×

اضغط هنا إن لم يقم المتصفح بتحويلك آليًا.
مديرة التخرير سعاد العتابي

العولمة وهم وظلّ معكوس.. بقلم: سهيلة بن حسين حرم حماد

image


العولمة وهم وظلّ معكوس..

العولمة مشروع انطلق تطبيقه بصفة جليّة، و واضحة في منتصف القرن الماضي، وقد واجه حينها جدلا كبيرا، من جهات عديدة رسميّة وغير رسميّة. تبنّته معظم دول العالم، و سخّرت كل ما بوسعها من آليات، للتّسويق و التّطويع، والتّطبيع، من أجل التّطبيق، لانجاح مشروع سياسة تبدو في ظاهرها، أنّها ستجلب الخير و الرّفاه للإنسانية قاطبة ....

تاريخيّا فإنّ مفهوم العولمة بدأ يتشكّل منذ العهد العثماني ولكن خارج مداره ....
قد يفاجأ البعض، ولكنّها الحقيقة باعتبار أنّ هاته الشّركات المتعدّدة الجنسيات، أو القوميات بأروبا الغربيّة، التي تشكّلت في تلك الفترة، تعتبر تكتّلا اقتصاديا كانت الغاية منه، مجابهة القوّة العثمانية، المهيمنة حينها، اقتصاديا وعسكريّا ، لضمان تّواجدها حتى لا يسهل ضربها، و إزاحتها بسهولة، وقد كسبت هاته الشّركات السّباقة، و التي آمنت بالتّحالف الاقتصادي، الرّهان واستطاعت اكتساح أسواقا عالمية، على امتداد السّنين، منذ ما يزيد عن خمسة قرون، فحقّقت بذلك ربحا وفيرا، مكّنها من تبوّؤ مكانة مهمّة، في التّسيير و التّدبير الاستراتيجي، و القيادة، وقد قادها هذا فيما بعد إلى اعتلاء عرش العالم الاقتصادي، والسّياسي والعسكري بعد سيطرتها شبه الكلّية، على العقول و ثروات الكرة الأرضيّة، سواءً منها طاقاتها، الباطنيّة، أو البشريّة التي أخضعت بدورها الطّاقات الكوكبيّة، لخدمة أهدافها التوسّعية، وتنميّة ثرواتها، كالطّاقة الشّمسيّة الحراريّة و الاتّصالات القمريّة، ذات القدرة السّحرية، لفكّ الرّموز، واكتشاف الكنوز من دون عناء، ولا شقاء، اعتمادا على ذكاء الإنسان ...
فقد برزت عدّة شركات ذات جنسيّات مختلفة ...إيطالية ..ألمانية ..هنديّة بريطانية..أمريكية وغيرها ... على مدار مئات السّنين ... وقد استفادت هاته الشّركات من الثّورة الصّناعية لعصر النّهضة الأروبية، عصر التّنوير، وقد تنامى نشاطها، وعظم وذاع سيطها، بشكل ضخم، كما استفادت من السّياسة الاستعمارية لبلدانها، فلم تفوّت الفرصة في إبرام اتفاقيات مع المستعمرات، و لم يضعف نشاطها و تراجع إلا خلال الأزمة الاقتصادية العالمية، وبانهيار الخلافة العثمانية، وببروز نظام اقتصادي جديد يرتكز على البروليتاريا الشّيوعيّة، فقد انظمت روسيا هي الأخرى إلى هذا المشروع، وقابلته من الضفّة الشّرقية، فأحدثت بذلك التّوازن بين الرأسمالية اللّيبرالية، والبلوريتاريا التي ظلّت تتمنع حينا وتغازل حينا آخر الرّأسمالية. فكبحت إلى حد ما جماح تغوّل اللّيبرالية المتوحّشة، إلى غاية سقوط و انهيار الشّيوعية في روسيا في أوت 1991 بعد سقوط جدار برلين في أكتور 1989.

