في رحاب برلين هناء غمراوي
الصورة: الكاتدرائية الألمانية في برلين
نحن في عطلة نهاية الأسبوع ما قبل الأخير من شهر نوفمبر، من العام الثاني للجائحة. كان أول عمل قمت به في هذا الوقت المبكر من الصباح ان استطلعت تطبيق الطقس من على صفحة الهاتف. بخلاف السنة الماضية وجدت أن الطقس البارد بدأ يغزو مدينة نيوريوك هذه السنة مبكرا. وبدأت الحرارة بالهبوط بشكل ملحوظ.
المدينة تستعد لاحتفالات عيد الشكر بعد أيام، والنيويوركيون مشغولون بشراء طيور الحبش والاستعداد للعشاء الخاص بهذا العيد الذي يعد من أهم الأعياد الوطنية في الولايات المتحدة. أما أنا فقد كنت غائبة عن هذه التحضيرات بطبيعة الحال لسببين؛ ذلك ان هذه الاعياد لم تدخل في قاموسي بعد؛ ولأنني كنت مدعوة إلى عشاء الشكر، من قبل بعض الأصدقاء، من جيران الحي الذي أقطنه.
الأفكار تتزاحم في راسي وتتكاثف كتلك الغيوم التي المحها من النافذة والتي تخبرني بانه لا مجال للنزهات اليوم..
عقلي مشغول باللقاء الحواري الذي سأجريه مع الروائي السوداني، أمير تاج السر وأبطال رواياته يتقافزون في مخليتي بأسمائهم الغريبة وتصرفاتهم الأغرب. هذا اللقاء الشهري الذي واظبت على الالتزام به مع زملائي في نادي “قاف” عبر الزوم بعد مغادرتي لمديىنتي طرابلس في لبنان، منذ ما يقارب السنتين.
وحيث لا مجال للرحلات أو حتى النزهات اليوم، فقد سمحت لخيالي بالسفر عبر الزمان، وعبر المكان برحلةٍ؛ عبرت خلالها المحيط الاطلسي باتجاه القارة العجوز. والتي رافقني حلم السفر اليها سنوات عديدة. وكانت تقف دون تحقيقه ظروف كثيرة كان أبرزها الحرب الأهلية التي عصفت بلبنان مدة من الزمن. وبقينا ندفع ثمنها سنوات عديدة بعد انطفائها.
رحلتي الأولى إلى أوروبا نفذتها في الشهر الأخير من صيف العام 2017 . وكانت رحلة طويلة بلغت حدود الشهر، زرت فيها النمسا والمانيا وهنغاريا.
غادرت مدينة فيينا بعدما أمضيت فيها اسبوعا كاملاً في ضيافة أخي المقيم هناك منذ ما يزيد عن ثلاثين سنة. في بداية الاسبوع الثاني من شهر اّب. حطت بي الطائرة في مطار هامبورغ، في المدينة الالمانية البحرية الشمالية الاقرب الى مدينة لوبيك. والتي كانت وجهتي التي سأقصدها لزيارة ابني الأصغر، الحارث حيث كان يدرس الطب هناك.
استقلينا القطار الى لوبيك مساءً. بعد ان أمضيت ذلك النهار في هامبورغ وتعرفت على بعض معالمها الاشهر ومن ضمنها كانت زيارة مرفئها الذي يعد من اهم المرافئ على بحر الشمال. حيث قمنا بنزهة بحرية جميلة على متن أحد المراكب السياحية.
اقامتي في لوبيك استمرت لمدة تقل عن الأسبوعين، كنت سأعود بعدها لقضاء بقية الإجازة في مدينة فيينا كما كان مرسوماً في برنامج رحلتي إلى أوروبا ذلك الصيف. أما بخصوص برنامج الرحلة داخل ألمانيا فقد تركت موضوع ترتيبه معلقاً إلى ما بعد وصولي الى هناك. لأنني حصلت على وعد من الحارث بزيارة الدانمرك بواسطة القطار السريع؛ باعتبارها البلد الأوروبي الأقرب الى حدود المانيا الشمالية. أمضيت عدة أيام في لوبيك، المدينة، التي تم الاجماع على انها من أجمل المدن الألمانية. تعرفت في خلال هذه المدة على أشهر معالمها السياحية المعروفة وقلعتها الشهيرة “هولستنتر” و”هولستين” التي كانت تعتبر البوابة الرئيسية لمدينة لوبيك. والتي تعتبر اليوم أحد مواقع اليونيسكو للتراث العالمي في ألمانيا. كما قمنا بنزهات مائية على متن احد القوارب السياحية الموجودة بكثرة في المجاري المائية الممتدة من بحر البلطيق والتي حولت المدينة الى شبه جزيرة. ولم أنس تناول فطيرة اللوز “ال مارسيبان” التي تشتهر بها لوبيك دون المدن الألمانية كافة.
