قراءة نقدية للبروفيسور الناقد لطفي منصور عِراقُ الصُّمود "في جُبَّةِ التَّأْوِيل" قَصيدَة لِلشّاعِرَة وردة أيٌوب عزيزي الجزائِر
وردةأيوب عزيزي
قراءة نقدية للبروفيسور الناقد لطفي منصور
عِراقُ الصُّمود
"في جُبَّةِ التَّأْوِيل"
قَصيدَة لِلشّاعِرَة وردة أيٌوب عزيزي
الجزائِر
قراءَةُ وتعقيبُكِ أ.د. لطفي منصور
مُناسَبَةُ القصيدَةِ: الأحداثُ الأخيرَةُ الدّاميَةُ في الْعِراقِ الحبيب.
١ الأَرْضُ حُبْلَى والْجِراحُ عِراقُ
وَالشَّمْسُ ثَكْلَى والدِّماءُ تُراقُ
يتميَّزُ هذا الشِّعْرُ بالمَجازِ والاستعارَاتِ. فالأرْضُ حُبْلَى لتَلِدَ الْخَيْراتِ والثَّمَراتِ وكُلَّ ما يُكْسِبَ الْحياةَ لِأَهْلِ الْعِراقِ، وبالرَّغمِ من هَذِهِ السّعادَةِ ثَكَلَتِ الشَّمسُ رمزُ الْحَياةِ والوجودِ بِالْمَواليدِ، وذلك لعبَثِ الإنسانِ بالمُقَدَّرات.
الفسادُ أدْمَى العراقَ الذي أصبَحَ عُنوانًا للجراحِ، الجِراحُ عِراقُ: تعبيرٌ رائِعٌ يُصِفُ عُمْقَ الْجِراحِ النّازِفَة. الشَّمْسُ ثَكْلَى استعارَةٌ مكنيَّةٌ بليغَةٌٌ تكفي ليعرِفَ القارِئُ فداحَةَ خُطُوبِ الْعِراقِِ الذي يملأُ طُرُقَهُ وساحاتِهِ الدَّمُ الزَّكِيُّ المُراق.
٢ وَالنّاسِكونَ مِنَ الدُّعاءِ تَوَضَّأُوا
وَتَكَهَّنُوا، في صَبْرِهِمْ تِرْياقُ
النّاسكون: العابدونَ الذينَ نَذَروا أنْفُسَهُمْ لعبادَةِ اللَّهِ. هؤلاءِ أصْبَحوا كَهَنَةً، الكاهنُ والكاهنَةُ عِنْدَ العرَبِ قديمًا هو العَرّافُ وقارِئُ المستقبَلِ. تغمزُهمُ الشّاعرَة. فهم لا حَوْلَ لهم ولا طَوْلَ، إِلَّا الدُّعاءِ إلى اللِّهِ، فقد اتَّخذوهُ وُضوءًا وَطَهورا. وتَعَوَّدوا على الصَّبْرِ الذي يمنحُهُ السكينَةَ والهُدوءَ كالعَقاقيرِ أوِ التِّرْياقِ الذي يُعالِجُ سُمَّ الأفاعي. ويمكنُ أنْ يَرْمُزَ إلى المفسِدين.
تنتقلُ الشّاعرة لتصفَ الجرحى:
٣ والْعاكِفونَ على الْجِراحِ تَأَمَّلوا
يا وَعْدَهْم مِنْ ذَا النَّوَى إرهاقُ
تعبيرُ "العاكِفونَ على الْجِراحِ" إبداعٌ رائِعٌ، وصورَةٌ شِعْرِيّةٌ دقيقَةٌ. الجانِبُ الأَوّلُ مِنَ الصُّورَةِ جَرْحَى يَئِنُّونَ من الآلامِ المستمرَّةِ التي لا تنقطِع. الجانِبُ الثّاني رِجالٌ عاكفونَ في المساجِدِ لا ينقطِعونَ عنها. فالمشترك بينهما الاستمراريّة. وهذا نقدٌ لبيانِ عَطَبِ العاكفينَ، هذا هو التشبيه التمثيلي لصورَةٍ منتزعَةً من مناظِرَ متعدِّدةٍ، وهو قِمّةُ البلاغَةِ.
ثمّ يأتي بيانٌ آخَرُ من البيت. وهو خَيْبَةُ الجرْحَى ممّا أمَّلوهم بِذَرْءِ الفسادِ فازدادوا رَهَقا.
