أخبار قناة الشمس

×

اضغط هنا إن لم يقم المتصفح بتحويلك آليًا.
المخرج محمد فرحان

سامية البغدادي .. في الظلام الداج تَركُن في زَاوية غُرفتها، تحتضن نَفسها، تَبكي في الخَفاء خوفًا مِن سماع أنينها، تتحسس أثار الضرب الذي تَعرضت له بِوحشيّة، سرحت في مُخيلتها عادت إلى حيث لا تُريد، ترقرق الدمعُ في عيناها وسقط على وجنتيها كأنه حممٌ بُركا

في الظلام الداج تَركُن في زَاوية غُرفتها، تحتضن نَفسها، تَبكي في الخَفاء خوفًا مِن سماع أنينها، تتحسس أثار الضرب الذي تَعرضت له بِوحشيّة، سرحت في مُخيلتها عادت إلى حيث لا تُريد، ترقرق الدمعُ في عيناها وسقط على وجنتيها كأنه حممٌ بُركانية، دموعُ الحُزن والأسى، دموعُ القهر والذّل.
عادت هَاندا إلى ماضيها المُزهر والمَشرق قبل أن يذبل وينطفئ، بدأت مِن مرحلة عباءة جلد الذات مرورًا بطفولتها التي كانت فيها الأميرة المُدللالة، ترعرعت في قصر مليء بالمحَبة والمَودة بين سُكانه والخَدم، مرَّ أمامها عبق من شريط ذاكراتها تقافز في مخيلتها تارةً تضحك وأخرى تَبكي، إلى أن وصلت إلى ..
- ٢٠ آيار ٢٠٠٠ في بلدة كارولينا التي تَقع في ولاية "كارولاينا الشمالية" في الولايات المُتحدة
‏كانت هاندا على غير عادتها اسيقظت في الثامنة صباحًا بينما أبوها أخذ إذنًا بالتغيب عن عمله اليوم، يودُّ قضاء بعض الوقت مع زوجته وابنته فقد؛ افتقدهما حنّ إلى اللعب مع صغيرته حيث تختبأ فيجدها.. عندما تبكي جزعةً من الظلمة، عندما تعلقُ ولا تستطيع الخروج، عندما تقع فتصاب بالكدمات فيغني لها على الجرح ليشفى، تاق لتلك الأيام التي كانت كدهرٍ في ربيع مزهرٍ لكنها الآن كوردة في صحراء قاحلة تنتظر موعد ذبولها، بينما انتاب والدتها شعور غريب شعرت أن دقات قلبها غير مُنتظمة كأن شيء ما سيحدث، لكنها لم تعطي الأمر حقه وتجاهلته وتَكتمت عليه، خشية إفساد الجو الصحو وسعادة العائلة مرة أخرى، غاب قرص الشمس وكسى الارض ثوب من الظلام كان كُل شيء على مايُرام، قضت العائلة أمتع وقت كان صوت قهقهاتهم يُسمع من خارجَ القصر.
‏إلى أن حدث شيءً لم يَكُن في الحِسبان، كحرب أعلنت فجأة، كقنبلة تفجرت بغتة، دخل إلى القصر شاب طَويل القامة وسيم الوجه عيناه بنيَّتان كاللوز وشعره أسود كالفحم ڪثيف يرتدي مَلابس أنيقة باهظة الثمن، يحمل بيده مُسدسًا، انتشر الرعب وساد المكان جو من السكون والأسئلة، كيف تجاوز الحرس، من هو هذا الفتى، وقف الدم في عُروق والدها واتسعت عيناه مُحاولًا استعياب الأمر لأنه غير متوقع بتاتًا، بينما أمها لم تعد تحملاها قدماها فزعت وارتعبت كانت ترتعش كالقصبة.
هاندا تنظر باستغراب وحيرة رُسمت في محياها، واقفة كالبلهاء لا تُصدر صوت ولا أنين فقط تواصل التحديق كالبومة لذلك الشاب، جال بخاطرها الكَثير مِن الأسئلة لكِنها التزمت الصمت واكتفت بالمراقبة.
تقدم نحوها الشاب هيَ نبضاتُ قلبها تتسارع كعدّاء في ماراثون، احمرت وجنتاها احمرار شديدًا فعندما تراهما تكاد لا تفرق بينهما وبين الطمام، ترتعش أوصالها وترتعد كأنها أبصرت وحشًا أو شبحًا.
- ‏وقف أمامها بفخرٍ قائلاً: هه أنتِ الأميرة إذًا، أودّ أخباركِ شيئًا سيعجبك أنا أكرهك من قبل أن أراكِ حتى، أودّ قتلك أيتها اللعينة العاهرة لكن أعتقد أنني سأستمع بكم
