابة عن تواضعه المعهود، والتي لو كان بعضها لهواة إدعياء السجون، والإضطهاد، والكذب بمطاردات رجال الأمن، لكانوا نجوم النجوم، لكنه آثر ان ينتزع هذه المكانة بابداعه، وحضوره الفاتن وقد نجح أيّما نجاح.
.
-4-
في عام 1973 تم الإتفاق بين حزب البعث، وبين الشيوعي العراقي على إعلان "ميثاق الجبهة الوطنية" وكانت احدى بنود الميثاق هي عدم السماح للشيوعيين بالتنظيم الحزبي داخل الجيش، وان عقوبة الإعدام ستكون لمن يقبض عليه متلبسا بهذه "الجريمة".
ذات يوم تسرّب الينا ان "الاستخبارات العسكرية" القت القبض على كريم العراقي، وعلى بعض المثقفين الذين سيقوا لـ"خدمة العلم" حيث قيل ان في عدتهم العسكرية "مناشير" تدعو الى الشيوعية وتروّج لهذا الفكر!!
والعثور على هذه المنشورات عند أي عسكريّ ما، يعني ان هذا العسكري، لابد وان مصيره الإعدام ، بحسب البنود "الميثاقية" المتفق عليها.
.
واذكر ان هذا الامر قد شغل الوسط الثقافي، لاسيما وان الجوّ السبعيني في تلك الفترة محتدم والفعاليات الثقافية تمور بالحركة فأخذ هذا الخبر صدى واسعا، وتضامن مستتر وعلني، الى ان تناهى الينا اطلاق سراحه، ربما لأن من كتب التقرير عليه لم يستطع إثبات إدعائه، او لتسوية ما، او لوساطات لم نسع الى معرفتها، لأن كلّ ما كان يهمنا هو اطلاق سراح كريم العراقي .
.
-5-
هذا الشاعر تغرّب طويلا ..
وجاب جهات الأرض بحثا عن لحظة أمان، عن بقعة ضمير يطمئن اليها، وينام بلا كوابيس، او حلم صراع مع الجنود على بقايا طعام، حلم يراه اليوم حقيقة في صحوه، فالجموع الكاثرة من أهله تجوب مناطق النفايات لتسدّ جوع اطفالها، ولا مهرب له من هذه الكوابيس سوى : القصيدة .
مـتى الحقائبُ تُلقى من ايـاديـنا …
وتسـتـدلُ على نـورٍ ليالـينا؟
متى الوجـوهُ تـلاقـي من يـعـانقـها …
ممن تبـقّى سلـيماً من أهـالينا؟
متى المصابيحُ تـضحـك في شوارعـنا …
ونشـهد العـيد عيداً في أراضينا؟.
.
ورغم المرض، ومسامرة الجلسات الكيميائية، بدلا من جلسات الصحب والأحباب، كان لا بد له ان يكتب للإنسان، خصوصا ذلك الإنسان الذي كان يحمله في دواخله، والذي لم ينتم له باللقب فقط، وانما كان في نبض نبضه هو "العراقي" لقبا وحشرجات.
:
تذكر كلما صليت ليلا
ملاييناً تلوك الصخر خبزا
على جسر الجراح مشت وتمشي
وتلبس جلدها وتموت عزا
تذكر قبل أن تغفوا على أي وسادة
أينام الليل من ذبحوا بلاده
أنا إن مت عزيزا إنما موتي ولادة
.
نعم ايها الصديق، الأعز، الباشط، الذرب، غنيت للجمال، ونصبت إحساسك حكما بين المحبين، لكن من بين كل القصائد، والأغاني، كانت الشمس شمسك والعراق هو ذياك العراق الذي شربت ماء دهلته، فاينعت النخيلات مع عروق الدم، واتخذت الشعيرات شكلها، حتى تحيّر الأطباء فيك، فعند كل "أشعّة" او "سونار" كانوا يرون في صدرك : السنابل، والقصب، والفسائل الملآى بالرطب.. ولا أثر لهجوم "الخبيث" على جسدك المكابر.
.
-6-
ولا عليك يا صديقي "كرّوم" من رثاء احاول ان اكتبه لك الآن ..
لا عليك على الإطلاق، لأني سأهمس لسلامك القادم جوار "الرحمن الرحيم" : أتدري بأن موتك الذي ايقظ كل اشواقنا لإستقبالك، سبب "فضيحة" كبيرة، لكل السرّاق، والفاسدين، والحرامية، ونبّه كلّ الإعلام والثقافة والمتابعين الى حقيقة سعى خونة العراق، وسارقو أمواله الى تغييبها، وهي : انهم في غد عندما يتولاهم عزرائيل عليه السلام، أين سيدفنون – جهارا نهارا- ومن يجرؤ على تعليق يافطة تخبر عن موتهم؟!!
