رسائل الشاعرة سعاد بين العلامة والانفعال. دراسة بقلم: أ. د. صباح عباس عنوز لقصيدة "رسائل" للشاعرة سعاد العتابي
(القصيدة):
“رسائل”
فرحٌ في أفق الدجى
يستصرخ
بملء صمت القبور
أيها الحالمون
أما من أحد يلمح طيفي؟!
أما من أحد ينتظرني؟!
آه..
من قيد حبس ضحكاتي
آه..
من حقد ذراني بين شوك حزن
يدمي قدماي؛ كلّما هممت بجمع كياني
بملء صمت القبور
أتنفس أحلام الراحلين
تلازمني
تحتضنني
تمتلئ بها أحلامي
شهيقا دون زفير
بملء صمت القبور
أصرخ منكم وعنكم
أوجاع الكون
وغربة عشب الربيع
حين نيروز
وأمسح دموع أمي عند رحيلي بعدها
أما من أحد..
لمح طيفي؟!
أما من أحد
انتظرني؟!
ــــــــــــــــــــــ
(الدراسة النقدية)
ذكرت في أكثر من مناسبة مسألة فهم القصدية الشعرية التي رأيتها نتاجًا لصيرورة إبداعية تبدأ متسلسلةً من المكون الفكري القائم على توقد فكرة ما، ثم تخرج إلى المتلقي بمكون أسلوبي أو هو المستوى التركيبي المراعي لعمليات المكون التواصلي، أي كيف يراعي المتكلم مقتضى حال السامع في شتى الاتجاهات، وهنا تحصل عملية التواصل التي ترافق التكوينات الأسلوبية المقصودة، فإذن عملية فهم النص تبدأ من معرفة التكوين النصي، لأن البناء الفني الذي يرتضيه المنشيء يحمل قيمًا معرفية متعددة تخص المعنى وإيقاع النص المبني على تخير الألفاظ، وبذلك تتحقق دلالات النص معنويًا وصوتيًا، وربما جاءت تلك العملية التعبيرية حاملة تلك السمات وعيًا أو لا وعيًا، فثمة علاقة بين اختيار اللفظ وجرسه ومراعاة المعنى وقصديته، وهنا تتحقق الصورة التي هي نبض السياق الشعري، لأنها رسالة البوح الوجداني المعبر عن ما يختلج في النفس، لأن {هناك وحدات معرفية ننتخبها من الخزين المعرفي في أثناء التحدث أو القراءة أو الكتابة والمتمثلة: بالذاكرة (ذاكرة الألفاظ والرموز والمعاني والأشكال) وقدرات الترميز (ترميز الأصوات وترميز القواعد)}(1)، فالنص وجه لعملية التعبير التي هي إفصاح عما يفيض من مشاعر تشكل اهتماما نفسيا عنده، فكل ما في السياق التعبيري يعد إشارات تُخبر عن اهتمام المنشيء بالملفوظ، فقد تتدخل في اختيار اللفظ (آلية معرفية فلا يأتي اللفظ عفويا بكل الحالات، أي هناك آلية مجردة من العواطف وهي معرفية خالصة، هي التي تتدخل أحيانا في اختيار اللفظ… أو آلية وجدانية عاطفية، كأن يكون اللفظ محببا إلى الشاعر بمعناه وبلاغته وموسيقاه.. أو الآليات النفسية اللاشعورية…)(2)، فكل ما يقوله المتكلم على صلة بما يعتمل في أطوائه تكمن وراءه دوافع نفسية سواء كان صادقا في قوله أو كاذبا في ما يقوله(3)، أي أن ما يجيش في صدره يُظهره اللسان إحساسًا وصورةً، حينئذ تُصبح الكلمات رموزا نفسية تستوطن الكتابة الشعرية، فالشعر رسالة الشعور إلى المتلقي.