نظرت هاندا إلى عيناه والدمع ينهمر كسيلٍ جارفٍ وقالت : - لم أفعل شيء لتكرهني!
ضحك بصوتٍ عالٍ تردد في أرجاء القصر قائلاً:
- أعتقد أن عائلتك السعيدة هيَ من ستخبرك بذلك، بالمُناسبة أنا أخوكِ جاك هه لم تسمعي بي من قبل صحيح!
- ‏أسئلي أباكِ المصون لديه الأجوبة المقنعة، هذا بيتي ولن أسمح لأحدٍ إخراجي مِنه لن يعجب سُكانه وأنا هذا ما أُريده حقًا..!
- ‏ركضت هاندا مُسرعة محاولة النجاة بحياتها وما أغلى الحياة يا عزيزي، لتَجد الأجوبة للأسئلة التي تجوب برأسها وبالفِعل وجدتها..!
جاك أخوها الأكبر الذي لم تسمع عنه طيلة حياتها، كمن أخبروها فجأةً بأنها حامل وهي عقيمة، كان في ريعان شَبابه قبل ولادة هاندا التي تصغره بخمسة عشر عامًا أصبح مدمنَ مُخدرات ومُجرم له صيتٌ شاسع.
ابن عاصٍ سُجن عدة مرّات لكنه تَكمن مِنَ الهَرب، تبرء مِنه والداه لعَجزهم على تَربيته والعيش معه، لم يسمعا عنه شيءً مذ ذاك الحين.
غزا القصر توتر رهيبٌ، وحالة صمتٌ مُريبة، الأم تَبكي بحرقةٍ وعلى أتم الاستعداد للكِارثة التي تكاد تحصل، الأب مَهزوم مَكسور خائر القوى لا يَعلم كيف الخلاصُ! إلا أنه متأكدٌ من قراره بالتخلص من جاك المرجوم، أما هاندا فهي حالة يُرثى، عيناها تورّمت من البكاء وعويلها صدى القصر لا تَعلم هل تُسعد بأن لها أخًا أم تحزن على حالتهم الكامدة والقلق الذي يسودها ويغشاها فجاك الشخص الوحيد السعيد، فِرحًا بنصره الساحق، متحمسٌ جدًا للذي سيفعله بالغد، كمن نصب فخًا لطيرٍ وينتظر وقوعه فيه، انسحمَ اليوم وأشرقت الشمس وصاح الديك مُعلنا بداية يومٍ جديد، الجو مبهج في البَلدة لكن القَصر شديد الكآبة
شرع جاك في تَنفيذ خُطته التي رسمها في مُخيلته منذ أشهر، ليُشفي غَليله ويثير لهب حقده المتزايد والمتراكم
خَرج فوجد أباه وأمه يقفان وهما قَلِقانِ مرتعبان مما سيحصل.
ابتسم في وجههم قائلاً: كُنت أبحث عنكما منذ مُدة ولحُسن حظي أنتما الأثنان أمامي، كضبعٍ يبحث عن فريسة فيجدها جثةً طريحة الأرض أمامه دون عناء
لم يفسح لهما المَجال لقول شيءٍ، لم يتردد أبدًا في طَعنهم مرارًا كان يَحملُ سكينًا في يده اليُسرى واليُمنى أيضًا مع كُل طَعنة يَعلو صوت ضَحكاته، كان مشهدًا مروّعًا يثير في النفس ألوانًا من الرعب والهلع، لم يشفق عليهم بتاتًا كان وكأنهما ليس من ربّياه أو أطعماه، يَحمل قلبًا رخاميًا قاسٍ كالحجر لم يَفكر في شيء، متسلحًا بشراهة الانتقام.
أضحى مَطلوبًا للعَدالة ليُعاقب على فِعلتهُ بالإعدام شنقًا لكِنه هَرب كالجرذ في المجاري، أخذ هاندا معه وكل مُبتغاه هوَ أن يُعذبها عذابًا شديدًا دون مللٍ أو كللٍ يتلذذ في ضَربها كُل صباح يجرها مِن شعرها ويقوم بِركلها ككرة، بخشونة وعنفٍ، عند المَساء يحمل صوطًا فجلدها جلدًا عشوائيًا دون رحمة أو شفقة، إن سمع صوتَ بُكائها يتركها يومًا كاملًا دون أكل أو مَشرب
تركن في غُرفة صغيرة ويمنعها دخولها الحَمام، ملابسها مُمَزقة مُتسخة رثة وبالية شعرها مَنكوشٌ ومقرف.
مضت سنة ونصف وهيَ على حالها، انتهى شريط الذكرياتِ الأليم، عادت لحاضِرها الأكثر ألمًا فتاةٌ في ربيع العُمر رمتها الحياة في قارعةِ المخاض، تَساقطت أوراقِ الأمل، وظلت مسافرة بحثًا عن بصيص حياة
ماتت هاندا تحلم بعيش يومٍ سعيدٌ ورؤية الابستامة على ثغر أخيها.

- سامية البغدادي ..
image
 0  0  310