في الأيام الاولى من إقامتي في لوبيك، كنت أحياناً أرافق ابني صباحا الى مبنى الجامعة ليتمكن من إنهاء بعض الأمور العالقة، أو الحصول على بعض الاوراق الرسمية . باعتبار ان الدروس كانت متوقفة طبعاً بسبب حلول العطلة الصيفية. أما بعد الظهر فكان مخصصاً للقيام بنزهات صغيرة داخل المدينة. او الذهاب لممارسة السباحة في أحد الأحواض الداخلية، الموجودة في المدينة. أما أهم صورة حملتها معي من تلك الجامعة في ذاكرتي، وفي هاتفي النقال أيضا. فكانت تلك الأعداد الكبيرة من الدراجات الهوائية المتوقفة في باحة الجامعة ، وقد لفت نظري وجودها الكثيف في هذا الصرح العمراني؛ عنيت مبنى كلية الطب والذي يضم عددا من مختبرات وقاعات محاضرات ومبانٍ ادارية للموظفين. وقد زادت دهشتي أكثر عندما عرفت أن هذه الدراجات الهوائية تخص جميع رواد الجامعة دون أي استثناء، ابتداء من العميد، وصولا الى اصغر طالب في السنة الأولى. وطبعاً مرورا بالموظفين الإداريين، إلى أبسط عامل نظافة. لم يكن ثمة سيارة واحدة متوقفة هناك…
هذا المنظر كان كفيلاً بتحريك ذاكرتي للسؤال؛ هل أنا فعلاً في أهم بلد أوروبي مصنع ومورد للسيارات؟
هل انا في بلد منشأ المارسيدس، والأوبل، والفولسفاغن التي غزت الأسواق العالمية وما تزال العلامة الفارقة في صناعة السيارات عالمياً؟
لم تطل حيرتنا في رسم برنامج الرحلة لما تبقى لي من ايام الإقامة في ألمانيا . سرعان ما أقنعت الحارث بالإقلاع عن زيارة الدانمرك. نحن في المانيا فلماذا لا نتعرف اليها ونزور معالمها الاقرب والاشهر! لماذا لا نزور برلين، المدينة الألمانية العريقة، التي كانت شاهداً ومسرحا لأعتى حربيين، عالميتين جرتا في القرن العشرين.؟ . وبخاصة أن الحرب العالمية الثانية تركت في نفس الشعب الألماني ذكريات من الحقد والحزن لا تنسى… سيما بعدما تقاسم الحلفاء أرضها وقسموها الى دولتين متناحرتين. وقد توج هذا التقسيم ببناء السور الذي قطع أوصال المدينة العريقة وقسمها الى “برلينين” شرقية، وغربية.
إلى برلين إذن!
كان لا بد من جلسة خاصة للاستعانة بمرشدنا السياحي غوغل!
سنبحث خلاله عن تأمين بطاقات السفر والعودة في القطار. سنبحث عن فندق مناسب وسط البلد يمكننا من التحرك بحرية دون اللجوء لاستخدام وسائط النقل. ويكون في نفس الوقت بسعر مناسب لا يثقل ميزانية الرحلة التي ما زالت في أولها.
صباح الاثنين، بداية الاسبوع الثاني، من وصولي الى المانيا، كان موعدنا مع مدينة برلين. غادرنا الشقة باكرا جداُ لنصل الى محطة القطارات، بحسب الموعد. وكان يجب أن نستقل وسيلة نقل عامة لتقلنا مع امتعتنا الشخصية الى هناك.
في الموعد المحدد انطلق القطار باتجاه برلين، وقد كنت على علم مسبق بعدد الساعات التي سيستهلكها لقطع المسافة بين المدينتين. والتي كانت بحدود الأربع ساعات تقريباً… وهي مدة غير قصيرة في عمر الزمن. هذه الساعات الأربع كانت كفيلة أن تنقلني من لبنان إلى دبي. حيث كنت أمضي هذه الساعات في القراءة، دون توقف.