.. أكيد، لا أحد يجرؤ خوفا من "بصاق" المارّة على يافطة النعي، وتفاديا لـ"نعل" اطفال الفقراء، وتهيّبا من لعنات الأجيال القادمة، أمّا شوارع لندن، وفيلات نخل دبي، وفنادق بيروت، وشاليهات قبرص، فستبقى أرث أولادهم "المثليين"ولا عزاء لأجسادهم "النتنة" بأرض العراق الطاهرة.
والذين مثلك – يا أبا الضفاف - ايها الباذخ، المنتمي للناس والوطن وعيون "بهيجة" فستنتظرهم العربات العسكرية، كما انتظرت جثمانك الموشّح بالعلم العراقي، وتسير أمامهم، كما سارت أمامك كوكبة أعلام، وجوق موسيقى وطنية.
.. وترمى على تابوتك باقات الورد، والدعوات لرب العزة والجلال بان يحسن وفادتك ، لأننا شيّعناك الى جواره وفي قلبنا ثقة بان من يكون جوار الله هو ذلك الذي اختارته المواقف النبيلة ليكون ممثّلا لها عند "العرش" العظيم، لإنّا للعراق، وإنّا اليه راجعون .
:
يا خالق الجبال والأشجار والبحارْ..
لا تخذل الذي بعفوك استجار..
الإنسان والأديان
من أي قوم كنت يا أخي الانسانْ
أسألك.. أين هو الأمان؟
خالقنا الله الجليل الواحد الرحمنْ
ماذا أراد بهذه الاديان؟
ماذا أراد الله من مخلوقه الانسانْ؟
الحب والايمانْ
تختلف اللغات والاشكال والألوان..
لكنما الانسان للانسانْ .
.
× - شكرا لجريدة الزمان بطبعتها الدولية - لندن - والتي نشرت الرثاء على صفحتها الأولى
× - شكرا لجريدة الزمان بطبعتها العراقية - بغداد
(موت نبيل) يكشف (خسة حياتهم) !!
.. جواد الحطاب
.
-1-
يشكّل عندي الشاعر كريم العراقي "مُحتَرفا شعريا" باذخ التجربة والعطاء، واطلاعي على منجزه الثر، الذي أمتدّ من نفثات روحه في "مستشفى ابو ظبي" والى آخر مكالمة لي معه شاركني فيها الصديق الملحّن المبدع "علي سرحان" وشاعرة صديقة قادمة من مغترب هي أيضا، وارادت ان تطمئن عليه، وأردت ان "أكشخ" بمكالمته فطلبته، ويوم خذلنا خط "الواتساب" مع الإمارات، اتصل "كروم" من رقمه الخاص لنكمل حديثنا، رغم ان المكالمة عبر الرقم الخارجي تكلّف كثيرا، لكنه كريم.
الشاعر الذي روّض أشدّ الأمراض فتكا، ذاك الذي نتجنب ذكر اسمه رعبا فنسميه "الخبيث"، بل وجعل منه موضع سخرية متداولة عبر حواراته في الفضائيات، مصرّحا نكاية به، متحدّيا بأنّه لن يقدر على هزيمته، وأنّه إن آثر الرحيل، فسوف : (أموت واقفا كنخلة) !!
حتى اذا تعب الإثنان من رفقة بعضهما، وآثرا الافتراق أخيرا، ذهب "كريم" الى "رب كريم" ، وذهب الآخر مثل "ضبع قميء" ينصب كمائنه -اينما شاءت- خباثته ليصطاد بها ضحاياه، شريطة الا يؤرّقه أحد منهم كما فعل معه "العراقي"، والذي بدلا من أن يكون خادما وتابعا لعلاجاته الكيميائية، جعل منه حارسا لأوجاعه وطوال سنوات رفقته له.
.
-2-
كريم بالنسبة لي واحدا من مُحتَرفي الشعر الكبار ( سعدي يوسف- الصائغ يوسف - نزار قباني – محمود درويش – الأخوة الرحابنة).
وانا هنا اتحدّث عن "الإحتِرافية" باختلاف منجزها وتقييماته النقدية، فالشاعر الذي يكتب اكثر من 700 اغنية لكبار مطربي العرب ، فضلا عن مؤلفاته، وعديدها المختلف في الشعر، والرواية، والكتابة للطفل، والأوبريتات، والحوارات، والأماسي، والمسرحيات .
الا يستحق – هذا الشاعر- ان أضعه في القائمة الأولى من قوائم "الظواهر الشعرية" المعاصرة ؟!!
