لظى التّشظّي في قصيدة "ماذا لو.." للشّاعرة سعاد العتابي قراءة الأستاذة / زهرة خصخوصي
سعاد العتابي
لظى التّشظّي في قصيدة "ماذا لو.." للشّاعرة سعاد العتابي
قراءة الأستاذة / زهرة خصخوصي
___________________________
القصيدة:
_________
ماذا لو؟
كانا أبناء غيمة؟
قطرتان
يرقصان سويا
في فضاء الفرح
يلتصقان قطرة
ثم يعودان.. يتمازحان
مع أعشاش العصافير .. نغما
مع النهر المنتظر.. عذوبتهما
مع الأشجار..
يكتبان اسميهما ويمضيان
نحو مراعي ترتوي من ساعديهما
ويلتقيان في ثرى العشاق
قطرة
لاتُفَكُّ دون إذن من كليهما ..
ماذا لو...؟
____________
القراءة:
____
منذ لهج اللّسان العربي بالقول تصدّر الشّعر رأس المجلس فيه فتبوّأ الشّعراء المنزلة الرّفيعة إلى درجة أنّ قبائل العرب كانت تهُبّ لتهنئة بعضها لمولد فرس أو نبوغ شاعرفيهم . فالفرس رمز الحروب وانتصاراتها وفحولة السّيف في أيدي رجالاتها ، والشّاعر نبراس الفصاحة وامتلاك زمام ألق الحرف والإيقاع والصّورة الحبلى بمشاعر الفرد وهواجسه وأحلامه المنبجسة من ذات الجماعة/القبيلة ممتدّة من منهل قيمها وعاداتها وتقاليدها وأحداثها ، ناطقة بهمومها ومشاغلها وأفراحها وآمالها...
ولئن تغيّر شكل القصيدة العربيّة وتفكّكت عُمُد البيت فيها إلّا أنّ الأسس المضمونيّة ظلّت تدور في نفس تلك المدارات الأولى وإن بوجوه مغايرة ولبوس مختلف . فظلّ الشّاعر يطوّع القصيد لرسم ذات الفرد والجماعة في مختلف أبعادها الوجدانيّة والفكريّة والعلائقيّة والعمليّة ...
ولعلّ الشّاعرة سعاد العتابي واحدة من أبرز شعراء العصر الرّاهن النّاهجين ذات المنهج آنف الذّكر ، الرّاسمين دروب الأمس ودروب الغد بالحرف والإيقاع..
أتناول في مبحثي هذا قصيدة للشّاعرة سعاد العتابي تحمل عنوان :"ماذا لو ؟". وهي قصيدة على قصرها النّسبيّ (تتألّف من ستّة عشر سطرا) تزخر بشتّى المقوّمات الفنّيّة التي توسّلت بها الشّاعرة لتبليغ أفكارها وامتطت صهوتها توقا لإدراك ذروة رسم صورة التّلظّي بحرقة التّشظّي الفكريّ والمذهبيّ والطّائفيّ والدّينيّ والعرقيّ و..التي يكابدها الوطن الإنسانيّ عموما والوطن العربيّ خصوصا والوطن العراقيّ، وريد شاعرتنا ونبضها والدّم الدّافق في شرايينها ، بصفة أخصّ . فكيف تفنّنت شاعرتنا في تشكيل هذه الصّورة ورسمها ؟
إنّ الواقف على قصيدة "ماذا لو..؟" للشّاعرة العراقيّة سعاد العتابي يقف على دعامتين مثّلتا أسّ رسم الصّورة فيها وهما المعاجم والإيقاع.
1 المعاجم:
____________
منذ عتبة القصيدة الأولى يواجهنا معجم التّمنّي (والتّمنّي هو طلب تحقق المستحيل). وقد تمظهر لنا ذلك من خلال جمع الشّاعرة بين حرف الشّرط الدّال على الاحتمال "لو" مع النّاسخ الحرفي "كان" المصرّف في صيغة الماضي ، هذا الجمع الذي يدلّ نحويّا على استحالة تحقّق الحدث لطلب تحقّقه على هيئة مخالفة لما تمّ تحقّقه عليها في ذات الزّمن.