و بإزاحة الدّب الأبيض، عن طريق الرّجل الأبيض، تضخّم وبرز الأمريكي وعظم، فأعاد صياغة النّظام الاقتصادي بشروطه، وإملاءاته، فسارع إلى إيجاد تشريعات قانونيّة مالية جديدة، و حاول استقطاب الدّول الضعيفة التي كانت تشقّ طريقها، بإمكانياتها البسيطة بعد أن لهفت هاته الشّركات ثرواتها، وقد كانت تشكوا معظمها تقريبا، عجزا دائما أو نموّا بسيطا في موازينها التّجارية حينها و كانت تواجه أزمات اقتصادية من حين لآخر تعكس حقيقة أوضاعها الاجتماعية، قد تصل إلى حدّ الصّدام مع النّقابات فتحدث االاضطرابات والاضرابات...
وقد استغلّ العالم الغربي الذي يقف وراء الشّركات متعدّدة الجنسيات كل هاته الأوضاع ...وقد كان العالم الغربي أيضا يشكو في تلك الحقبة التّاريخية من البطالة نتيجة غلق بعض المصانع، وكان بحاجة إلى أسواق خارجيّة ....

لذلك نراه بالغ في إيهام دول العالم الثّالث بأنّها سوف تمكّن من مصباح علاء الدّين، بمجرّد انضمامها إلى مشروعه وإبرام الاتفاقيات معه، إذ سوف تقضي على كلّ مشاكلها...لذلك نراه أغدق عليها العطاء بدعوى الإصلاح الاقتصادي، من جهة و ضيّق عليها الخناق، و كبّلها من جهة أخرى ببنود شروط الاقتراض المجحفة، فمكّنته هكذا من لجامها (أي الدّول الفقيرة)* بإرادتها وصارت أمريكا هكذا الفاتقة النّاطقة، الحاكمة المتحكّمة، بمفردها في سيادة العالم ورئاسته، مع شريكاتها في العالم الغربي ...

هاته الهيمنة الاقتصادية، صاحبتها هيمنة في الأمم المتّحدة حيث قبضت على كلّ مفاصلها وشلّت كل تفكيرها بالسّيطرة على كلّ هياكلها بالتّحكّم في كلّ أجهزتها إلى أن تأكّدت و أكّدت، هيمنتها الاقتصادية والسّياسية والعسكريّة ...

حاولت أيضا أن تضمن حلفائها وأصدقائها الأروبيين فأبرمت معهم اتفاقيات تجارية باعتبارها دولا متقدّمة، في التّصنيع والإنتاج التّقني والتّكنلوجي... فألغت الحدود الجُمْرُوكِية فاكتسحت بذلك بضاعتها الأسواق في كلّ أنحاء العالم، وأغرقت سلعها البضاعة المحلّية للبلدان "التّابعة" . التي لم تستفد من الانفتاح الاقتصادي، الذي أودى بحياتها فعمّت بذلك البطالة، لعجزها عن تشغيل المنقطعين عن التّعليم وحتى خرّيجي الجامعات أصحاب الشهائد، بغلق عدد هامّ من المصانع في أغلب بلدانها، نتيجة تفاقم ديونها تقريبا. و لعدم مقدرتها على مقاومة الأمواج العالية، لبضاعة رخيصة أغرقت الأسواق المحليّة، بمواصفات متفاوتة، و التي لبّت ذوق الحرفاء بمختلف شرائحهم. فأنهارت بذلك الأنظمة الاقتصادية، لهاته البلدان، ما يطلق عليها، ب"البلدان النّامية" الواحد تلو الآخر، ذلك أنّها لم تتحصّن كما فعلت أوروبا حين تكتّلت، و وحّدت عملتها . فكثرت بذلك أزمات الدّول العربية وغيرها.. نتيجة البطالة، و ضعف المقدرة الشّرائية وانهيار العملة المحلّية وعجز ميزان الدّفعات ... فعمّ الشّغب والسّلب والنّهب وتنامى الغضب، وكثرت الجرائم فتعالت أصوات النّقابات، فكثرت الاضرابات التي شملت و لزمت كل البلدان تقريبا، ممّا أدّى إلى ثورات "الرّبيع العربي" هنا و هناك، التي كانت ُتطالب بالحرّيات و بالعدالة الإجتماعية و بإعادة توزيع الثّروات بالعدل بين الجيهات، ولكن هيهات ... فكلّ الثّروات قد حُسم أمرها، بعقود أُعيد إبرامها بنفس مواصفات القرنين السّابقين. تلك العقود التي أُبرمت بمواصفات المستعمِر في السّابق .