ولا تستكثروا عليَّ هذا القول ، أليس إنحيازي الى ابن "الشاكرية"، فتى الـ"ثورة"، عاشق "الحمامات"، الماهر بصناعة "الطائرات الورقية"، ومكتشف "الأناشيد" الفطرية البسيطة في مدرسته الإبتدائية، والذي يختاره انداده – دائما- ليتدافع قبلهم على ما يتركه جند "معسكر الوشاش" من "قصعات" فائضة !!
أليس إنحيازي الى هذا الفتى، الباشط، مشروعا ؟!!
.3-
تعرفت عليه في بدايات قصائده التي احتلت مساحة واسعة من محفوظاتي لرومانسيتها العالية، ولسهولة وعذوبة لغتها، وعوالمه التي سعت الى كسر "الرتابة النظمية" التي اجتاحت موجة القصائد الشعبية، وغزت المهرجانات والأماسي في فترة السبعينيات (وقد لا افشي سرا حين اقول بأنني أدعيت الكثير من قصائده (الشعبية) على انها لي، حين انفرد بالحبيبات، او حين أحاول جلب انتباه إحدى الجميلات، فأسمعها آخر ما كتبت، وأقرأ لها قصائد كريم العراقي بصوتي، فالمهم لديها – ولديّ- ان هناك صورا شعرية بسيطة ومتلاحقة تغازل الحس، وترطّب الوجدان ..
.. وبالمناسبة،هذه العادة تأصلت لفاعليتها، وان كانت القصائد مكتوبة لكاظم الكاطع، او فالح حسون الدراجي، أو بعض الشعراء العذاب الآخرين، فهذا لا يهمّ، المهم هو انها تؤدّي دورها المطلوب لحظتها، على أن افضح تأثيرها فيما بعد للشعراء أنفسهم !!..
حين كنت انقل اليه إعجاب الفتيات بما أدّعيه من قصائده، يستغرق بالضحك، ويطالبني ولو بهامش صغير، ولكن أنّى له ذلك.
.
هذه المعرفة الرومانسية الأولى التي توطّدت عميقا، فيما بعد، أصبحت مثابة انتماء للحرف والحياة، وزادها ما تعرّض له كريم من حوادث، وكأنّ القدر قد خطّ له طريق معاناته – منذ البدء- ليتشكّل كما يشتهي ان يكون أي مبدع، أو مناضل .
( في احدى حواراته التلفزيونية، سألته المذيعة عن "السجن" فأجاب: تجارب مؤلمة، وسكت.. ولم يدخل في التفاصيل التي سأذكرها انا نيابة عن تواضعه المعهود، والتي لو كان بعضها لهواة إدعياء السجون، والإضطهاد، والكذب بمطاردات رجال الأمن، لكانوا نجوم النجوم، لكنه آثر ان ينتزع هذه المكانة بابداعه، وحضوره الفاتن وقد نجح أيّما نجاح.
.
-4-
في عام 1973 تم الإتفاق بين حزب البعث، وبين الشيوعي العراقي على إعلان "ميثاق الجبهة الوطنية" وكانت احدى بنود الميثاق هي عدم السماح للشيوعيين بالتنظيم الحزبي داخل الجيش، وان عقوبة الإعدام ستكون لمن يقبض عليه متلبسا بهذه "الجريمة".
ذات يوم تسرّب الينا ان "الاستخبارات العسكرية" القت القبض على كريم العراقي، وعلى بعض المثقفين الذين سيقوا لـ"خدمة العلم" حيث قيل ان في عدتهم العسكرية "مناشير" تدعو الى الشيوعية وتروّج لهذا الفكر!!
والعثور على هذه المنشورات عند أي عسكريّ ما، يعني ان هذا العسكري، لابد وان مصيره الإعدام ، بحسب البنود "الميثاقية" المتفق عليها.
.
واذكر ان هذا الامر قد شغل الوسط الثقافي، لاسيما وان الجوّ السبعيني في تلك الفترة محتدم والفعاليات الثقافية تمور بالحركة فأخذ هذا الخبر صدى واسعا، وتضامن مستتر وعلني، الى ان تناهى الينا اطلاق سراحه، ربما لأن من كتب التقرير عليه لم يستطع إثبات إدعائه، او لتسوية ما، او لوساطات لم نسع الى معرفتها، لأن كلّ ما كان يهمنا هو اطلاق سراح كريم العراقي .
.
-5-
هذا الشاعر تغرّب طويلا ..