والشّاعرة ترزح تحت كلكل تشظّي الإخوة في الوطن الواحد والقطر الواحد والكوكب الواحد إلى كتل مذهبيّة وطائفيّة وحزبيّة سياسيّة، تتمنّى لو كان أمرهم خلاف ذلك : اتّحاد قطرتين في قطرة واحدة "يلتصقان قطرة" ،لتجعل الإمكان الوحيد لنجاعة الوجود كامنا في هذا الاتّحاد حيث تُسند الشّاعرة الأفعال لكليهما (يرقصان/يلتصقان/يعودان/ يتمازجان/يكتبان/يمضيان/يلتقيان )يتشاركان القيام بها ومعا يحقّقان نفع الوطن "ثرى العشّاق" ويلتقيان فيه قطرة واحدة تنبجس من ذات الغيمة ..ثمّ تختم قصيدتها بحرف الشّرط ذاته الدّالّ على الاحتمال لكنّها تحرمنا من ذكر الفعل المتعلّق به حتّى تتركنا منفتحين على أكثر من فرضيّة وأكثر من احتمال وأكثر من إمكان مستقبل قادم محاكية بذلك أفق الواقع الذي نعيشه..
وقد توسّلت في رسم روعة الصّورة المتمنّاة للحياة الجماعيّة بمعجم الماء ناهلة من قوله تعالى" وجعلنا من الماء كلّ شيء حيّا"مذكّرة وهي تنتقي الغيمة دون سواها من مفردات هذا المعجم (البحر/النّهر/العيون/ الآبار/الجدول/السّاقية..)بأنّ أصل الماء غيمة في السّماء (قال تعالى في سورة الواقعة:"أفرأيتم الماء الذي تشربون(68)أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون(69) ).فالغيمة أمّ الحياة/الماء ، منها يتناثر المطر قطرا ليلتقي على أديم الأرض سيلا يروي الظّمأ ويبعث الحياة ويُلين الحجر ويجرف أتربة تطفّلت على هامات الجبال تروم تشويه وجوهها وإثقال كاهلها بما ليس منها طمسا لهويّتها وقذفا بها في لجج الاغتراب الذّاتي..
وكما الماء يكتسب قوّة وجوده وفاعليّته من اجتماع القطرات المتناثرة وتمازجها ترى الشّاعرة في أمنيتها المرتسمة في القصيدة ذي، التّآلف والاتّفاق والتّمازج والتّآزر شرطا لنجاح الجماعة في نحت الوجود وذبّ المتطفّلين على حرمة الذّات واستقلاليّتها وحماية هامات الوطن وبواسقه من كلّ تشويه للهويّة أو مدعاة للاغتراب...
كما نجد شاعرتنا الألقة سعاد العتابي في قصيدتها هذه "ماذا لو..؟" قد وظّفت معجم التّآلف و معجم الفرح ومعجم الطّبيعة ومعجم الإرادة في مسار احتفالها برسم تلك الصّورة المتمنّاة للعيش معا في وطن تمتدّ كلّ السّواعد لبنائه وحمايته وإعلاء رايته الأبيّة إغراء لتلك الأطياف المتفرّقة والجماعات المختلفة والكتل المتصارعة على وطن ما أحوجه إلى وفاق واتّفاق..
فحضر معجم التّآلف من خلال إسناد الأفعال إلى ضمير المثنّى تشريكا للطّرفين المختلفين المتباعدين المتنازعين في القيام بذات الحركة كهيئة وجود في الحياة وفي الوطن تراها الشّاعرة الهيئة الأمثل لإثبات الوجود الفاعل النّافع في الوطن خاصّة والكون عامّة ، فنجدها في القصيدة تقول:"يرقصان/يلتصقان/ يعودان/ يتمازجان/ يكتبان/ يمضيان/يلتقيان "، أفعال يتشارك الطّرفان في آدائها حتّى يدركا "مراعي ترتوي من ساعديهما " وما تلك المراعي سوى مجالات الفعل البشري في الحياة والفعل المواطنيّ في الوطن، وكم تنتظر الأوطان منّا شدّ السّاعد على السّاعد حتّى تمسي بناء مرصوصا لا يتهاوى وسدّا منيعا لا يُخترق حماه ، وهو الحلم الذي لا يتحقّق إلّا بتآلف شرائح المجتمع مهما اختلفت توجّهاتهم وتعدّدت مشاربها متذكّرين أنّهم من رحم الوطن الواحد انبجسوا وبدون كيان واحد يكونونه لا معنى لوجودهم ولا قيمة لوطن يتطاحنون فوقه توقا للظّفر به وهم لا يعلمون أنّهم بذلك يذرونه مزقا وشتاتا..