بخلاف ما تعودت لم أجعل الكتاب رفيق رحلتي في القطار. الطقس جميل، والنهار ما زال في اوله. وسيكون لي الوقت الكافي لأسرّح نظري، والتمتع بمشاهدة طبيعة المانيا الجميلة، وحقولها الخضراء التي كثيرا ما سمعت عنها. عبر نافذة القطار والذي كان يقطع المسافة بسرعة مقبولة كنت الحظ مساحاتٍ خضراء مترامية بعضها مزروع بالذرة، وبعضها الأّخر بنبات دوار الشمس. وكنا أحيانا نمر بالقرب من بعض الغابات الخضراء التي تعتبر هزيلة مقارنة بغابات الولايات المتحدة، وبخاصة غابات الولايات الشمالية منها. أما الجبال فلم الحظ وجود جبال كجبال لبنان الشاهقة.
كل المناظر الطبيعية التي مررنا بها كانت شبه مألوفة في نظري. سوى بعض الأعمدة الفائقة الارتفاع، والتي تحمل في رؤوسها مرواح ضخمة ثلاثية الشفرات تدور بفعل الرياح. والتي عرفت انها تستخدم لتوليد الطاقة الكهربائية ! هذا المنظر كان باعثا لإحساس مزدوج لديّ؛ الأول كان إحساساً بالمرارة اننا ما زلنا في لبنان، وفي القرن الواحد والعشرين ما زلنا نعيش على التقنين الكهربائي بسبب نقص في الطاقة منذ ما يزيد عن أربعين سنة. اما الثاني فكان الإنحناء والتقدير أمام شعب يولد الكهرباء ويخزنها كفائض احتياطي. كما يصنّع السيارات الفاخرة، ويصدّرها. في حين يستعمل الدراجة الهوائية في تنقلاته اليومية ليحافظ على مصادر الطاقة في بلده، ويحمي بيئته من التلوث وليمنع الازدحام ، والمشاكل الاخرى الناتجة عن وجود السيارات بأعداد كبيرة في المدن.
حوالي الواحدة ظهرا كنا في ساحة برلين. قصدنا الفندق وبعد استراحة قصيرة عدنا مجددا للاستفادة من كل دقيقة من الوقت المتبقي في ذلك اليوم…
برنامج اليوم الأول كان مخصصاً للتنزه في وسط المدينة والتفرج على ساحتها العامة التي يستوطنها الحمام بكثافة حيث يعلو مجسم ضخم بأعمدة مرتفعة تحاكي في شكلها عن بعد أعمدة هياكل قلعة بعلبك في لبنان. تلك كانت “بوابة براندنبرغ” والتي يعود بناؤها لأكثر من مئتي سنة، والتي تعد أحد رموز مدينة برلين.
فترة بعد الظهر خصصناها للتجول في شوارع المدينة وساحاتها العامة. كانت نزهتنا أقرب الى التسكع اللذيذ، الذي تحركه رغبة شديدة في التعرف إلى أي شيء وكل شيء فيها. أحياناً كانت تستوقفنا بعض الفرق الفنية التي يعزف افرادها ويغنون فيتحلق حولهم هواة هذا الفن الجميل يشاركونهم فرحهم وشغفهم. وربما ساهم البعض بوضع بعض القطع النقدية تقديراً لموهبتهم وفنهم الأصيل، الذي يقدمونه لإدخال السرور والبهجة في نفوس الناس دون أي مقابل.
ظاهرة حضارية لفتت انتباهي أيضاً في برلين لم ألحظها في المدينتين الألمانيتين اللتين زرتهما من قبل؛ وهي وجود عدد لا يستهان به من المهاجرين، الذين يتحدثون لغتهم الأصلية. فانت تستطع أن تسمع لغات ولهجات متعددة حيثما اتجهت؛ منها التركية والروسية والرومانية والعربية. وقد زاد عدد المهاجرين العرب أضعافاً بعد الأزمة السورية وتمكن الوافدون من سوريا من الانخراط سريعا في المجتمع البرليني وسرعان ما نقلوا الى هناك خبراتهم المتنوعة في فنون الطبخ. وفتحوا المطاعم الصغيرة، التي تقدم الكبة الحلبية والفلافل والحمص بالطحينة. اضافة الى انواع متعددة من الحلويات العربية والشامية.
قرابة العاشرة مساءً عدنا إلى الفندق، لنستريح من عناء ذلك اليوم الطويل، واستعدادا لتنفيذ البرنامج الحافل الذي رسمناه للغد.