٤ والْحالِمًُونَ عَلَى بِساطِ بُراقِهمْ
الْمَجْدُ والإجْلالُ والإشراقُ
البُراقُ: دابَّةٌ مَلائِكِيَّةُ هي مَرْكَبُ الأنبياءِ وخاصَّةً نَبِيَّنا محمّّدًا عليْهِ اَلسَّلامُ. الحالِمُونَ مِنَ الْحُلْمِ، المقصودُ هنا حُلْمُ الْيَقَظَةِ. وفِي اعتقادي تعني الشّاعرَةُ الشُّعراءَ أصحابَ الخيالِ المُصَوِّرِ. أوِ الكُتّابَ والإعلاميَّينَ فهم بِأعلَى مرتبةٍ: بِساط البُراق. لا شكَّ أنّ هنا رمزًا لأهلِ الثقافَةِ الذين هم أيضًا في فاقَةٍ شديدَةٍ لا يُسْعِفُهم ما يحلُمون بالمجدِ والإجلال.
٥ يا مَنْ سَكَبْتَ الشَّمْسَ نُورَ تَوَهُّجٍ
لِيُضِيئَها الأقْلامُ والأوْراقُ
سكبْتَ الشَّمْسَ نورًا: تعبيرٌ مجازِيٌّ رائعُ وجميل. النداءُ للشّاعِرِ/ة الأصيل. ضمير الغائبَةِ في الفِعل والفاعلّ والمفعول به "لتضيئَها" يعود إلى الشَّمسِ، فكأنَّ الشّاعرَةَ تريدُ أن تقولَ: أقلامُ الشُّعراءِ والكتّابِ نورٌ يُضيءُ الشَّمْسَ الثَّكْلَى التي بزغتْ على العراق. هذا هو التشبيهُ المقلوب، وهو قِمَّةٌ في البلاغَةِ.
٦ وَمِنْ ألْفِ ضَوْءٍ سَجْدَةٌ وَتَهَجُّدٌ
وَ"لِبَصْرَةٍ" يَتَبَتَّلُ الْمُشْتاقُ
الأضواءُ الألفُ هي مساجِدُ البصْرَةِ ومآذِنُها، ففيها السُّجودُ وَالتَّهَجُّد، وهي الصَّلواتُ وقيامُ اللَّيْلِ.
الْبَصْرَةُ مدينَةُ الحضارَةِ العربيَّةِ والعلمِ والعلماءِ، كَيْفَ لا يتعبَّدُ الزّائِرُ لها ويتطهِّرُ ، وقد رماهُ الشَّوقُ إليها. وخَصَّتِ الشّاعرَةُ البصرَةَ أوَّلًا، لِأنَّ الْحَراكَ الشَّبابِيِّ انطلَقَ منها أوَّلًا.
٧ وَبِبُرْدَةِ " أنْبارِنا" مُتَلَحَّفٌ
وَلِدِجْلَةٍ يَتَوَحَّدُ الْعُشّاقُ
تتحدَّثُ الشّاعِرَةُ عن بعضِ رموزِ الْعِراقِ. فذكَرَتِ البصرَةَ، والأنبارَ ودجْلَةَ، وستذكُرُ الكوفَةَ والفراتَ وغيرَها مِنَ المعالمَ، وهو نداءٌ محفوفٌ بالتَّوَسُّلِ والرجاءِ للعراقيِّينَ أنْ يُحافِظوا على هذا التُّراثِ، وما صنعَهُ الآباءُ والأجداد.
آهِ لو تَعْلَمُونَ عَدَدَ العلماءِ الذينَ تخرَّجوا مِنَ الأنبارِ: لُعَوِبِّينَ ونحويِّينَ وفقهاءَ وشُعَراءَ. يكفي أنْ أذكرَ أبا القاسمِ الأنباري (ت ٣٢٩هج) وابنَهُ محمّدًا، من كبار النحويّين، فقد شرح الأَوَّلُ القصائدَ السَّبْعَ، وهي من المعلّقات، الثّاني أبو البركات الأنباري (ت ٥٧٧هج) صاحب كتاب " الإنصاف في مسائل الخلاف بين البصريِّين والكوفيِّين".
ولعلَّ الشّاعرَةَ ترمزُ بالتَّلَحُّفِ بالبردَةِ إلى علماءِ الأنبار وشُعرائِهِمْ.