ولعلّ شاعرتنا وهي تتلظّى بهذا التّشظّي تستنفر معجمي الفرح والطّبيعة توقا إلى مزيد الإغراء بهذا التّآلف المتمنّى وهي تصوّره بعضا من قطع الفردوس على الأرض ، فنراها تستدعي في قصيدتها المفردات التّالية: يرقصان/الفرح/ نغما/ العشّاق/ أعشاش العصافير/ النّهر/ الأشجار ، ناهلة من الشّعر الرّومنطيقي أسّ رسم جمال الحياة وبهجتها ورقّة الرّوح وعذوبتها وألق الرّبيع وخصوبته ، وهي تشير إلى قارئها الكامن في قصيدتها ، الدّافع إلى لحظة كتابتها ، هذا الذي يرى الأفق بعين مغمضة عن سواه ، تزيّن له عالما تدعوه إليه أساسه شراكة ومشاركة وجدرانه فرح وجمال وخلق وظفروألق ، ثمّ تمضي إلى رسم سقفه فنجدها تتغنّى قائلة:
ويلتقيان في ثرى العشّاق
قطرة
لا تُفكّ دون إذن من كليهما
مقطع شعريّ تختم به رسم الصّورة المتمنّاة لمجتمعات وشعوب تفرّقت وتشتّتت وأوطان تشظّت لجنون النّعرات المختلفة ، تصوّر فيه الفوز بالإرادة الذّاتيّة في أجلّ مظاهرها وأسماها ، إرادة لاتخضع لمشيئة غريب عنها ولا يحدّد الآخر مصيرها ، وفي هذا إشارة إلى الأيادي المتوارية خلف تلك التّشظّيات ، مطيّتها الاختلافات الفكريّة والمذهبيّة والدّينيّة وغايتها دمار شعب وانهيار حضارة وخراب وطن يضحي لها(الأيادي الخفيّة الخارجيّة المعادية المتربّصة) أبراجا تعتليها كأنّها البوم..والشّاعرة ترسم سقف بناء هذه الصّورة المتمنّاة لا تترك للقارئ والسّامع في آن غير خيار التّآلف والوحدة ورتق مزق التّشظّي الذي أثخنت به الخلافات جسد الوطن وروحه..
ثمّ تفتح الشّاعرة في غنائيّة المتمنّى هذه بوّابة أمل وهي تختم قصيدتها قائلة :"ماذا لو..؟" ، سؤال يحضر فيه حرف الشّرط الدّال على الاحتمال(لو) دون فعل متعلّق به وكأنّنا بالشّاعرة تقول:"لكم بعد ما قلتُ كلّ الخيارالإراديّ لتحديد الفعل .." مومئة إلى أمل لا ينضب منهله في صحوة ضمير وطنيّ واستيقاظ نخوة تدفع الرّوح مَهرا لحمى الوطن وعزّته ..
رغم بذخ المعاجم التي امتطت الشّاعرة سعاد العتابي صهوتها لبناء غنائيّة هذا المتمنّى الحلم الذي يسكننا جميعا إلّا أنّها ما اكتفت بها مطيّة لإدراك غايتها المنشودة بل توجّهت إلى الإيقاع معاضدا قويّا لها في التّأثير صوتا ودلالة..
2- الإيقاع :
________
على المستوى البصريّ للقصيدة نلاحظ بناء متناميا للأسطر تصاعديّا فيكبر حجم الأسطر والشّاعرة تتغنّى بمشهد التّآلف المتمنّى حيث نجد الشّكل التّالي:
قطرتان
يرقصان سويّا
في فضاء الفرح
يلتصقان قطرة
ثمّ يعودان..يتمازجان
مع أعشاش العصافير..نغما
مع النّهر المنتظر..عذوبتهما
مع الأشجار..
يكتبان اسميهما ويمضيان
نحو مراعي ترتوي من ساعديهما
ويلتقيان في ثرى العشّاق
قطرة
لا تُفكّ دون إذن من كليهما
تمتدّ مساحة الحلم في روح الشّاعرة فتمتدّ الكلمات عبر الأسطر محاكية بذلك إيقاع الرّوح راسمة للقارئ بهجة المرتجى أو المتمنّى حرفا وصورة ممتدّة بصريّا..