وفي الوقت نفسه يحرص المنشئ على إظهار رغبته في التعبير عن فكرة تقدح في ذهنه، لذلك يكون أي نص رسالة وجدانية إلى المتلقي، وعلى وفق ذلك يُصبحُ خطاب الشاعر وثيقة نفسية، لأن الشاعر لا ينفصل عن مجتمعه فربما يحاجج لتوضيح أثر نفسي يسمُ خطابه, فوظيفة (الحجاج تمكّنُ من بناء تفسيرات على أقوال يقع إنشاؤها حول العالم وهي أقوال تعالج تجربة أو معرفة)(4)، فالتكوين الفكري يحدد ملامح التكوين الأُسلوبي الملائم لتقديم الفكرة بكلمة صادقة تمثل رسالة الإحساس المغمسة بالوجدان حتى تؤثر في ذهن المتلقي، فتحاور أعماقه منتجةً أثرًا ودلالة، أخذني إلى مسار الكلام هذا بعد أن قرأت نصًا للشاعرة سعاد العتابي أسمته
(رسائل)(5) قالت فيه:
فرحٌ في أُفق الدجى
يستصرخٌ
بملءِ صمتِ القبورِ
أيها الحالمون
أما من أحدٍ يلمحُ طيفي؟
أما من أحدٍ ينتظرني؟
أصبحت سوسيولوجيا الأدب مهمة في نصوص الشعراء بعد احتدام مشاكل الحيا، فهي تمثل العلاقة بين البنى الفوقية والتحتية للنتاج الأدبي أو الثقافي, أي يدرس تأثير الجماعة في القيمة الجمالية، ويفسر الأدب بوصفه حدثا ذا طبيعة اجتماعية، فالشاعرة حرصت على أن يكون نصها تمثيلا واقعيا لحياتها الاجتماعي، فها هي تخبر عن (فرح يستصرخٌ) لكنها لم تخبرنا ماذا يستصرخ؟ على الرغم من أنها منحت الصراخ للمٌسْتصرَخ مساحة كبيرة (بملء صمت القبور)، استطاعت الشاعرة أن تعتمد الاختزال لتمنح التكثيف الشعري فرصة تأويلية يسعى المتلقي إلى فهمها وفك شفرات سياقاتها التعبيرية، كانت سوسيولوجيا الأدب واضحةً في نصها، وارتبط تعبيرها بالتواصلية التي تنتمي إلى الحياة الاجتماعية في شتى فروعها، إذ كانت الشكوى والآهة والرحيل وأحلام الراحلين الباقية المحلقة مع صمت القبور وكل ما اعترى الشاعرة إذ تقول:
أيها الحالمون
أما من أحدٍ يلمحُ طيفي؟
أما من أحدٍ ينتظرني؟
كثرت الأسئلة ومخاطبة واقعا رأته صامتا حيال معاناتها، فهي أمام واقع يعيش ناسه في الأحلام بعيدين عن واقع الحال (أيها الحالمون)، ثم أنها بثت نحوهم الشكوى والحزن مما اعتراها من وهن (أما من أحدٍ يلمحُ طيفي؟) فكانت العبارة كناية عن ضعفها في مقاومة مسارب الواقع، ولكن نجد من وجهت إليهم النداء لا يسمعون نداءها ولا ينتظرونها فهم بعيدون عن واقعها، وإجابةً لأسئلتها انبثقت تأوهاتها من وجع معاناة بسبب الحقد فجاءت بـ (آهٍ) كناية عن نداء البعيد وقيل القريب أيضا فضلا عن التوجع (آ لندء البعيد وهو مسموع الهاء المهموس)، وصحبت ذلك صورة فنية كما في قولها:
( آهٍ…
من حقدٍ ذرّاني بين شوكِ حزنٍ
يُدمي قدميَّ
كلما هَمَمْتُ بجمعِ كياني)
فتكوين الصورة يرجع إلى مملكة الخيال لأنها ملجأ ينسحب الفنان إليه من واقع لا يرضاه، وفي الوقت نفسه فالنتاج إشباع خيالي لرغبات لاشعورية(6)، فالصورة تقوم باعث معين هو (دليل القصد ومعيار لتوازن الواقعين النفسي والخارجي في نفس المبدع وبذلك يفضيان إلى نص فني, وحين يقع الفنان تحت آثار ذلك الباعث باعتبار محور التأثر يتولد العمل الإبداعي ويتأسس الأخير على مجموعة أدوات، تكون الأداة البيانية واحدة منها)(7)، فالصورة (شكل الإحساس لدى المبدع، وهي مشبعة بوجدانه وانفعاله)(8)، فكانت الصورة الشعرية عند الشاعرة سعاد معبرة عن ما يتشكل من هيجان عاطفي قوامه الشكوى:
( آهٍ…
من حقدٍ ذرّاني بين شوكِ حزنٍ
يُدمي قدميَّ) لكنها كلما حاولت تجميع أشلائها الواهنة كلما لاحقها صمت القبور (كلما هَمَمْتُ بجمعِ كياني
بملءِ صمتِ القبورِ)، إذ بقيت هذه العبارة رابطا دلاليا يستشف المتأمل إيحاءات معانيه مما يأتي في قضية السرد النصي، فهناك تلاحق في الأحداث، بدأ بالوصف وبث الشكوى.