أمّا شواطِئُ دِجْلَةَ وجُسورُها فهي مُلْتَقَى العشّاقِ، وَمَنْ مِنَّا لا يُرَدِّدُ بيتَ عَلِيِّ بنِ الْجَهْم: من الطَّويل
عُيونُ الْمَها بَيْنَ الرُّصافَةِ والْجِسْرِ
جَلَبْنَ الْهَوَى مِنْ حَيْثُ أدْرِي ولا أدْرِي
هيَ رُصافةُ بغدادَ، والْجِسْرُ الذي يوصِلُ ضاحِيَةَ الْكَرْخِ مع المدينَة. وفِي الْكَرْخِ قُرْبَ مَقامِ الإمامِ الأعظم أبيي حنيفَةَ النعمان ارتَشَفَ الشّاعِرُ نزار قَبّاني أوَّلَ كاساتِ العِشْقِ مَعَ بلقيسَ التي أصبَحَتْ زوجَهُ فيما بعد.
فلِلَّهِ دَرُّ الشّاعِرَةِ كَيْفَ اعتَلَتْ فَوْقَ الْجِِراحِ لِتِضَعَنا في جَوٍّ مِنَ الْحُبِّ والْجمال.
٨ يا نَخْلَةَ الأمْجادِ جِئْتُكِ عاشِقًا
في هَيْئَةٍ نُسّاكُها أعْراقُ
النخْلَةُ رَمْزُ الْعِراقِ، وخاصَّةً ما يُعْرَفُ بالسّواد لِشِدَّةِ اخضرارِ النخيل. في هذا البيتِ توارُدُ أفكارٍ بَيْنَ الشّاعِرَة وبَيْنَ الشّاعِرِ نِزار قَبّاني في مكانين، ومن الممكِنِ أنها تَأَثَّرَتْ به.
المكانُ الأَوَّلُ "نخلة العراق" فهذا اللَقَبُ أطْلَقَهُ نِزار على زَوْجَتِهِ بلقيسَ في رثائِهِ لَهَا.
الثّاني: عبارَةُ "جِئْتُكِ عاشِقًا"، وَمِثْلُهُ أيضًا في مطلَعِ قصيدَتِهِ العَظيمَة؛
يا تونُسُ الْخَضْراءُ "جِئْتُكِ عاشِقًا
وَعَلَى جَبينِي وَرْدَةٌ وَكِتابُ
كلمَةُ نُسّاكُها مَرّتْ. أعْراقُ مِنَ العِرْقِ وهو الأصل.
٩ سُبْحانَ مَنْ سَجَدَ الْفُراتُ لِعِزِّهِ
بِأَصالَةٍ "كُوفِيَّةٍ" تَنْساقُ
هنا ذِكْرٌ لنهرِ الفُراتِ ومدينَةِ الكوفَةِ. مدينتا الْبصرة والكوفةِ مَصَّرَهُما الْحليفَةُ عُمَرُ بنُ الْخَطّابِ. وهما رمزُ الحضارَةِ الْعَرَبُيّةِ، ومَنْ لا يعرِفُ مدرستيْ البصرةِ والكوفةِ في النَّحْوِ فهو جاهلٌ في لُغَتِهِ وتُراثِهِ. الفُراتُ: العذبُ، وهو مِنَ الأنهارِ المهمَّةِ في الوطَنِ العرَبيِّ يمرُّ من ثلاثِ دولٍ: تركيا وسوريّا والعراق حَيْثُ يلتقي مع دجلَةَ ويكوِّنانِ شَطَّ العرَبِ. وسجودُ النّهْرِ لخالِقِهِ شَيْءٌ مجازِيٌّ وذلك رَمْزٌ لِهًُدوءِ مائِه.
١٠ وَيُرَتِّلُ الشُّعَراءُ مِنْ أحْزانِهِمْ
وَجَعَ الْحُروفِ وَفِي الْقُلوبِ عِناقُ
اللّهُ أكبرُ على جمالِ اللُّغَةِ والتَّعابير!! أيكونُ إنْشادُ الشِّعْرِ تَرْتيلًا؟ نعم، لوَجْهِ الشَّبَهِ، أليسَ هو شِعْرُ رثاءٍ للضَّحايا؟ إنّ الحروفَ لتتوجَّعُ من منظرِ وإراقَةِ الدِّماءِ كالْبشَر، لأنّها تَصْدُرُ من صدورِ الشُّعراءِ الْحَرَّى، ألا يُرَتِّلونَ القرآنَ في المآتِمِ وبيوتِ العزاءِ، أليسَ في رثاءِ الضحايا حُزْنُ التَّرْتيل؟
عُيونُ الشُّعراءِ تَتَقَرَّحُ، وبقلوبِهم المتحَرِّقَةِ يُعانِقونَ الشَّبابَ الذينَ سَقَطوا وهم يطلبونَ العدْلَ والْحُرِّيَّة.