كما انبنت القصيدة على المدّ في أغلب نهايات الأسطر(سويّا/ نغما/ عذوبتهما/ ساعديهما/ كليهما)..هذا المدّ يخلق إيقاعا طويلا ونغما مسترسلا يصوّر انتشاء الشّاعرة وهي تتغنّى بالحلم ويتوق إلى إحداث العدوى بذلك الانتشاء في المتلقّي فيَيسَر قبول الفكرة المطروحة وتنفتح آفاق تحقّق الحلم ، إيقاع وظّفته شاعرتنا المبدعة في الرّسم بالكلمات والحركات ليتماهى مع موضوع القصيدة ويعاضده في تبليغ مقاصد الشّاعرة عسى المتلقّي يتلقّف الرّسالة ويدرك جلالتها..
ويتجلّى لنا في قصيدة "ماذا لو..؟" هذه إيقاع داخليّ تمثّل في تكرار المقطع (-ان)في آخر المفردة ثماني مرّات(قطرتان/يرقصان/ يلتصقان/يتمازجان/ يعودان/ يكتبان/ يمضيان/ يلتقيان) وهذا المقطع قرين الرّقم " اثنان" وهو في حال رفع(لا نصب ولا جرّ)وكأنّنا بالشّاعرة تؤكّد وهي تنتقي هذا الإيقاع في غنائيّتها هذه أنّ الرّفعة والعزّة والرّقيّ والشّموخ و..هي الصّفة القاعدة في هذا الوطن، العراق الأبيّ، وأنّ الوضع الرّاهن علّة وقتيّة ظرفيّة زائلة..وهي بذلك تذكّر بتاريخ هذا الوطن وحضارته مخلخلة ركام النّسيان أو التّناسي التي حجب بها التّشظّي الطّائفي والمذهبي والفكري الحقيقة عن عقول أصحابه فما أدركوا هول جنايتهم على الوطن الأبيّ..
وتوغل الشّاعرة المسكونة بعشق وطن يسري في الوريد سريان الدّم والرّوح، في زعزعة أركان هذا الوهن السّائد فتعمد في قصيدتها هذه إلى تكرار أحرف بذاتها تخلق في غنائيّتها الغنّة والتّرنيمة. وهذه الحروف هي الرّاء(12مرة) والميم(18مرة) والنّون(17مرة) والتّاء(12مرة).ولعلّي وأنا أضيف إلى هذه الحروف حركة المدّ التي بيّنت مساهمتها في إيقاع القصيدة سابقا فإنّي أكوّن كلمة "رمّانة" وعليها أبني أطروحة انطلقت منها شاعرتنا لنظم غنائيّتها هذه وهي" إنّ الوطن رمّانة ونحن حبّاتها . فإن تشظّت الرّمّانة وتناثرت حبّاتها ماعاد لها قيمة ولا وجود.." أطروحة حاولت الشّاعرة وهي تنسج غنائيّتها التي تترنّم بفرح تأمل وجوده وتتمنّاه ناطقة بألسنتنا كاشفة أمانينا..
خاتمة:
نقرأ قصيدة "ماذا لو..؟" للشّاعرة العراقيّة المبدعة سعاد العتابي فنراها للوهلة الأولى قصيدة تحسّر على ما لم يكنه عاشقان وتمنّي أن "ما أعذب لوكان.." .لكنّنا ما إن نتوقّف عند عتباتها سائلين بعضا ممّا تُخبئ في جنباتها من درر حتّى تفتح لنا بوّابات البوح وتوسع لنا مكانا في صدر مجلس قراءتها وتتدانى منّا رطبُ واحات مقاصدها فكأنّنا هناك في رحب واحات عراقنا الأبيّ وقرى مجالسه الكريمة وطيبة سرائر أهله..قصيدة صوّرت تلظّيا بتشظّي الوطن بين نزعات تتنوّع وتختلف والكلّ فيها يرى أنّه الصّواب الأجدر بحضن الوطن، في غنائيّة الاحتفاء بالحلم والتّمنّي والانفتاح على أفق يزخر بالأمل في غد أفضل ووطن أأمن وفكر أرقى..
قد لا أبالغ إذ أصف هذه القصيدة بالملحمة وإنّي أراها كذلك..فسلمت قريحة شاعرتنا سعاد العتابي ودام دفقها المائز ولا نضب المداد..