فنجد اهتمام الشاعرة بالربط بين دلالة المفردة وعلاقتها بالذهن، أي حرصت على ربط الكلا بالذهن، فاشتغلت الكناية بوصفها أسلوبا بيانيا تهتم بالمعنى المختبيء تحت السياق، وأضافت الشاعرة سعاد إلى ذلك تأكيد ظاهرة الحذف في كلامها أي الإيجاز، فأسهم ذلك في تقليل الألفاظ وتكثير المعاني، لأن الحذف يسهم في الإيجاز الذي هو (العبارة عن الغرض بأقل ما يمكن من الحروف) فهو على وفق ذلك يعني (الإشارة)، فكانت عبارة (صمت القبور) إشارة تكررت مرات لتكون لازمة تجمع بين التصريح والتأويل كما في قولها:
(بملءِ صمتِ القبورِ
أتنفَّسُ أحلامَ الراحلين
تُلا زمُني
تَحْتظِنُني
تمتليءُ بها أحلامي شهيقاً دونَ زفيرِ
بملءِ صمتِ القبورِ أصرخُ منكم وعنكم
أوجاعَ الكون
وغربةَ عشبِ الربيعِ
حين نيروز
وأمسحُ دموعَ أُمّي عند رحيلي بعدها
أَمَا مِن أحدٍ…
لمحَ طيفي؟
أَمَا مِنْ أحدِ انتظَرَني؟)،
أصبح انتماؤها الوجداني رسالة صوتها الشعري، لأن الكلمة المنبعثة من أعماق المنشيء تتعرش على سفوح الوجدان لدى المتلقي، وأن هذا النوع من التعبير يلج أطواء السامع من دون استئذان، فتحصل الاستجابة الوجدانية، إذ يقترب العمل الإبداعي لأي شاعر من فضاء المتلقي ويقتحم أعماق الآخر كلما كانت انطلاقة الفعل الإبداعي مغمسةً بإحساس مفرط، فالعمل المؤثر هو الصادر من عمق الإحساس المرسوم بصدق فني عندما تحاصر الأيام ُالشاعرَ بأحداثها، فاستهلت الشاعرة سعاد نصها بقولها: (فرحٌ في أُفق الدجى يستصرخٌ)، وتركت الأمر محذوفا ليشترك القاريء معها، فضلا عن أنها جاءت بعنوان نصها (رسائل) لتؤكد مشاركة السامع لها، فكلمة (الرسالة) باتت علامة لأن الشاعرة سعاد جاءت بهذا العنوان بعد أن ساعدت عوامل نفسية كانت كامنة في أعماقها وتموجت على وفق انفعالها الوجداني، فجاءت دفعة الكلام بسبب فكرة تعتمل في أعماقها فتصدرت الفكرة كلامها، لأنه (ما أضمرَ أحدٌ شيئاً إلاّ ظهر في فَلَتَاتِ لسانهِ وصفحاتِ وجههِ)، فالقصيدة (لا تبزغ دفعة واحدة من دون أن تكون لها مقدمات)، ثم أن الشاعرة ارتضت زمن الحاضر زمنا نفسيا لنصها قائمًا على الاستفهام وكأنه يحمل عتابًا
(أما من أحدٍ يلمحُ طيفي؟
أما من أحدٍ ينتظرني؟)..
