سراديب مريم الحسن السعودية
سراديب
مريم الحسن
السعودية
تخالجني الفرحة في تلك الأمسية التي وعدني فيها أبي أن نزور شقيقتي التي تزوجت قريباً، ورحلت مع زوجها إلى المنطقة الشرقية، التي طالما حلمت بزيارتها ليالي شتائية طويلة، كلما سمعت بحكايات صديقاتي ومغامراتهنّ، كنت أرسم عنها لوحات فنية متعددة الألوان، أعشق شاطئها الذي يحيك حكايات العاشقين، وسواحله تدندن معزوفة العشق الدفين، تلك الأمواج التي طالما تبعثرت على سطحها قصائد غزل مزدانة بضياء نجوم الليل التي يسطع نورها متراقصاً على أنغام الحب الجميل.
ـ آه.. أيتها الأرض متى تطؤك قدمي وأبعثر رمال بحرك بأناملي؟
متى أجسّدك بارتسام خواطري في بحر ناظري؟
متى يا دوحة الأنس أكحل عينيي برؤيا أمواجك الرقراقة؟
إحساسي الصادق ينبئني أنك من سيهبني السعادة، هاجسٌ ما يحدثني بأنّي سأتخلّص من الكابوس في أحضانك، ستكون النهاية على أراضيك
هل آن الأوان أخيراً أن أحلّق في سمائك وأبحر بعيني في مياهك؟
هل ستكونين مخلصة لي أيتها الأرض التي طالما أحببتك وحلمت بك وبمن يعيش فوق أراضيك؟ أم أنّ تلك الرؤية التي يرسمها لي المارد ليليًّا ستكون هي الحقيقة؟!
أتوسّل إليك سيّدتي ارحميني.. لا تقتلي حلمي! إنّي أعشقه.. تعلقت روحي بروح فارسي الشّارد بين غيومك.
رسمت المستقبل على بياض روحي ..همت في بحر عينيه العسليتين اللتين عرضتا على شرفة نظراتي الحالمة، طبعت تلك الصورة نسخاً على أوراق أحاسيسي الناصعة، خطفت قلبي وكبلته بسلاسل ذهبية مصبوبة بطلاء الحب الدفين، محيطاتي، أنهاري، بحوري العاطفية الرقراقة التي تموج بها نفسي تدغدغ مشاعري، أجراس العاطفة تدقّ في قلبي المتيم معلنة حلول الإذن للقيام بطقوس العبادة، وتوحيد ذلك القلب بالعمل الخالص لفارس أحلامي الذي يجاور مياه الخليج، كلّما عسعس الغسق ينتظر حوريته سرًّا لتجود عليه بكنوزها الدفينة تخطفه من عالم الوحدة وتغرقه معها في بحور الأنس والوجود.
ذلك الفتى الذي خطف قلبي هو جزء من بيت شقيقتي، ويقرب لها من أسرة زوجها وهو شقيقه، قال لي يوماً من خلال برامج التواصل، معترفاً بدروب عشقه التي هوت به في طريقي من يوم زفاف شقيقه.
اشترط عليَّ أن يكون رضاي عليه نابعاً من قلب محبّ، طلب منّي الحفاظ على هذا السّر حتى يتولّع قلبي بعشق يملك به إرادتي.. أحببته.. انتظرت أن يجود الزمان عليَّ برؤياه، تحايلت على أبي ورجوته أن نزور شقيقتي، وأنا أتوق لتلك الرمال على شواطئهم، حلمت أن أخطّ بيدي رسم قلبي المجروح بحبّه على تلك الرمال، مع صوت الأمواج الصاخبة.. عندها سيضرب سهم اللقاء، وتنطلق شعلة الحب بين قلبينا، وتمتزج حرارة جسدينا بحرارة شمس الشروق، سنراقب نجم المنى، ونتمنّى ألّا أعود إلّا بتوقيع بيننا، وعهداً على أن نتقاسم الحياة، ونتشارك الحب، ونرشف لذة السّعادة بجوار البحر الذي عشقته طول حياتي، من العاصمة الرياض إلى شواطئ مينائها الدمام أوقّع صحيفة عشقي الأبدي.
وافق أبي أخيراً على الزيارة، بعد طول انتظار، وتمت الرحلة المبتغاة، رقص قلبي طربًا، وتهيّأت نفسيتي، وظهرت بأحسن هيئة وأجمل صورة، ارتديت ثوب الأمل والانتظار، كنت أوّل من ولج مركبتنا التي ستنقلّنا إلى حيث الحلم.
ما أطول الطريق، والبهجة تسرق من عيني النوم، حاورت الرمال الصفراء عانقت نظراتي نظرات الإبل، حدثتني بحديث طويل، كأنّها تنبأت بما تعتلج به روحي من رهبة ورغبة، تتدلّى شفاهها السفلى تعجّباً من تنهداتي الحارقة، تدير نظراتها عنّي متجاهلة مشاعري، أتجاهلها وأحوّل نظراتي إلى الأعشاب الخضراء، تلك التي تسقى من قطرات المطر الندية فتصيرها يانعة، تبتسم لي باخضرارها تمدّني بالأمل والتفاؤل والفرح والحبور.