و باعتبار أن النّظام العالمي، لا تُرضيه هذه الشّعارات، المننّدة بالظُلم الاجتماعي و الاقتصادي، التي تنادي بإعادة توزيع الثّروات، و التي تكشفت مدى غضب الشّعوب و رفضها لسياستها الاستعمارية الممنهجة، و المبيّتة الزّئقبة المراوغة ... أسرعت هذه المرّة، في تغذية نار الفتنة بإشعالها هنا وهناك، بشحن العداءات، بعدم تفويت أي فرصة، في قدح الغضب، كما عملت على الاشتغال، على كلّ خلاف، مهما كان بسيطا، اختلاف عرقي أو ديني عقائدي بين الطّوائف والقبائل والأقاليم، بتأويله وتضخيمه، كما يحلو لها و بالشّكل الذي تريد، حتى تؤجج الحقد ونار الفتنة فيما بينهم، فطفا التطرّف والعنف ..

كما وفّرت كلّ الإمكانيات المادّية واللّوجستكيّة والعلوم، لاستقطاب جماعات متطرّفة، و نجحت في توجيههم، ودعمهم، وزرعهم، في مختلف الأقاليم، لبثّ "الفوضى الخلّاقة"، كما ادّعى زعيمهم... وقد استعان بكلّ العلوم الاجتماعية لانجاح المشروع الدّاعشي، ومن قبله طالبان، وجماعة إفغانستان. وقد استطاع تنويم و (مغنطسة) هاته الجماعات باستدراجهم وتطويعهم لتنفيذ ما يطلب منهم بسهولة. كذلك الأمر بالنّسبة للحكومات المخدوعة في صدق نواياها و مساعدتها الأدبية والمادّية فصيرتهم بيادق يأتمرون بأوامرها سياسيّا، واقتصاديّا وإن كان ضدّ مصلحتهم وضدّ شعوبهم مجبرين غير مخيّرين لأنّهم مورّطون بديون ..
عاجزون عن تسديدها.

علما أنّ العولمة قد شلّت الأفرد، بواسطة الأجهز الرّقميّة، التي غزت العالم عن طريق الحواسيب، والجوّالات بشكل استطاعت أن تفرض، هيمنتها بالكامل على العالم، بواسطة أنظمة، وتطبيقات تمكّنت بها من جعل الأفراد مدجّنين، متوحّدين، يسبّحون بحمد التّكنلوجيات، شغلهم النّقر والغوص في البحث عن المواقع، والصّفحات الالكترونية، والمواقع الاجتماعية، والتّجارية، والمعلوماتيّة، وكذلك المعرفيّة والعلميّة و الخدمات بمختلف أنواعها ...بشكل لبّى كلّ الرّغبات فتقلّصت كل المسافات وألغيت عدّة قنوات واختفت عدة صناعات ومنتوجات . فصار التّواصل عنكبوتيا افتراضيا خدم ودعّم السّياسات الاستعمارية لباعثيها ومنشئيها...

فبفضل تقنياتها هذه تمكّنت من تهجين إنسان جديد بمواصفات جديدة عرف بالإنسان ذو البعد الواحد unidimentionnel كما أطلقه عليه الفيلسوف الألماني المتخصّص في علم الاجتماع ...هربر ماكوس Herbert Marcus إنسان دُجّن فكره ونمط حياته وكذلك استهلاكه ...

و بذلك بقي العالم الثّالث، يرزخ تحت فقره تابعا لعالم كظلّ معكوس على الأرض... كوهم يتقلّص ويمتدّ بحسب الضّوء وموقع الشّمس ففي منتصف النّهار ينعدم ...

فحتّى استرتيجياته العسكريّة والمخابرتيّة باتت مفضوحة نتيجة مقدرة الأمريكان على اختراق كل جدران النّار ....

الإمضاء : سهيلة بن حسين حرم حماد

الزهراء تونس في 2/10/2019
 0  0  315