١١ اللَّهُ أكْبَرُ يا عِراقَ مَواجِعِي
الْمَجْدُ عِزُّكَ وَالضِّياءُ رِفاقُ
عِراقَ مَواجِعِي: إذا كانَتِ الشّاعِرَةُ من أُصولٍ عِراقِيَّةٍ فَقَدْ أدَّتْ واجِبَها عَلَى أكْمَلِ وَجْهٍ، وإذا هِيَ جزائِرِيّةٌ ومن أُصولٍ جزائِرِيَّةٍ وعَبَّرَتْ عن مشاعِرِها كعربيَّةٍ مُسْلِمَةٍ فهيَ أعظَمُ بِكَثير. لَنْ أنسى الْجانِبَ الإنسانيَّ، فالبشَرُ كُلُّهم إخْوَةٌ فيه.
فَقَدْ هزّتني هذه العباررةُ،لِأَنَّها تَحْمِلُ هُمومَ الْعِراقِ، وما فيهِ مِنْ آلامٍ. فقد أبدَعَتْ الشّاعِرَةُ في هذا الوَصْف كُلَّ الإبْداع.
نعم. العراقُ لا يُعْرَفُ إِلَّا الأمجاد والعزَّّة. فَلْيَنْظُرِ القارِئُ إلى عُمْقِ هذا التعبير: الضِّياءُ رِفاقُ. فَقَدْ أغْدَقَتْ الشّاعِرَةُ النُّجوميَّةَ على الشَّعبِ العراقي بأسرِه. فالرِّفاقُ أضواءٌ ونجوم.
وها نَحْنُ وَصَلْنا إلَى بَيْتِ القصيدِ. الكلماتُ الثّلاثُ الأُوَلُ اختارَتْها الشّاعِرَةُ عُموانًا للقصيدَةِ لِأَنّ البيتَ مِثالٌ في النقدِ الهامِسِ دُونَ ضَجيجٍ، لِكَيْ تظهَرَ الْحَقيقَةُ ناصِعَةً كالشَّمس.
المستهدَفُ لابِسُو الْجُبَبِ والْعَمائمِ، العاكِفونَ على التَّأويلِ، بَدَلَ التَّفْسيرِ الواضِح، ليزدادَ النَّصُّ غُموضًا. هذا التَّأْويلُ يشمَلُ المعتتَقَداتِ والأحلامَ والْمَناماتِ والرُّؤَى. وهذهِ بِضاعَةٌ رائِجَةٌ في أسواقِ الجَهْلِ، فَجَذارِ مِنَ الوُقوعِ بها فَإنَّها مُغْرِقَة.
في صَدْرِ البيتِ تَمَّ تَسْكينُ عَيْنِ الفعلِ "فَسَرَ" للضََّرورَةِ الشِّعْرِيَةِ.
١٣ تَتَزَمَلُ الْخَيْباتُ مِلْءَ دُعائِها
فَتَرَفَّعَتْ بِعِراقِها أخْلاقُ
تتزَمّل: تلتفَّ بعمائِمِها وعِباءاتِها (يا أَيُّها الْمُزَّمِّلُ)
هذا تَناصٌّ قُرْآنِيّ ٌ جميلٌ. لَقَدْ خابَ الْمُعَمَّمُونَ، لم يُلاقُوا آذانًا صاغِيَةً مِنَ الشَّبابِ الْعِراقِيِّينَ، ولَم يسمعوا تلكَ التُّرَّهات، فارتَفَعَ المستوى الأخْلاقي في البلاد.
١٤ طُوبَى لَهَا في عَزْمِها وَثَباتِها
تَتَجَدَّدُ "الْعُهْداتُ" والْميثاقُ
البيتُ الأخيرُ تحيَّةٌ للشَّبابِ الثّائِرِ الذي فرضَ إرادَتَهُ بالعزْمِ والثّباتِ، وسيُغَيِّرُ عُهْداتِ ومواثيقَ الفساد.
انتهت القصدَة.
وبعد،
هذه قراءَةٌ لقصيدَةٍ من عُيونِ الشِّعْرِ تعالجُ أحداثًا سياسيَّةً عنيفَةً في العراق. كلُّ قصيدَةٍ لا تُلِمُّ بها قراءَةٌ واحِدَة. وكُلُّ قارِئٍ ينطلِقُ من وُجْهَةِ نظرِهِ ورُبَّما لا تستقيمُ مع ما قَصَدَهُ الشّاعِرُ، لِأنَّ المعنَى في قَلْبِ الشّاعِرِ، كما يقولون. القراءَةُ لا تَتَعَدّى الاجتهادَ. لكن في كلِّ الأحوالِ النَّقْدُ مُتَمِّمٌ للنَصِّ، والكاتِبُ مُخَيَّّرٌ أنْ يَأْخُذَ بِهِ أو يترُكَه.