ولما يئست من الحالمين تأوهت معلنة زمناً نفسيً آخر حاملًا السبب نفسه (آهٍ… من حقدٍ ذرّاني بين شوكِ حزنٍ، يُدمي قدميَّ)، فهي كلما حاولت تجميع أشلائها لا نفع من ذلك لأن الوصف يرافق نصها وقد منحته شكل صمت القبور، إذ إنها جعلت المستحيل قبالة أمنية باتت هي الأخرى خرساء لأن الشاعرة ارتضت لنفسها أن تتنفس أحلام الراحلين، لأنها تصرخ من هؤلاء الذين لا فائدة من مناشدتهم، وفي الوقت نفسه جعلت صراخها دفاعًا عنهم، فأي صمت يعتري عالم هؤلاء الحالمين، فأجادت الشاعرة في هذا الوصف الناقد لواقع معيش حين جعلت الشهيق لا زفير له، فاشتغلت الكنايات في مشغل تعبيري موحٍ بالصورة وموفٍ بالمعنى، (كلما هَمَمْتُ بجمعِ كياني بملءِ صمتِ القبورِ/ أتنفَّسُ أحلامَ الراحلين/ تُلا زمُني/ تَحْتظِنُني/ تمتليءُ بها أحلامي شهيقاً دونَ زفيرِ/ بملءِ صمتِ القبورِ أصرخُ منكم وعنكم)، ثم صرّحَت الشاعرة بأن ما ينتابها يعادل أوجاع الكون، وأن السبب هؤلاء الصامتون حدّ اكتساب صفة صمت القبور، وتألقت حين جعلت عشبة الربيع غريبةً، فبالربيع يخضَرُّ النبات إذا وجد بيئة تٌسهم في اخضراره ونموه، ولا سيما في (نيروز) رمز الجمال الطبيعي، لكن الشاعرة لم تجد هذا في واقعها، إنها النظرة المأساوية المرافقة لرؤيتها الشعرية، (أوجاعَ الكون/ وغربةَ عشبِ الربيعِ/ حين نيروز)، وبقيت الشاعرة تعيش خيبة الآمال لأنها عوّلتْ على مسح دموع أمها، غير متناسية توجيه السؤال للآخرين علَّهم يلمحون طيفها كناية عن اليأس، فضلا عن العتاب والشكوى معا لأن لا أحد ينتظرها (وأمسحُ دموعَ أُمّي عند رحيلي بعدها/ أَمَا مِن أحدٍ… لمحَ طيفي؟/ أَمَا مِنْ أحدِ انتظَرَني؟)، لقد قدّمَت الشاعرة رؤيةً مشبعةَ بالنقد لواقع تعيشه ويعيشه الآخرون في لحظة الإنطفاء، فكانت كلماتها رسائل فعلية، إذ حققت الشاعرة الكامن أو المسكوت عنه في نصها فانطبق العنوان (رسائل) على المعنون وبات النص بأكمله علامة كبرى غذته انفعالات الشاعرة، وكانت أقرب إلى التصريح، إذْ فزّت كلماتها لتبوح بالأثر والتأثير معًا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – آليات الشعر النفسية والفنية وسمات الشاعرية، د. باسم فارس الغانمي، المكتب الجامعي الحديث، الإسكندري، مصر، 45.
2– م، ن، 48-49.
3ـ ظ: تفسير الأحلام، فرويد، ترجمة: مصطفى صفوان، دار المعارف في مصر(د.ت)، 28.وظ: الأسس النفسية للإبداع الفني في الشعر، مصطفى سويف، دار المعارف, مصر ط3 ,1970م, 242.
4 – الحجاج بين النظرية والأسلوب، عن كتاب نحو المعنى والمبنى، باتريك شارودو، ترجمة: أحمد الودرني، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيرو، لبنان,2،، م، ط 1، 17.
5 – صوت المنافي، شعر: سعاد العتابي، دار المختار للنشر والتوزيع، القاهرة، 2018، قصيدة (رسائل)،60 .
6– الموجز في التحليل النفسي، فرويد، ترجمة: سامي محمود علي، عبد السلام القفاش، دار المعارف مصر(د.ت)، 93 .
7أثر البواعث في تكوين الدلالة البيانية شعر جميل بثينة مثالا، أ.د صباح عباس عنوز، طبعة دار المختار للنشر والتوزيع لسنة 2018، القاهرة، 3،.
8– الصورة الفنية بين حسيتها وايقاع المعنى، د.صباح عباس عنوز، دار السلام، بيرروت، لبنان،1431ه-2010م، 15.