بين ظل وضوء الواقع, قراءة في المجموعة القصصية (غبار الرفوف) للقاص الأستاذ الدكتور مصطفى لطيف عارف للدكتورة بيداء جبار الزيدي
بين ظل وضوء الواقع, قراءة في المجموعة القصصية (غبار الرفوف) للقاص الأستاذ الدكتور مصطفى لطيف عارف
للدكتورة بيداء جبار الزيدي
الدكتور الناقد مصطفى لطيف عارف في مجموعته القصصية (غبار الرفوف) راوي عليم يسرد من الواقع ما يذهلنا ويؤسينا في آن واحد, يأخذنا الى زوايا نعيشها كل يوم ولكنها في الظل عمداً, فيكشفها ويشاركنا فيها آلاماً مريرة, في هذه الاقاصيص الفكرة تدور حول نمطين من المصاعب الواقعية والأزمات العراقية, الأولى في ما قبل 2003 والثانية في ما بعد هذه الحقبة, لقد بدت هذه الاقاصيص وكأنها توثق تأريخ أو تسجل وتشخص وتنقل مآسي بوعاء سردي تتلبسه شخصيات متنوعة تعاني الظلم والاضطهاد والتهميش والأمراض النفسية والجنون أحياناً , وقد خصّ مدينة (الناصرية) جنوب العراق ببعض الأقاصيص في خصوصية النقل الحرفي ليجعل القارئ متأرجحاً بين الواقع والايهام باللاواقع لما فيه من مفارقات اليمة يصعب تصديقها.
فتراه ينقل اسماء أماكن واقعية عن (الناصرية) كـ (حي اور) , (الشرقية).. او اسماء مقاهي , او اسماء شخصيات كرجل الدين المعروف بـ (ابو عفاف) .. أو اسماء مدارس مثل مدرسة (الجمهورية)..
كما نجد دقة وصف الأجواء الاكاديمية فضلاً عن الأجواء التي يعيشها المبدعين والمثقفين والفنانين والعلماء والأدباء , وهذا يتأتى من معايشة بتفاصيل هذه الشرائح والوقوف على بعض المشاكل الاجتماعية والثقافية والسياسية فيها, مع حساسية إزاء هذه الاحداث والمفارقات والمآسي ونقل يشبه رصد الكاميرا والتركيز على نقاط من اللون وتكثيف الاضاءة عليها دون غيرها..
تمارس بعض الشخصيات في القصص دور الجلاد والضحية في وقتاً واحد, وهي وسيلة عرض للمشكلة والتبرير لها, او هي عرض للسبب والمسبب معاً :
كما في قصة (اغتيال البلد) التي تعرض لمشكلة ثقافية اجتماعية تربوية اخلاقية وهي بيع الرسائل والأطاريح والبحوث الجاهزة بأنواعها العلمية والأدبية مقابل المال , وهذه الجريمة المخالفة للضمير كما ترد بشكل سؤال يجيب عليه البطل/ الضحية , مبرراً ومحتجاً بالفقر والبطالة بعد ان أحيل على التقاعد ومرضت زوجته وعجز عن سد اجورها الصحية: "لماذا تكتب الرسائل والأطاريح الجامعية مقابل المال؟.. أحلت على التقاعد منذ سنوات ولم احصل الى الآن على راتبي التقاعدي .. وعندي عائلة كبيرة زوجتي أصيبت بمرض السرطان ولا املك أجور عمليتها الجراحية ولم اتمكن من دفع اجورها حتى فارقت الحياة .. بلدنا ذبح بسكيت الجهل والجهلاء " ص133-134.
ثم تداخل الشخصية التي تمارس دور البطل والضحية معاً المشكلة لتدفع عن نفسها هذه الجريمة تدفعها بأخطاء الآخرين ومشاكل اخرى لتبرر جريرتها : "ولماذا تحاسبني ولا تحاسب جشع الأطباء والصيادلة" ص134.
