×

اضغط هنا إن لم يقم المتصفح بتحويلك آليًا.

Lama Hadid ‏ البطل وأيديولوجيا الرجولة في أدب حنا مينه

Lama Hadid ‏   البطل وأيديولوجيا الرجولة في أدب حنا مينه
 Lama Hadid

image

البطل وأيديولوجيا الرجولة في أدب حنا مينه
من المعروف أن الشخصية الأولى أو الرئيسة هي المعبّر عنها بشخصية «البطل»، .وهكذا فالرواية تولي شخصية ما عنايتها الكبرى، فتكون محور الصراع الذي هو أساس بناء الرواية والذي قد يكون ضد طبقة ما كما في «الشمس في يوم غائم»، أو ضد عوامل الطبيعة كما في «الشراع والعاصفة»، أو ضد الذات نفسها كما في «مأساة ديميتريو».

ويشير النقاد إلى أن البطولة تتراوح بين الفرد والجماعة، فالبطل الفرد «زكريا» في «الياطر»، أما البطل الجماعي الذي يعكس تطور الوعي الاجتماعي وصراع البطولة الجماعية في مواجهة الاستلاب والمأساة التي يعيشها فيظهر في رواية «المصابيح الزرق».

ويصنف الدارسون البطل بوجهين: البطل الإيجابي والبطل السلبي. يقول الدكتور محمد الباردي: «إن البطل الروائي في أعمال حنا مينه هو بطل واقعي مهمته الأساسية الاحتجاج على الواقع ونقده. ويستطيع البطل الإيجابي دائماً تجاوز العراقيل وإيجاد فرصة الانسجام مع محيطه الاجتماعي في نضاله ضد عدو يهدد مجموعته، وهكذا فالخطر الخارجي الذي يهدد العالم الاجتماعي الذي يعيش فيه البطل يدعوه إلى الانسجام مع وسطه الاجتماعي وبيئته في الروايات ذوات البطل الإيجابي؛ ويدعوه كذلك إلى أن يحمل وعي مجموعته. في حين يجد البطل الإشكالي نفسه غير قادر على تجاوز العراقيل الشخصية أو تلك التي تضعها المجموعة، رغم نواياه الطيبة ورغبته في الحركة والفعل.

والبطل في الروايات ذوات الشخصية الإشكالية، يجد نفسه وحيداً في مواجهة عالمه، وهو إذ يبدو متشبّعاً بوعي اجتماعي في عالمٍ لا يواجه الخطر الخارجي مباشرة، فإنه يشعر بصعوبة صقل شخصيته وبلورتها».

وبدوره، يصنف الناقد جورج طرابيشي أبطال حنا مينه من الناحية التحليلية النفسية، فيقول: «أبطال حنا مينه سواء احتلوا مكانهم في هذا الجانب أو ذاك من جبل الوجود، فإنهم لا يفهمون أنفسهم، ولا العلاقات فيما بينهم بمفردات التحليل النفسي أو غيرها، فهم -أكثرهم على أية حال- أشخاص من لحم ودم، وهم من ثم لا يعقلون أنفسهم إلا بلغة اللحم والدم: الرجولة والأنوثة. والقاسم المشترك بينهم هذه المرة، أنهم لا يكرهون شيئاً كما يكرهون الموقف السلبي أو المؤنث إزاء الرجال الآخرين، فهم إما رجال وأكثر من رجال، وإما مناضلون في سبيل أن يكونوا رجالاً.

والبعض منهم يفسرون نقص كينونتهم على أنه "أنوثة"، فلن يكون عندهم من تفسير للرجولة إلا على أنها وجوب كينونة، ومن هنا كان شعار وجودهم: التشدد الأخلاقي في معاملة الذات وصولاً إلى الشهادة.