قراءة نقدية للبروفيسور الناقد لطفي منصور
عِراقُ الصُّمود
"في جُبَّةِ التَّأْوِيل"
قَصيدَة لِلشّاعِرَة وردة أيٌوب عزيزي
الجزائِر
قراءَةُ وتعقيبُكِ أ.د. لطفي منصور
مُناسَبَةُ القصيدَةِ: الأحداثُ الأخيرَةُ الدّاميَةُ في الْعِراقِ الحبيب.
١ الأَرْضُ حُبْلَى والْجِراحُ عِراقُ
وَالشَّمْسُ ثَكْلَى والدِّماءُ تُراقُ
يتميَّزُ هذا الشِّعْرُ بالمَجازِ والاستعارَاتِ. فالأرْضُ حُبْلَى لتَلِدَ الْخَيْراتِ والثَّمَراتِ وكُلَّ ما يُكْسِبَ الْحياةَ لِأَهْلِ الْعِراقِ، وبالرَّغمِ من هَذِهِ السّعادَةِ ثَكَلَتِ الشَّمسُ رمزُ الْحَياةِ والوجودِ بِالْمَواليدِ، وذلك لعبَثِ الإنسانِ بالمُقَدَّرات.
الفسادُ أدْمَى العراقَ الذي أصبَحَ عُنوانًا للجراحِ، الجِراحُ عِراقُ: تعبيرٌ رائِعٌ يُصِفُ عُمْقَ الْجِراحِ النّازِفَة. الشَّمْسُ ثَكْلَى استعارَةٌ مكنيَّةٌ بليغَةٌٌ تكفي ليعرِفَ القارِئُ فداحَةَ خُطُوبِ الْعِراقِِ الذي يملأُ طُرُقَهُ وساحاتِهِ الدَّمُ الزَّكِيُّ المُراق.
٢ وَالنّاسِكونَ مِنَ الدُّعاءِ تَوَضَّأُوا
وَتَكَهَّنُوا، في صَبْرِهِمْ تِرْياقُ
النّاسكون: العابدونَ الذينَ نَذَروا أنْفُسَهُمْ لعبادَةِ اللَّهِ. هؤلاءِ أصْبَحوا كَهَنَةً، الكاهنُ والكاهنَةُ عِنْدَ العرَبِ قديمًا هو العَرّافُ وقارِئُ المستقبَلِ. تغمزُهمُ الشّاعرَة. فهم لا حَوْلَ لهم ولا طَوْلَ، إِلَّا الدُّعاءِ إلى اللِّهِ، فقد اتَّخذوهُ وُضوءًا وَطَهورا. وتَعَوَّدوا على الصَّبْرِ الذي يمنحُهُ السكينَةَ والهُدوءَ كالعَقاقيرِ أوِ التِّرْياقِ الذي يُعالِجُ سُمَّ الأفاعي. ويمكنُ أنْ يَرْمُزَ إلى المفسِدين.
تنتقلُ الشّاعرة لتصفَ الجرحى:
٣ والْعاكِفونَ على الْجِراحِ تَأَمَّلوا
يا وَعْدَهْم مِنْ ذَا النَّوَى إرهاقُ
تعبيرُ "العاكِفونَ على الْجِراحِ" إبداعٌ رائِعٌ، وصورَةٌ شِعْرِيّةٌ دقيقَةٌ. الجانِبُ الأَوّلُ مِنَ الصُّورَةِ جَرْحَى يَئِنُّونَ من الآلامِ المستمرَّةِ التي لا تنقطِع. الجانِبُ الثّاني رِجالٌ عاكفونَ في المساجِدِ لا ينقطِعونَ عنها. فالمشترك بينهما الاستمراريّة. وهذا نقدٌ لبيانِ عَطَبِ العاكفينَ، هذا هو التشبيه التمثيلي لصورَةٍ منتزعَةً من مناظِرَ متعدِّدةٍ، وهو قِمّةُ البلاغَةِ.
ثمّ يأتي بيانٌ آخَرُ من البيت. وهو خَيْبَةُ الجرْحَى ممّا أمَّلوهم بِذَرْءِ الفسادِ فازدادوا رَهَقا.
