ظاهرة الفقد في القصة القصيرة جدًا مقدمة المجموعة القصصية (الفصول الأربعة) للقاص علي غازي بقلم: د. جاسم خلف الياس
ظاهرة الفقد في القصة القصيرة جدًا
كلما تيسر لي الاطلاع على نصوص قصصية قصيرة جدا تمتلك ما يؤهلها لأن تكون فاعلة في هذا النوع الأدبي، أجدني في حيرة ودهشة، وأتساءل كيف استطاعت هذه النصوص باشتراطاتها الفنية أن تشكل بحرا عميقا، لا يقوى المرء (القارئ) على تحمل أمواجه المتلاطمة بعنف واضطراب، وأبقى أقارن بين تلك الاشتراطات والاجتهادات النقدية التي فصّلت فيها، والتي تم تعزيزها بانموذجات تتسم بخصائص منفردة، تستحق الاهتمام قراءة وتأويلا. ومن هذه النصوص، القصص القصيرة جدا التي ضمتها مجموعة (الفصول الأربعة) للقاص علي غازي، الذي شاكس فيها الذائقة الخاملة، وانطلق إلى الذائقة الفاعلة، وهو يعري الواقع الاجتماعي المؤلم، ويتوغل في تنضيد البعد اللغوي وهو يشكل المرتكز الأساس في القصة، فيختزل ما يكتب في صفحتين أو ثلاث في أربع أو خمسة أسطر، ويكثف الحدث إلى حد لا يحتمل زيادة جملة واحدة، فيمنح القارئ ثقة بأن القصة القصيرة جدا ما زالت تتوق إلى الابتكار والتطور، وأن كتابها ما زالوا يحتفون بالوعي الحاذق من أجل تشكيل نسيجها القصصي بشكل فاعل.
تنهض مجموعة (الفصول الأربعة) للقاص علي غازي - من العتبة النصية الأولى العنوان وحتى آخر قصة - على ظاهرتين تجلتا بوضوح هما: ظاهرة الفقد تدليلا، وظاهرة القصر جدا تشكيلا، إذ يشكل الفقد بوصفه طاقة عالية من التفجع والسواد والخراب جزءا من جدلية الحضور/ الغياب أو الوجود/ الزوال، كما يولّد قلقا وجوديا، فالضياع والتشرد والانتكاس والنكبة والاحتلال، كلها يشكلها الإيقاع الصاخب لنبرة الفقد الفاجعة وهواجسها الصادقة، وإن القيم الجمالية في تجسيد ظاهرة الفقد لا تكمن في حصرها في الجانب الوجداني الذاتي فحسب، وإنما ترتبط برؤية العالم عبر جدلية الحضور/ الغياب وتوظيف تقانات القص، وصولا إلى المعاناة الجماعية، ولا سيما ويلات الحروب والانهيارات التي تم فيها فقد الحبيب والزوج والابن والأب... وغيرهم. ((ولما كانت تجربة الفقد في جوهرها واحدة، فإن ما يصيب المحبين من جفوة أليمة، وفراق قسري، تشكل حالة فقد خاصة، تنبض بالهجر، وتشع برغبة جامحة في الموت، والاتحاد بالطبيعة، حيث الخلود والخلاص الدائم)). وقد تمظهر فعل الفقد في أغلب قصص المجموعة، فتجلت الظاهرة في فقد الأم لزوجها أو ابنها، والحبيبة في فقد حبيبها، والأب في فقد زوجته أو أبنائه، والعاشق لمعشوقته، والعذراء لبكارتها، والمرأة لسعادتها، وقد جعل القاص اللسعة أو اللدغة أو الإقفال النصي المنطقة الأكثر توترا في القصة.
إن التقاط القاص التفاصيل اليومية بلعب ترميزي وإيقاع خاص، هو استجابة لليقظة المكللة بالولوج إلى الواقع، وكشف اختلالات التأزيم الاجتماعي، ورصد في غاية الدقة، لجمال النور المندلق من أعماق الروح، وشحن القارئ وهو يقتات اللحظات الشعورية بكل مسمياتها، ولا يفوتنا أن نشير إلى التقسيمات التي اجتهدها القاص في تقسم المجموعة على أربعة فصول، وعنون كل فصل بعنوان خاص، ويعد هذا ابتكارا يضاف إلى الابتكارات التي جعلت غيره من القصاصين في مقدمة الإبداع في هذا النوع. ومن أجل تعزيز قولنا سنسعى إلى قراءة قصة واحدة، ولتكن الأولى على سبيل المثال لا الحصر، ونترك القصص الأخرى للقارئ، كي يدلو بدلوه في هذا المنجز القصصي الرصين.
القصة: اشتياق
((فـي خريـف سنة الحرب رحت الراهبة. فتـَعـاقـبت على حـقلـها، سبعة فصول جـرداء، أذبـلَتْ زهـورهـا، وكلـّمـا مـرّت ريـح آذار، رتـّلَ الـنّاقـوس صـلاة الوحشةـ وأنـّتِ الـفـزّاعـة:
- أنا ياغائبي... شجرة.)).
يؤدي الزمن (الخريف) إيحاء شفيفا يقود الجملة بكاملها إلى (التجاوز في علاقة الانزياح) ضمن دائرة التعبير القصصي/ الشعري، مشكلا التقاطب الاستعاري الأكبر الحضور/ الغياب، في تقابلات مزدوجة (وجود، ربيع/ زوال، خريف) أو (حياة، حب/ موت، حرب) حضور، مكوث/ غياب، رحيل) وغيرها. ماذا ستفعل هذه التقاطبات؟ ستعمل حسب السياق النصي على توسيع دائرة الغياب التي تشمل اليباس والقحط واليأس في سبعة فصول جرداء، وتستمر فاعلية الغياب (الموت) الذي سيصيب الزهور في ذات اللعب الترميزي، والإيحائي (أذبلت الزهور)، ثم يعمل على تحويل الزمن الفيزيائي (كلما) مرت ريح آذار، إلى زمن نفسي، رتّل الناقوس صلاة (الوحشة)، ليقفل السارد القصة بجملة تتعلق دلالتها بالعنوان (اشتياق) وهي: أنا يا غائبي.. شجرة. ولكي تستمر الشجرة في العطاء والاخضرار والحياة، لابد من ماء برويها، وشمس تغذيها، لا أن تتحول إلى فزّاعة. في الأسطر القليلة كشف الشاعر عن العاصفة التي هبت على هذه المرأة وحوّلتها إلى حطام اجتماعي بائس.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجموعة الفصول الأربعة للقاص علي غازي/ صدرت عن دار المختار للنشر والتوزيع / القاهرة