صباح الثلاثاء غادرنا الفندق باكرا وقصدنا أحد المطاعم الصغيرة تلبية لرغبة ابني الذي أصرّ على أن أتناول فطورا المانياً صرفا. وأمتنع عن تحيزي الدائم للمطبخ اللبناني.
بدأ تنفيذ البرنامج بزيارة لكاتدرائية برلين، وهي كنيسة كبيرة جداً مبنية على الطراز العمراني الروماني، بوابتها الرئيسية محاطة بأعمدة دائرية ضخمة ومرتفعة تطل على ساحة كبيرة جدا يقصدها الناس للاستراحة على مقاعدها الحجرية المنتشرة في كل مكان.
جولتنا داخل الكنيسة استغرقت حوالي الساعة . قصدنا بعدها ساحة مبنى البرلمان ذلك الصرح العمراني العريق. تجولنا قليلا في الساحة الكبيرة التي تحيط به، ثم غادرنا المكان بعد أن أخذنا بعض الصور التذكارية هناك.
كان من حسن حظنا أن أغلب الأماكن التي كنا نقصدها متقاربة، ويمكن أن نصل اليها مشيا علي الاقدام؛ وذلك كان يعطينا فرصة اكبر للتنزه والتعرف الى المدينة بشكل أفضل.
محطتنا الثانية كانت زيارة النصب التذكاري للمحرقة، او ما يعرف “بالهولوكست” وهي عبارة عن اعداد ضخمة من الأضرحة السوداء المستطيلة الشكل، والتي بنيت بطريقة خاصة جداً لتترك انطباعاً راسخاً عند الزائرين بفظاعة وهول ما حدث. هذا الحدث الذي اصبح في المرحلة التي تلت الحرب، موضوع جدل ونقاش حول دقة وصحة المعلومات التي تناقلتها الصحف اّنذاك ونشرت بشأنها عشرات الكتب بين مؤيد ومعارض.
كان لا بد من استراحة غداء قبل الذهاب لزيارة السور، ذلك السور الذي صار رمزاً بالطبع لأنه ازيل منذ ما يقرب من الثلاثين سنة. ذلك الجدار الذي لقي حتفه مئات من الشعب الألماني وهم يتلسقونه للالتحاق بذويهم وأصدقائهم بعد أن تم ال فصل بينهم بسبب بناء ذلك الجدار. قد تكون رؤية هكذا معلم بالنسبة لسائح أو زائر مثلي ولمئات الأشخاص الذين كانوا متواجدين هناك؛ يتمشون حول السور أو على الأقل ما بقي منه وهو عبارة جدار حديدي يرتفع لحوالي ثلاثة أمتار ويمتد بطول أقل من عشرة أمتار. نعم قد يكون ذلك مجرد صورة ورمز يشير الى حقبة معينة من الزمن فرضتها النزاعات والحروب ولكن الشعور سيكون مختلفا مقارنة بشعور أي انسان عاش المرحلة وعانى التجربة.
كان النهار يقترب من نهايته عندما عدنا الى الساحة العامة وطلبنا طعاما صينيا من أحد الأكشاك المنتشرة هناك وجلسنا الى احدى الطاولات ونحن نراقب الشمس وهي تأفل وراء اعلى برج قريب من الساحة، كان ذلك برج الاذاعة والتلفزيون الخاص بمدينة برلين.
صباح الأربعاء كان علينا ان نخلي امتعتنا من الفندق . وكذلك كان علينا ان نحسب الساعات المتبقية لنا في تلك المدينة قبل العودة مجددا الى محطة القطارات لنأخذ القطار العائد الى لوبيك.
طبعا اخترنا ان يكون موعد العودة في المساء حتى لا نضيع على أنفسنا فرصة الاستفادة من ساعات النهار المتبقية لنا في برلين.
كان قد بقي علينا من برنامج الرحلة المقرر زيارة قوس النصر، والذي كان يبعد نسبيا عن ساحة برلين العامة. لذلك كان من المفروض ان نأخذ القطار للوصول إلى هناك. يعتبر قوس النصر أحد المعالم السياحية المهمة في برلين وهو يرمز إلى توحيد ألمانيا بقيادة بروسيا بعد انتصارها على فرنسا في العام؛ 1870.
مع نهاية النهار ودعنا برلين متجهين الى محطة القطرات واخذنا القطار المتجه الى لوبيك التي وصلناها بحدود العاشرة ليلاً.