٤ والْحالِمًُونَ عَلَى بِساطِ بُراقِهمْ
الْمَجْدُ والإجْلالُ والإشراقُ
البُراقُ: دابَّةٌ مَلائِكِيَّةُ هي مَرْكَبُ الأنبياءِ وخاصَّةً نَبِيَّنا محمّّدًا عليْهِ اَلسَّلامُ. الحالِمُونَ مِنَ الْحُلْمِ، المقصودُ هنا حُلْمُ الْيَقَظَةِ. وفِي اعتقادي تعني الشّاعرَةُ الشُّعراءَ أصحابَ الخيالِ المُصَوِّرِ. أوِ الكُتّابَ والإعلاميَّينَ فهم بِأعلَى مرتبةٍ: بِساط البُراق. لا شكَّ أنّ هنا رمزًا لأهلِ الثقافَةِ الذين هم أيضًا في فاقَةٍ شديدَةٍ لا يُسْعِفُهم ما يحلُمون بالمجدِ والإجلال.
٥ يا مَنْ سَكَبْتَ الشَّمْسَ نُورَ تَوَهُّجٍ
لِيُضِيئَها الأقْلامُ والأوْراقُ
سكبْتَ الشَّمْسَ نورًا: تعبيرٌ مجازِيٌّ رائعُ وجميل. النداءُ للشّاعِرِ/ة الأصيل. ضمير الغائبَةِ في الفِعل والفاعلّ والمفعول به "لتضيئَها" يعود إلى الشَّمسِ، فكأنَّ الشّاعرَةَ تريدُ أن تقولَ: أقلامُ الشُّعراءِ والكتّابِ نورٌ يُضيءُ الشَّمْسَ الثَّكْلَى التي بزغتْ على العراق. هذا هو التشبيهُ المقلوب، وهو قِمَّةٌ في البلاغَةِ.
٦ وَمِنْ ألْفِ ضَوْءٍ سَجْدَةٌ وَتَهَجُّدٌ
وَ"لِبَصْرَةٍ" يَتَبَتَّلُ الْمُشْتاقُ
الأضواءُ الألفُ هي مساجِدُ البصْرَةِ ومآذِنُها، ففيها السُّجودُ وَالتَّهَجُّد، وهي الصَّلواتُ وقيامُ اللَّيْلِ.
الْبَصْرَةُ مدينَةُ الحضارَةِ العربيَّةِ والعلمِ والعلماءِ، كَيْفَ لا يتعبَّدُ الزّائِرُ لها ويتطهِّرُ ، وقد رماهُ الشَّوقُ إليها. وخَصَّتِ الشّاعرَةُ البصرَةَ أوَّلًا، لِأنَّ الْحَراكَ الشَّبابِيِّ انطلَقَ منها أوَّلًا.
٧ وَبِبُرْدَةِ " أنْبارِنا" مُتَلَحَّفٌ
وَلِدِجْلَةٍ يَتَوَحَّدُ الْعُشّاقُ
تتحدَّثُ الشّاعِرَةُ عن بعضِ رموزِ الْعِراقِ. فذكَرَتِ البصرَةَ، والأنبارَ ودجْلَةَ، وستذكُرُ الكوفَةَ والفراتَ وغيرَها مِنَ المعالمَ، وهو نداءٌ محفوفٌ بالتَّوَسُّلِ والرجاءِ للعراقيِّينَ أنْ يُحافِظوا على هذا التُّراثِ، وما صنعَهُ الآباءُ والأجداد.
آهِ لو تَعْلَمُونَ عَدَدَ العلماءِ الذينَ تخرَّجوا مِنَ الأنبارِ: لُعَوِبِّينَ ونحويِّينَ وفقهاءَ وشُعَراءَ. يكفي أنْ أذكرَ أبا القاسمِ الأنباري (ت ٣٢٩هج) وابنَهُ محمّدًا، من كبار النحويّين، فقد شرح الأَوَّلُ القصائدَ السَّبْعَ، وهي من المعلّقات، الثّاني أبو البركات الأنباري (ت ٥٧٧هج) صاحب كتاب " الإنصاف في مسائل الخلاف بين البصريِّين والكوفيِّين".
ولعلَّ الشّاعرَةَ ترمزُ بالتَّلَحُّفِ بالبردَةِ إلى علماءِ الأنبار وشُعرائِهِمْ.
أمّا شواطِئُ دِجْلَةَ وجُسورُها فهي مُلْتَقَى العشّاقِ، وَمَنْ مِنَّا لا يُرَدِّدُ بيتَ عَلِيِّ بنِ الْجَهْم: من الطَّويل
عُيونُ الْمَها بَيْنَ الرُّصافَةِ والْجِسْرِ
جَلَبْنَ الْهَوَى مِنْ حَيْثُ أدْرِي ولا أدْرِي
هيَ رُصافةُ بغدادَ، والْجِسْرُ الذي يوصِلُ ضاحِيَةَ الْكَرْخِ مع المدينَة. وفِي الْكَرْخِ قُرْبَ مَقامِ الإمامِ الأعظم أبيي حنيفَةَ النعمان ارتَشَفَ الشّاعِرُ نزار قَبّاني أوَّلَ كاساتِ العِشْقِ مَعَ بلقيسَ التي أصبَحَتْ زوجَهُ فيما بعد.