أما في الموقف من البعض الآخر، فإنهم يفسرون فيض كينونتهم على أنه "رجولة"، فليست الرجولة إذن مجرد مسألة تشريح. والإنسان لا يُخلَق رجلاً، بل يصير رجلاً. وحتى إن خُلِقَ رجلاً فلن تكون حياته إلا نضالاً دائباً في سبيل أن يبقى كذلك، ولا رجولة بلا دليل على الرجولة».

ففي رواية «الشمس في يوم غائم» يروي الخياط هذه القصة: «دخل القائد الفارس مجلسه فغض الحاضرون أبصارهم. كان فارساً شجاعاً قاد رجاله عبر السهوب والجبال، وتحمّل معهم، ولأجلهم، أقسى العذابات خلاصاً من ذل السلطان. وكانت له عينان لا يقوى الناظر إليهما على الثبات. وفي المجلس عند دخول الفارس كان رجل يحدق فيه. لم ينهزم ولم يغض طرفه، وخيّم على الصيوان جو من الصمت المكهرب. ووسط الدهشة والذهول، تقدم الفارس من الرجل وصاح به: "هيا! لنتبارز! لينهزم أحدنا أو يموت". فأجابه الآخر: "لا، لا داعي لهذا، نحن من قبيلة الذكور، وفي قبيلتنا شيء اسمه صداقة الرجال. امنحني صداقة رجل لرجل، وهذا يكفي، وعندئذ لا يغض منا الطرف للآخر. منحه ما أراد: صداقة رجل لرجل، صار أحدهما ظهراً للآخر في الملمات».

هذا عن صداقة الرجال. ولكن ثمة تمظهر أساسي للرجولة يتجلى من خلال الأنوثة، وبعبارة أخرى من خلال الخبرة الجنسية معها بأصدق معانيها التي يعبر عنها حنا مينه في أعماله، ففي «الشمس في يوم غائم» يعبّر عن مفاهيم درسها التحليل النفسي كعقدة أوديب وتعلق الطفل بأمه، وعثور الأم على أمنها اللاشعوري في طفلها، وحنا مينه برهافة حسه يجسّد هذه المفاهيم ويعبّر عنها دون دراسة لعلم النفس. فهو يؤكد على مفهوم الرجولة، وأنه تجاوز ناجح لمركب الأوديب، وأن الإنسان لا يولد رجلاً بل يصير رجلاً، وفي هذه الصيرورة تأتي الخبرة الجنسية مع المرأة. فالمرأة هنا هي التي تلده رجلاً، وهذا ما يعبر عنه حنا مينه في «الشمس في يوم غائم»، عندما طرقت «امرأة القبو» باب بيتهم لتعوده ولترد إليه الخنجر الذي جرح ركبته في رقصته الرمزية، فقد صدرت أكثر ردود الفعل جذرية عن الأم نفسها. ففي حين أن باقي أهل البيت لم يروا في زيارة المومس هذه سوى «فضيحة جديدة» يرتكبها فتاهم المتمرد، انتترت الوالدة، و«وقفت كدجاجة صغيرة رأت خيال طير يمر على الأرض التي يقف عليها فراخها. لم تقوقئ خوفاً. ارتبكت وشحبت. كانت هذه أول مرة تفطن إلى أن فرخها الراقد في غرفته قد صار له دجاجة غيرها. أحست، دون أن تفقه سبباً لذلك بعداء للمرأة الغريبة. الآن فقط غادرت والدتي عالم الدجاج إلى عالم الإنسان، انقلبت أنثى أمام أنثى».

«لعلها لم تعتد بعد على فكرة أنني رجل يمارس الجنس مع إمرأة. كان خيالها يتشبث بصورتي وأنا طفل. وإذ أكون طفلاً فأنا ملكها. وفجأة ألفتني رجلاً وهي إمرأة، أم ولكن إمرأة، وتأتي امرأة أخرى، غريبة، تأخذني منها. تدنسني بجسمها، تجعل للقبلة معنى، وللجلوس في الحضن معنى، ولوجودها معي في غرفة واحدة والباب مغلق معنى، وأمي لا تدخل في دائرة هذه المعاني، لكنها مضطرة إلى الإحساس بها، ومنذ أحست بها انطوت على شعور بأنها فقدت صغيرها الذي كبر وصار رجلاً».