وجاب جهات الأرض بحثا عن لحظة أمان، عن بقعة ضمير يطمئن اليها، وينام بلا كوابيس، او حلم صراع مع الجنود على بقايا طعام، حلم يراه اليوم حقيقة في صحوه، فالجموع الكاثرة من أهله تجوب مناطق النفايات لتسدّ جوع اطفالها، ولا مهرب له من هذه الكوابيس سوى : القصيدة .
مـتى الحقائبُ تُلقى من ايـاديـنا …
وتسـتـدلُ على نـورٍ ليالـينا؟
متى الوجـوهُ تـلاقـي من يـعـانقـها …
ممن تبـقّى سلـيماً من أهـالينا؟
متى المصابيحُ تـضحـك في شوارعـنا …
ونشـهد العـيد عيداً في أراضينا؟.
.
ورغم المرض، ومسامرة الجلسات الكيميائية، بدلا من جلسات الصحب والأحباب، كان لا بد له ان يكتب للإنسان، خصوصا ذلك الإنسان الذي كان يحمله في دواخله، والذي لم ينتم له باللقب فقط، وانما كان في نبض نبضه هو "العراقي" لقبا وحشرجات.
:
تذكر كلما صليت ليلا
ملاييناً تلوك الصخر خبزا
على جسر الجراح مشت وتمشي
وتلبس جلدها وتموت عزا
تذكر قبل أن تغفوا على أي وسادة
أينام الليل من ذبحوا بلاده
أنا إن مت عزيزا إنما موتي ولادة
.
نعم ايها الصديق، الأعز، الباشط، الذرب، غنيت للجمال، ونصبت إحساسك حكما بين المحبين، لكن من بين كل القصائد، والأغاني، كانت الشمس شمسك والعراق هو ذياك العراق الذي شربت ماء دهلته، فاينعت النخيلات مع عروق الدم، واتخذت الشعيرات شكلها، حتى تحيّر الأطباء فيك، فعند كل "أشعّة" او "سونار" كانوا يرون في صدرك : السنابل، والقصب، والفسائل الملآى بالرطب.. ولا أثر لهجوم "الخبيث" على جسدك المكابر.
.
-6-
ولا عليك يا صديقي "كرّوم" من رثاء احاول ان اكتبه لك الآن ..
لا عليك على الإطلاق، لأني سأهمس لسلامك القادم جوار "الرحمن الرحيم" : أتدري بأن موتك الذي ايقظ كل اشواقنا لإستقبالك، سبب "فضيحة" كبيرة، لكل السرّاق، والفاسدين، والحرامية، ونبّه كلّ الإعلام والثقافة والمتابعين الى حقيقة سعى خونة العراق، وسارقو أمواله الى تغييبها، وهي : انهم في غد عندما يتولاهم عزرائيل عليه السلام، أين سيدفنون – جهارا نهارا- ومن يجرؤ على تعليق يافطة تخبر عن موتهم؟!!
.. أكيد، لا أحد يجرؤ خوفا من "بصاق" المارّة على يافطة النعي، وتفاديا لـ"نعل" اطفال الفقراء، وتهيّبا من لعنات الأجيال القادمة، أمّا شوارع لندن، وفيلات نخل دبي، وفنادق بيروت، وشاليهات قبرص، فستبقى أرث أولادهم "المثليين"ولا عزاء لأجسادهم "النتنة" بأرض العراق الطاهرة.
والذين مثلك – يا أبا الضفاف - ايها الباذخ، المنتمي للناس والوطن وعيون "بهيجة" فستنتظرهم العربات العسكرية، كما انتظرت جثمانك الموشّح بالعلم العراقي، وتسير أمامهم، كما سارت أمامك كوكبة أعلام، وجوق موسيقى وطنية.
.. وترمى على تابوتك باقات الورد، والدعوات لرب العزة والجلال بان يحسن وفادتك ، لأننا شيّعناك الى جواره وفي قلبنا ثقة بان من يكون جوار الله هو ذلك الذي اختارته المواقف النبيلة ليكون ممثّلا لها عند "العرش" العظيم، لإنّا للعراق، وإنّا اليه راجعون .
:
يا خالق الجبال والأشجار والبحارْ..
لا تخذل الذي بعفوك استجار..
الإنسان والأديان
من أي قوم كنت يا أخي الانسانْ
أسألك.. أين هو الأمان؟
خالقنا الله الجليل الواحد الرحمنْ
ماذا أراد بهذه الاديان؟
ماذا أراد الله من مخلوقه الانسانْ؟
الحب والايمانْ
تختلف اللغات والاشكال والألوان..
لكنما الانسان للانسانْ .
.
× - شكرا لجريدة الزمان بطبعتها الدولية - لندن - والتي نشرت الرثاء على صفحتها الأولى
× - شكرا لجريدة الزمان بطبعتها العراقية - بغداد