تلوح منّي التفاتة نحو الكثبان الرملية التي تراودني في أضغاث أحلامي، لفتت انتباهي، وذكرتني بكوابيسي المتكررة التي أرى نفسي فيها تائهة في الفلاة كحمامة بيضاء تبحث عن ظلٍّ في لواهب الحرمان، قرص الشمس يستعر فيها تتلظى بنارها، لا ماء يطفئ لهيب العطش، ولا عرش يحمي من زمهريرها.
دبّ القلق وأخذ يمخر في غياهب نفسيتي المتلكئة، تأملت الساعة، مضى من الوقت ثلاث ساعات، وبقيت واحدة.. متى تنقضي تلك الكيلومترات؟
قتلني الانتظار، خوفي من اللقاء يوهن قوتي، أشعر بأنّ الجميع يستمع لدقات قلبي المجنونة، كلهم يفهمون همسات خاطري، أشقائي، وزوجاتهم والأطفال، والدي ووالدتي.. ليتهم يصمتون، ثرثرتهم تسبب لي التوتر.
كلّهم جذلون بتلك الزيارة، كأنّهم يعلمون بقصة عشقي ويزفونني إليه، ولو علموا بقصة حبّي لوأدوني حيّة.. بلا أسف عليَّ، شقيقتي الوحيدة التي تعرف بعضاً من سرّي؛ أقلّه، وليس أكثره.
بدأت عوالم الميناء تتضح، صارت الرياض خلفنا والشرقية أمامنا، وتحقق الحلم.
عمّت الفوضى المكان من صراخ الأطفال، وثرثرة الرجال، وهمهمات النساء، الكلّ مدهوش ومشغول البال، منجذبين بكلّ حواسّهم، فرحين بما تتمتع به شقيقتي من رفاهية ورغد العيش، تسلّلت من بينهم متمسّكة بكفّها أجذبها معي نحو غرفتها ووجنتاي تصطبغان بحمرة قانية.. يكسحني الخجل:
ـ هل هو هنا..؟
تبتسم في خبث، ترسم على تأجج مشاعري أضعافاً، انبثاق حرارة خجلي تفضح لهيب عاطفتي المتأججة:
ـ نعم.. إنّه هنا، كان يعدّ السّاعات والدقائق؟
أنكمش في خجل، أنطوي على نفسي، في محاولة للسّيطرة على توتر أعصابي
أسألها:
ـ كيف تكهّنت بذلك، هل أخبرك هو...؟
تمسك بذراعي محذّرة:
ـ يا فتاة.. أنت مفضوحة، وجهك يحكي كلّ ما بداخلك، المهم أن تكوني متماسكة، وقوية هو لم يخبرني بشيء، لكنّه مثلك، تفضحه ملامحه.
سوف أهيئ لك اللقاء به، كنظرة شرعية.. وأريدك امرأة شجاعة وقوية، أختي والأهم، لا أحد يعلم بالأمر..
ارتجفت شفتاي، اصطبغت باللون الأبيض:
ـــ متى وأين..؟
ـــ سأعلمك في ما بعد..
فقط هذا ما قالته وخرجت، رمت لي فتاتاً لا يكاد يسدّ رمقي للعاشق المتيّم الذي ينتظر قدومي إليه..
ما بالها أختي تتصدق عليَّ ببضع كلمات، وترحل..؟
ألا تعلم بتلك النار المستعرة التي أوقدتها في داخلي..؟! هل تطفئها تلك القطرات القليلة التي عصرتها رغماً عنها وغادرت؟
ذلك الكابوس الذي يجثم على صدري كلما هامت روحي، وغرقت في عالم السبات، يقلق راحتي..
ما بالك يا أخيّة؟ عودي وتحدّثي إليّ، لا أريد أن تنقطع الحكاية عنه.
في اليوم التالي، تحت ضوء القمر، أسير بصحبتها على الشاطئ، مستمتعة بدغدغة الرمال تحت قدمي، صوت المياه يترقرق بانسيابية، يعزف لحناً ينسجم مع تراجيديات مشاعري، نسيم عاطر يلفح نداه أديم تلك الصفحة المتوردة ببرودة منعشة، لا يخطر لي أيّ خاطر بأنّ أختي اتفقت مع الحبيب سرًّا، هنا في هذه الساعة المميّزة من آخر الليل، وهذا الموقع العجيب الرائع، والجوّ السّاحر الذي يصيبني بالنشوة في هذا الزمن بالذات، لم أتوقع أن يبدأ محور أسطورتنا، يديره شقيقي بإشراف شقيقتي، تلك المفاجئة الكبرى التي زلزلت كياني، اختلّت مشاعري وأربكتني، جعلتني أنتقل من جنون العشق، إلى رهبة الرعب، والخوف من المواجهة، ببلاهة غريبة، لم أستطع تفسيرها، وهو يتأمل قسمات وجهي وأنا مندهشة من اختلال توازني أمامه، تقع عيني في عين أخي وهو يسير باتجاهي مصطحباً معه أبي، صدمات عصبية طرئت في عقلي؛ سببت لي صداعاً تفجّر رعباً وخوفاً، وهاجساً جعلني أتخيّلهما ذلك المارد الذي يهدّدني في كلّ غفوة تركته، وهربت منهم في فزع،
نحو القمر، تسببت بفجوة عميقة، تتسع كلّما تعددت خطواتي، اختفى ظلّي، وعقلي يضجّ بأضغاث أحلامي السّراب!جريت