وليس غريباً أن نسمع حنا مينه يقول: «أحب بطلاتي إلي "امرأة القبو"، أما التي تجسد المرأة التي أريد فما زالت وهماً، أسطورة، جنية قمر، يبحث عنها "كرم" بطل روايتي "الربيع والخريف"».
وأيضاً: «بودي أن أكتب قصة أهديها إلى أول "سيئة" في دمشق، لأنها في سوئها صنعت تقدماً اجتماعياً لم يقو عليه الرجل بشرفه المزيف. إن أول امرأة دخلت المقهى أو المطعم، وأول امرأة رقصت، وغنت، وسافرت، وعادت، وكسرت طوق القهر الاجتماعي، تماماً كالمرأة التي تعلمت وعلمت، مباركة المرأة في كل حالاتها».

ولما كانت المرأة هي التي تكمّل الرجل وتحقق توازنه ومن خلالها يولد البطل، فلا غرو أن حب المرأة، يكاد يكون مالكاً قلوب أبطال حنا مينه.

ثمة تمظهر آخر للرجولة ندرسه في رواية «الشمس في يوم غائم» كمثال هذا التمظهر، يعبر عنه الناقد جورج طرابيشي فيقول: «وخاتمة هذه الرواية وإن كانت على إبهامها المقصود فهي تقول كل شيء، تقول عجز الفتى، شلله عن الفعل انفغار جرحه». الواقع أنه صورة من صور البطل الإشكالي التي درسناها آنفاً في أدب حنا مينه، ولكن الخاتمة تقول أيضاً شيئاً يعبر عنه الناقد جورج طرابيشي بقوله: «الخاتمة تتحدث أيضاً عن كراهية الفتى. والكراهية يمكن أن تكون الخطوة الأولى في رحلة الألف ميل نحو الموقف الإيجابي من العالم، أو ما يسميه الفتى بإكبار "الرجولة"، فليس بالحب وحده يحيا الإنسان، بل كذلك بالكره. وأحد منابع الجمال في رواية "الشمس في يوم غائم" أنها عرفت بتدخل من أيديولوجيا الكاتب الواعية، كيف توجه رأس حربة هذا الكره، لا نحو الأب من حيث هو أب فحسب، بل كذلك نحو الطبقة التي يمثلها هذا الأب، وهي طبقة يقارب كرهها، أن يكون واجباً يمليه حب الإنسانية».

وربما ما أراده الناقد جورج طرابيشي من تعبيره «الكراهية»، هي تلك النزعة العدوانية الكائنة في صميم الكائن الحي، والتي يتميز بها الرجل أكثر من المرأة بفعل ما تتطلبه منه الطبيعة من نضال ومقاومة وتذليل الصعاب.

وما البطولة إلا تسامٍ وتصعيد لهذه النزعة العدوانية ودعوة لتحقيق الرجولة بأعلى درجاتها.

ملخص لبعض أعماله
المصابيح الزرق
وهي الرواية الأولى التي كتبها حنا مينه سنة 1954 واستغرق في تأليفها ثلاث سنوات كاملة، وكما يذكر د. محمد الباردي أنها لم تكن رواية شخصية أو بطل، بقدر ما كانت ترمي إلى وصف مدينة اللاذقية أثناء الحرب وحياة الناس الذين كانوا يعيشون فيها. فموت البطل «فارس» بعد انخراطه في جيش الحلفاء يتناقض مع وعيه السياسي. وقد كان الكاتب مهتماً بالمأساة الاجتماعية، ولذلك ظل يبحث في هذا العمل عن مرض خطير كمرض السل ليضع حداً لحبكته.