فلِلَّهِ دَرُّ الشّاعِرَةِ كَيْفَ اعتَلَتْ فَوْقَ الْجِِراحِ لِتِضَعَنا في جَوٍّ مِنَ الْحُبِّ والْجمال.
٨ يا نَخْلَةَ الأمْجادِ جِئْتُكِ عاشِقًا
في هَيْئَةٍ نُسّاكُها أعْراقُ
النخْلَةُ رَمْزُ الْعِراقِ، وخاصَّةً ما يُعْرَفُ بالسّواد لِشِدَّةِ اخضرارِ النخيل. في هذا البيتِ توارُدُ أفكارٍ بَيْنَ الشّاعِرَة وبَيْنَ الشّاعِرِ نِزار قَبّاني في مكانين، ومن الممكِنِ أنها تَأَثَّرَتْ به.
المكانُ الأَوَّلُ "نخلة العراق" فهذا اللَقَبُ أطْلَقَهُ نِزار على زَوْجَتِهِ بلقيسَ في رثائِهِ لَهَا.
الثّاني: عبارَةُ "جِئْتُكِ عاشِقًا"، وَمِثْلُهُ أيضًا في مطلَعِ قصيدَتِهِ العَظيمَة؛
يا تونُسُ الْخَضْراءُ "جِئْتُكِ عاشِقًا
وَعَلَى جَبينِي وَرْدَةٌ وَكِتابُ
كلمَةُ نُسّاكُها مَرّتْ. أعْراقُ مِنَ العِرْقِ وهو الأصل.
٩ سُبْحانَ مَنْ سَجَدَ الْفُراتُ لِعِزِّهِ
بِأَصالَةٍ "كُوفِيَّةٍ" تَنْساقُ
هنا ذِكْرٌ لنهرِ الفُراتِ ومدينَةِ الكوفَةِ. مدينتا الْبصرة والكوفةِ مَصَّرَهُما الْحليفَةُ عُمَرُ بنُ الْخَطّابِ. وهما رمزُ الحضارَةِ الْعَرَبُيّةِ، ومَنْ لا يعرِفُ مدرستيْ البصرةِ والكوفةِ في النَّحْوِ فهو جاهلٌ في لُغَتِهِ وتُراثِهِ. الفُراتُ: العذبُ، وهو مِنَ الأنهارِ المهمَّةِ في الوطَنِ العرَبيِّ يمرُّ من ثلاثِ دولٍ: تركيا وسوريّا والعراق حَيْثُ يلتقي مع دجلَةَ ويكوِّنانِ شَطَّ العرَبِ. وسجودُ النّهْرِ لخالِقِهِ شَيْءٌ مجازِيٌّ وذلك رَمْزٌ لِهًُدوءِ مائِه.
١٠ وَيُرَتِّلُ الشُّعَراءُ مِنْ أحْزانِهِمْ
وَجَعَ الْحُروفِ وَفِي الْقُلوبِ عِناقُ
اللّهُ أكبرُ على جمالِ اللُّغَةِ والتَّعابير!! أيكونُ إنْشادُ الشِّعْرِ تَرْتيلًا؟ نعم، لوَجْهِ الشَّبَهِ، أليسَ هو شِعْرُ رثاءٍ للضَّحايا؟ إنّ الحروفَ لتتوجَّعُ من منظرِ وإراقَةِ الدِّماءِ كالْبشَر، لأنّها تَصْدُرُ من صدورِ الشُّعراءِ الْحَرَّى، ألا يُرَتِّلونَ القرآنَ في المآتِمِ وبيوتِ العزاءِ، أليسَ في رثاءِ الضحايا حُزْنُ التَّرْتيل؟
عُيونُ الشُّعراءِ تَتَقَرَّحُ، وبقلوبِهم المتحَرِّقَةِ يُعانِقونَ الشَّبابَ الذينَ سَقَطوا وهم يطلبونَ العدْلَ والْحُرِّيَّة.
