قراءة بقلم: د. فتحي عبد العزيز محمـد في رواية: "الوثن.. مصطفى بوغازي وتاريخ أمة.."
الوثن.. بهذه الرواية نحن أمام نوع من الوثائق التاريخية والتي يمكن إدراجها تحت بند الرواية السياسية بكل جدارة حيث يتفرع الأدب السياسي كما هو معلوم إلى عدة أفرع منها ما هو موجه لنقد أشخاص بعينهم أو توثيق فترات حكمهم، وهو ما تعمل عليه رواية الكاتب الجزائري مصطفي بوغازي الأخيرة الصادرة عن دار خيال.
تبدو لنا عبر السرد المتدرج في نغمته صورا رسمت بعناية كأننا نشاهد فيلما عن ثائر مثل جيفارا أو متمردا من مقاومي الدكتاتورية ينفض عن نفسه غبار الكسل بين أحضان الطبيعة الجبلية المكسوة بأشجار عتيقة تعود إلى ربيع زمانها عبر ليلة ممطرة بطل في مكان فريد يعرفه عاد إليه ليقتنص منه ما يمكن أن يشكل تمثالا يسمونه وثن سيكون وثنا للسيد الرئيس.. ولأن الرواية مقدمة ووسط ونهاية فإن المقدمة جاءت دالة علي قدرة الكاتب على اختيار خط يقوده بسلاسة إلى نهاية تبدو متفقة مع ما أراد من رسالة يتلقاها المتلقي بقناعة ورضا فهو اختار وبوعي منطقة جبلية تناثرت فيها الصخور ويقال أنها منطقة أثرية وطن بها قوم غابرون وأعلن أن هناك آثاريون عزموا علي استكشافها ومعرفة معالم ديوان كان لحاكم ما لكن أحدا لم يجئ. إذن هي موطن التماثيل ويمكن له أن يشتق من صخورها تمثالا يبقي بعد أن يفني صاحبه حاكم البلاد الذي لا يكن له أي حب لكنه مضطر أمام الحاجة ورغبة في علاج والده العليل أن يقبل طلب أحد الكبار في عمل تمثال يداهن به حاكم البلاد والمفارقة التي تستحق فهم مغزاها هي عندما وقع نظر البطل علي صخرة تبدو أنها المأمولة يدخل نطاق السرد أو بلغة أهل السينما نطاق الكادر فجأة كلب يتجول باحثا عن مكان يتبول عليه فاعتلي الصخرة المختارة لحظة مبشرة بما يراه الكاتب للنهاية منذ البدء.. تلك بداية مختارة بعناية المكان والحدث معا.
الموضوع إذن جديد والطرح متميز ومحفز علي مواصلة العرض لأحداث مرت بها بلدته الجزائر ولكننا لن نفسد علي القارئ متعة قراءة النص.
لقد اختار مصطفي بوغازي معالجة فترة راهنة بصفتها تاريخا لا يزال حاضرا بتحولاته وتجلياته وموقف الناس من أحداثه وقد يبدو اختياره ذاك جرأة منه فربما وقع في محظور الكتابة الخطابية ولكنه كان حصيفا في معالجته تلك فجاء بشكل من الكتابة البعيدة عن التقريرية أو المباشرة. وحرص علي بيان معاناة شخوص الرواية وما يلاقون من قمع وما يرزحون تحته من كبت للحريات وما يعايشونه من فساد السائرين في ركاب السلطة بل فساد السلطة ذاتها في ظل موات ممثلها الراغب في عهدة خامسة لحكم الجزائر.
تعددت شخوص الرواية وفرض تلك التعددية طبيعة العمل الأدبي الذي يوثق لفترة هامة من تاريخ الجزائر البلد الذي عانى – كما يصرّ الكاتب علي بيانه في أعماله السابقة أيضا- من الاستعمار وأذناب الاستعمار وفق في رسم شخصية البطل الرئيسي “أسامه” السارد للرواية والذي نرى من خلاله صور الآخرين وشخصياتهم فنتعرف إلى صديقه “منير” الذي يعمل مديرا للثقافة وهو الوسيط بينه وبين الوزير الساعي لصنع التمثال ليقدمه للرئيس علي أنه من عمل ابنته صاحبة شركة للإعلانات، ولا يمكننا ان نعفي الثلاثة من الإدانة بسعيهم إلى مداهنة الرئيس وإن كان البطل واقعا في صراع مرير بينه وبين نفسه يضع مبررات كثيرة لقبوله بالعمل علي نحت التمثال الوثن غير أن ضميره استيقظ في لحظة تحول تحسب له برفضه صناعة الوثن وحول الخامة الصخرية إلى لوجة منحوتة تعبر عن معاناة شعب رزح زمنا تحت حكم شخص وصفه في أكثر من الموقف بالنرجسية وعرض الكاتب بأمانة لتاريخ الرجل كيف وصل إلى السلطة بنسبة أصوات قليلة لم تعجبه فأصرّ على تعديلها وكيف عاش في جو من البذخ والإسراف. تنوعت مساحات باقي الشخصيات حسب مكانها من الأحداث وهي تمثل شرائح من المجتمع الجزائري وبرع المؤلف في رسم صورة لشكل الحياة وطبيعة الريف والمدينة وهي من الصور التي يجيد الكاتب رسمها حتي طعام الناس واكلاتهم المفضلة لم ينس أن يعرض لها مثل الشخشوخة وهي طعام يعتمد علي اللحم الضأن.
مع سقوط بوتفليقة تتماهي الشخوص أو يصير الكل في واحد.. سجل الكاتب الحدث برشاقة في العرض مستخدما جملا سريعة تسرد خروج الناس متنقلا من بلد إلى بلد بطول الجزائر وعرضها مبينا حركة تسري كموجات بحر هادئ لتصير لموج هادر يزيل الفساد والمفسدين. عمل وثائقي يعتمد علي أحداث حقة صنع منها الكاتب ما أعاد اكتشافه لفنه فهو هنا يجيد النقلات بين الحدث والآخر حريص على بيان كل ما في المشهد وبعمق وحب للتفاصيل الدقيقة لتعايش ما تقرأ وكأنك تراه..