مهدي
مهدي الجابري
ويعرض القاص لمشكلة اخرى تتكرر في أكثر من قصة من قصص المجموعة وهي مشكلة " التعيين" بعد التخرج والحصول على الشهادة الاكاديمية لممارسة المهنة اذ ينال الشخصيات المظلومية العلمية والحيف الاجتماعي جراء الحرمان من ذلك , فمعظم الشخصيات عراقية غادرت للدراسة في جامعات عالمية وحصلت على شهادات الدكتوراة او شهادات في تخصصات نادرة ورفضت ان تهب عطاءها الاّ للعراق بلدها , فما ان تعود حتى تواجه بالتهميش والاهمال واللاتعيين , بل أكثر تلك الشخصيات تتجه الى القطاع الخاص او الى مهن لا تتناسب مع مكانتهم العلمية ودرجة وعيهم الثقافي : كبيع السكائر او سائق اجرة او صاحب محل تجاري او حمّال .. "حصلت على شهادة الدكتوراة من بريطانيا .. سوف لن تتعين حتى تنتمي الى جهة سياسية تلتزمك او تفتح محلاً تجارياً تعمل فيه اعمال حرة .. انا احمل شهادة علمية بالفيزياء النووية عرضت عليّ جامعتي في بريطانيا التعيين ومنحي بيتاً وراتباً مغرياً رفضت تلك الامتيازات وفضلت العودة الى بلدي العراق وجئت مسرعا كي اقدم خدماتي"ص23
ويداخل هذه المشكلة الكبيرة بمشكلة التشظيات والانتماءات السياسية وكثرة الاحزاب ومحسوبيتها لدى الادارة وتوزيع فرص التعيين بينها , فتشيع البطالة , ويلجأ البعض الى ممارسة مهنة مقابل "أجر يومي" لا يكاد يسد رمق الحياة: "سألتها انتِ تحملين أعلى شهادة جامعية وتعملين بأجر يومي؟ .. خرجت خائباً من واقعنا المرير" ص10-109
يميل القاص الى جعل البطل في اقاصيصه في الذروة من التفوق والرفعة وهذا من منطلق "والضد يظهر حسنه الضد" اذ يجابه بالتهميش والاهمال غالباً وربما بما لا يستحق من الاهانة بدلاً من التكريم والحفاوة كما في قصة (ذلة الأمل) , او في قصة اخرى: "أعلن رئيس هيأة التحكيم الفائز الاول.. وقلت تمنيت لو كان تكريمي في بلدي" ص129/ ص77
وغالبا ما تكون تلك الشخصيات بعد ان تعود الى البلد تُصعق بما تُقابل به: "تركت العراق لأكثر من ثلاثين عاماً .. أريد الذهاب الى مدينة الناصرية.. شاهدت الحفر والتخسفات في الشارع السريع والتي تؤدي الى الحوادث المميته والحفر الجانبية على الطريق" ص29-140
ولكن القاص في عرض بعض المشكلات يصاحب ويزاوج بين الظالم وحتفه. وهي نهاية وشيكة لكل ظالم عاجلاً ام آجلاً كما في قصة (فوبيا الضمير) وسميع الذي اختلس اموالاً من الدولة وفُصل , ولكن بعد الاحتلال اصبح (ملياردير سميع) ثم فقد عقله دون أن يهنأ بماله الحرام وتنتهي حياته بما جنى على نفسه من وارث لا يرحمه وهي زوجته التي تتنعم بماله الحرام: "دهسته سيارة مصفحة مسرعة من سيارات زوجته التي تقلها الى النادي , وانتهت حياته" ص154.
وهذا المخبول وامثاله يتحكم في مصائر اولئك المجتهدون من اصحاب الكفاءات: "سأل نفسه سميع اليوم عندك دوام ومن الذي تعينه في وزارتك الجديدة؟ اجابه الوهم اليوم تعين الذي يدفع اكثر, تعين كل شخص يدفع مبلغاً كبيراً من المال ونجعله من الكفاءات واصحاب الشهادات العليا التي نحصل عليها من اصدقاءنا المقربين" ص154
ثم يعرض القاص مشكلة اخرى تناثرت حباتها الموجعة على أغلب الأقاصيص وهي (الارهاب والتفجير والاغتيال) الذي طال امن البلد ثم جاءت فتوى المرجعية لتعيد الأمن والامان وتخلص البلد من ظلمهم فهور يعرض جانب من الذين ضحوا بدمائهم الزكية من كل الفئات والاختصاصات الطبيب والاعلامي .. وليس الجندي فقط , ويصّور جانب آخر هو بؤس الضحايا من الأبرياء :
"بكيت دما على شبابي الذي تلاشى .. عندما انفجرت العبوة قربه افقدته الحركة والنطق" ص120.
"قُتل ملاك القناة الفضائية بالكامل ونحرت الحقيقة معهم "ص151.
"ولدي الوحيد محمد الطيب الذي استشهد في ريعان شبابه عندما صدرت الفتوى المباركة .. للتصدي للدواعش"ص24.
ويرسم القاص صوراً مؤلمة لأب يصف ابنه وقد زفته اليه سيارات الشرطة والاسعاف شهيداً مع ان زواجه الاسبوع المقبل, واخرى تصف اغتيال زوجها الدكتور اثناء عودته من الجامعة بسبب الصراعات الطائفية, وآخر اختطفته الجماعات الارهابية وعليه دفع الجزية والفدية لهم ويضطر ذويه لبيع بيته بثمن بخس من أجل انقاذ حياته. فيُسلم لهم مقطوع الرأس واليدين , والكثير من المشاهد المتنوعة على هذه الشاكلة من الألم : "يحمل سيفا كبيرا قام بضرب العسكري بقوة بتر يديه وقطع رأسه"ص126.
"أعددت اطروحة جميلة تناقش الاوضاع توصلت الى نتائج مذهلة بينت حقيقة شخصيات بارزة في المجتمع العراقي .. هددت من بعض المتسلطين .. وقبل أن تصل الى قاعة المناقشة اغتيلت .. قدمت حياتها ثمنا لكشف المستور"ص33.