١١ اللَّهُ أكْبَرُ يا عِراقَ مَواجِعِي
الْمَجْدُ عِزُّكَ وَالضِّياءُ رِفاقُ
عِراقَ مَواجِعِي: إذا كانَتِ الشّاعِرَةُ من أُصولٍ عِراقِيَّةٍ فَقَدْ أدَّتْ واجِبَها عَلَى أكْمَلِ وَجْهٍ، وإذا هِيَ جزائِرِيّةٌ ومن أُصولٍ جزائِرِيَّةٍ وعَبَّرَتْ عن مشاعِرِها كعربيَّةٍ مُسْلِمَةٍ فهيَ أعظَمُ بِكَثير. لَنْ أنسى الْجانِبَ الإنسانيَّ، فالبشَرُ كُلُّهم إخْوَةٌ فيه.
فَقَدْ هزّتني هذه العباررةُ،لِأَنَّها تَحْمِلُ هُمومَ الْعِراقِ، وما فيهِ مِنْ آلامٍ. فقد أبدَعَتْ الشّاعِرَةُ في هذا الوَصْف كُلَّ الإبْداع.
نعم. العراقُ لا يُعْرَفُ إِلَّا الأمجاد والعزَّّة. فَلْيَنْظُرِ القارِئُ إلى عُمْقِ هذا التعبير: الضِّياءُ رِفاقُ. فَقَدْ أغْدَقَتْ الشّاعِرَةُ النُّجوميَّةَ على الشَّعبِ العراقي بأسرِه. فالرِّفاقُ أضواءٌ ونجوم.
وها نَحْنُ وَصَلْنا إلَى بَيْتِ القصيدِ. الكلماتُ الثّلاثُ الأُوَلُ اختارَتْها الشّاعِرَةُ عُموانًا للقصيدَةِ لِأَنّ البيتَ مِثالٌ في النقدِ الهامِسِ دُونَ ضَجيجٍ، لِكَيْ تظهَرَ الْحَقيقَةُ ناصِعَةً كالشَّمس.
المستهدَفُ لابِسُو الْجُبَبِ والْعَمائمِ، العاكِفونَ على التَّأويلِ، بَدَلَ التَّفْسيرِ الواضِح، ليزدادَ النَّصُّ غُموضًا. هذا التَّأْويلُ يشمَلُ المعتتَقَداتِ والأحلامَ والْمَناماتِ والرُّؤَى. وهذهِ بِضاعَةٌ رائِجَةٌ في أسواقِ الجَهْلِ، فَجَذارِ مِنَ الوُقوعِ بها فَإنَّها مُغْرِقَة.
في صَدْرِ البيتِ تَمَّ تَسْكينُ عَيْنِ الفعلِ "فَسَرَ" للضََّرورَةِ الشِّعْرِيَةِ.
١٣ تَتَزَمَلُ الْخَيْباتُ مِلْءَ دُعائِها
فَتَرَفَّعَتْ بِعِراقِها أخْلاقُ
تتزَمّل: تلتفَّ بعمائِمِها وعِباءاتِها (يا أَيُّها الْمُزَّمِّلُ)
هذا تَناصٌّ قُرْآنِيّ ٌ جميلٌ. لَقَدْ خابَ الْمُعَمَّمُونَ، لم يُلاقُوا آذانًا صاغِيَةً مِنَ الشَّبابِ الْعِراقِيِّينَ، ولَم يسمعوا تلكَ التُّرَّهات، فارتَفَعَ المستوى الأخْلاقي في البلاد.
١٤ طُوبَى لَهَا في عَزْمِها وَثَباتِها
تَتَجَدَّدُ "الْعُهْداتُ" والْميثاقُ
البيتُ الأخيرُ تحيَّةٌ للشَّبابِ الثّائِرِ الذي فرضَ إرادَتَهُ بالعزْمِ والثّباتِ، وسيُغَيِّرُ عُهْداتِ ومواثيقَ الفساد.
انتهت القصدَة.
وبعد،
هذه قراءَةٌ لقصيدَةٍ من عُيونِ الشِّعْرِ تعالجُ أحداثًا سياسيَّةً عنيفَةً في العراق. كلُّ قصيدَةٍ لا تُلِمُّ بها قراءَةٌ واحِدَة. وكُلُّ قارِئٍ ينطلِقُ من وُجْهَةِ نظرِهِ ورُبَّما لا تستقيمُ مع ما قَصَدَهُ الشّاعِرُ، لِأنَّ المعنَى في قَلْبِ الشّاعِرِ، كما يقولون. القراءَةُ لا تَتَعَدّى الاجتهادَ. لكن في كلِّ الأحوالِ النَّقْدُ مُتَمِّمٌ للنَصِّ، والكاتِبُ مُخَيَّّرٌ أنْ يَأْخُذَ بِهِ أو يترُكَه.