والرواية تسعى إلى أن تكون رواية ذات بطل إيجابي. ففارس هو فعلاً شخصية متميزة، إذ تمر بتجارب فردية وجماعية تضعه على اختبار وتتويج بين الشخصيات الثانوية التي تلعب أدواراً هامة. ومع ذلك فإن الرواية تعرض حكاية بطل ومجتمع في آن واحد، ففارس صبي لم يتجاوز السادسة عشرة من عمره، كان يعيش مع أسرته في مدينة اللاذقية أثناء الحرب العالمية الثانية، ولكنه يترك الدكان الذي كان يشتغل فيه لأن صاحبه يدعى إلى الحرب فيجد نفسه يعيش فراغاً قاسياً في بيت فقير، هو في الواقع ليس إلا حجرة على يمين الباب الكبير لسكن جماعي، يلتقي فيه بعض العمال والبطّالين وبعض القرويين الذين استقروا في المدينة منذ وقت بعيد. ولكنه يدخل السجن بسبب خصومة بين الخباز وسكان الحي سرعان ما تحولت إلى معركة مع السلطات الفرنسية. وبعد تجربة السجن يعود إلى البطالة والفراغ ويحب جارته «رنده» التي تشتغل مع أمه في «الريجي» ثم يلتحق في النهاية بقوات الحلفاء وقد انسدت أمامه كل الآفاق، وعندما تنتهي الحرب يموت البطل وتموت الحبيبة. بيد أن حكاية البطل توازيها حكاية المجتمع، فسكان مدينة اللاذقية يعيشون حياة عسيرة في ظروف الحرب، إذ قل العثور على الطعام ودُهِنَت الفوانيس باللون الأزرق، ومع ذلك فقد ظل الحي الفقير يستمتع بسعادته الشعبية العادية من خلال مقهى شوقي الذي تحول إلى قاعة للقمار أو إلى حانة، ومن خلال عدد هام من الشخوص الذين يختلفون أمزجة وسلوكاً ويبرزون عبر أحداث قصيرة يومية فرضتها وضعية الحرب التي تعيش فيها مدينة اللاذقية. فأبو البطل الذي عاش متسلِّحاً بالصبر لم يجد حرجاً في مشاركة جيرانه سعادتهم رغم الظروف الصعبة- بحكاياته ومواويله. وكذلك الشأن بالنسبة إلى الأم التي تجد لذة في سرد بعض الحكايات المتعلقة بشغلها في «الريجي»، وبالنسبة إلى خادم الكنيسة الذي يقضي وقته في مغامراته النسائية، والحدّاد مكسور الذي لا ينفك يختلق الأكاذيب ليقنع مساعده البليد الحالم بالزواج. في حين ظل المختار رغم أنه الممثل الشرعي للسلطات الرسمية في المدينة، يحرّض على الإضراب ويعرّض ولده للاعتقال. وظل محمد الحلبي، رغم الحرب، لا يخفي مشاعره الوطنية ويقود الجماهير الشعبية في مظاهرات ذات بعد سياسي واجتماعي، فالدعوة إلى الاستقلال، لا تستقل عن ظروف الدعوة إلى تحسين الظروف الاجتماعية. وهكذا تخفي الاهتمامات الجماعية المشاغل الذاتية والفردية. فقد أثارت الحرب ضغينة بين سكان الحي الذين لا يعفون عن الخونة أمثال حسن حلاوة الذي سرق خبز المتساكنين، وتعاون مع الأعداء. فقد قسّمت فرنسا الوطن، وأحالت جزءاً منه إلى غرباء، وأهان الجنود سكان الحي عندما استباحوا النساء وقتلوا الرجال. ولكن الحرب انتهت بعد سنتين، فأزاح السكان اللون الأزرق عن فوانيسهم وواجهاتهم البلورية، وعاد الجنود إلى ذويهم واستعادت الحركة السياسية نشاطها ودعّمته. ولذلك تبدو الرواية قصة مجتمع يقاوم في ظلال الأضواء الزرقاء التي حتمتها الحرب.