ويعرض القاص لمشكلة الآثار النفسية التي خلفها النظام السابق اي قبل 2003 , والشخصيات تسترجع ذكريات ممضة تقترن بواقع اسوء :
"رجعت بي الذاكرة الى الستينات عندما قرأت أول قصيدة .. اعتقلت وسجنت" ص128.
كما يعرض لحقبة الثمانينيات حيث الحرب الطويلة, ومرحلة التسعينات حيث (الحصار الاقتصادي) : "اعتقل وحبس مدة زمنية كانت تهمته الانتماء الى جهة سياسية معادية بعدها اطلق سراحه بعد تحطيم نفسيته وترك عاهة دائمية في جسده.."ص82.
ويعرض ما عانى الشعب من جوع وفقر مدقع جراء سنوات الحصار الاقتصادي: "لا نملك قوتنا اليومي.. اتذكر جيداً عندما اكلنا نشارة الخشب والحجارة التي تطحن لنا مع الطحين.. باع والدي ابواب بيتنا.. نساؤنا تملك عباءة واحدة ترتديها كل نساء البيت .. عانينا من الحرمان وتجبر المسؤولين في زمن الحصار الجائر .. وفي الليل لدينا (لالة) نشعلها .. نسمع الاخبار عن طريق مذياع قديم يعمل على البطارية.. هجم الحرس لاخماد الانتفاضة الشعبية التي ارادت الاطاحة بالنظام وهناك اطفال يسرقون الدوائر الحكومية"ص97.
فضلاً عن الاعدامات آنذاك والتعذيب ومقارنة كل تلك المآسي مع ما يحدث, بعد 2003 حيث الموت بأشكاله المتعددة كالانفجارات في الاسواق والاماكن العامة: "المأسوف على شبابهما استشهد في انفجار سيارة مفخخة في سوق الوحيدات عشية العيد"ص102.
كما يتعرض القاص الى الفوضى والاعتداء على الكادر الطبي: "ذهب سنان الى المستشفى ليلاً دخل عليه مجموعة من الاشخاص يحملون رجلاً مصاباً بطلق ناري قاموا بتطويق ا
مهدي
مهدي الجابري
كما يتعرض القاص الى الفوضى والاعتداء على الكادر الطبي: "ذهب سنان الى المستشفى ليلاً دخل عليه مجموعة من الاشخاص يحملون رجلاً مصاباً بطلق ناري قاموا بتطويق المستشفى وتوجيه الاهانات والاعتداءات على الاطباء.. حرقوا المستشفى وتم تدميره بالكامل وسجلت الجريمة ضد مجهول" ص9-54.
كما يعرض القاص (واقع الثقافة الحالية) ومشكلة العزوف الثقافي عن المطالعة والاقتصار على الاهتمام بوسائل التواصل الاجتماعي: "المكتبة المركزية.. فوجئت بانها تحولت الى دائرة حكومية اخرى وانطمست اثار المكتبة والكتب والثقافة" ص71.
ويصور القاص في نصوص اخرى كيف كان يتردد القراء على المكتبات وعلى مدار الاسبوع من المثقفين والشعراء والكتاب وطلبة المدارس في العطل الصيفية اما بعد 2003 فانحسر هذا الامر كثيراً مما يبعث الحزن.
كما يعرض القاص مشكلة الحاق التهم بالآخرين خدمة لأهداف حزبية او طائفية او سياسية – ويعرض في القصص ضحية أُتهم بالجنون: "القي القبض على موظف معي اختلس اموالاً من الدولة. سجنت بدلاً عنه لم يصدقني أحد حتى عائلتي وزوجتي واطفالي وزملائي وجيراني .. وجدت نفسي في هذه المستشفى" ص184.
فضلاً عن التهاون في محاكمة بعض المجرمين:
"لماذا لم يتم اعدام هذا المجرم الخطير؟ اجابني لا توجد عندنا اوامر بذلك"ص170.
كما تعرض القاص الى مشكلة ملاحقة من يتحرى (العدالة) وزج المجرمين بجرمهم :
"ولم انت هنا مسجون مع المجرمين.. لأنني حكمت عليهم بالإعدام.. تم سجني هنا سنوات عدة واتهامي باني ابله"ص172.
ويعرض لمشاكل اجتماعية اخرى منها (المخدرات):
"هناك مجموعة من الطالبات .. تتعاطى المخدرات داخل المدرسة بصورة سرية"ص156.
كما يتعرض القاص لتاريخ مدينة الناصرية في اشارات متعددة من معالمها الحضارية مثل: الزقورة, والاهوار: "انها اقدم بقعة على ارض البشرية ضمت بيت النبي ابراهيم عليه السلام.. في اعماق الاهوار الطيور من فوقنا .. والاوز .. والاسماك"ص167-168.
كان القاص اذ يعرف مشاكل عراقية عامة نجد في اغلب الاقاصيص يكشف الاضواء عن (مدينة الناصرية) جنوب العراق ويحيطها بالخصوص كما تحيط الكاميرا بالاهتمام جزئية خاصة.