أخبار قناة الشمس

×

اضغط هنا إن لم يقم المتصفح بتحويلك آليًا.
مديرة التخرير سعاد العتابي

دق الناقوس في فنيات كتابة النصوص (2).. بقلم: مختار أمين


image

كنت قد تكلمت في الجزء الأول من هذه الدراسة مستشهدا بنص عن (الموضوع)، وشرحت كيفية كتابة الموضوع بأسلوب سهل ماتع جاذب فحوه حرفية الكاتب، ومدى مقدرته على امتلاك أدواته، وإن حكى موضوع (محكي) تناولته ملايين القصص.
واليوم سأتناول عنصرا آخرا يخص الأسلوب وفنيات السرد مستشهدا بنص "حرب المجهول" للكاتب بدوي الدقادوسي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
حرب المجهول/ بدوي الدقادوسي

مذ وعيت الحياة وهو يطاردني. حاولت مواجهته. خضت حروبا طويلة خرجت منها خاسرا خسائر أحالت حياتي جحيما.. فلقد خرجت بعاهة مستديمة وهي مرض النسيان الذي أعياني أن أداويه.. فعندما فتح الله عليّ واستأجرت شقة كنت أفقد مفاتيحها كل يوم. ولما اعتدت حملها وصارت جزءا مني فتح الله علّي بجوال كنت أنساه أينما أذهب ولما ضجت زوجتي اشترت لي جرابا لأعلقه بحزام بنطالي .ولما اعتدت عليه وصار جزءا مني. فتح الله عليّ واشتريت سيارة وفور وصولي لعملي أفتح بابها وأنزل مسرعا وقد نسيت مفتاحها بالداخل وأستعين بالخبراء وبعد ساعات يتم فتحها.. ولما اعتدت عليها وصارت المفاتيح والجوال جزءا مني في منصف العقد السادس من عمري كانت أسناني قد ودعت فمي فاستعضت عنها بطاقم أخلعه عند النوم فأقوم لعملي مسرعا حاملا الجوال والمفاتيح وعند باب السيارة أتذكر طاقمي فأصعد مسرعا لأجدها تلقاني به وهي في نوبة قرف على السلم .ولما أغلقت العام الستين وكنت قد اعتدت على الجوال والمفاتيح وطقم أسناني وصاروا جزءا من كياني .اليوم أقاموا حفل تكريم لخروجي للتقاعد.. عدت للبيت لا تحملني قدماي فأهداني ولدي عصا قيّمة أتوكأ عليها وفي الصباح وضعت طاقم أسناني في فمي والمفاتيح في جيبي والجوال في الحزام وناولتني مشفقة عصاي.. انطلقت سعيدا بانتصاري على المجهول. جلست بالسيارة أدرت المحرك ونسيت أين سأتجه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لا أخفي عليكم أنني سأتجنب تشريح الجمل، ولا أخوض البتة البحث في عقر صميم اللغة من الناحية الشكلية، ولا أركب الأدهم جواد عنترة لخوض معارك لنيل درر جمال اللغة العربية من حيث: (علم النحو والصرف ـ علم البلاغة ـ علم البيان ـ علم المعاني ـ علم البديع) على الأقل في هذا النص تحديدا، ولكن اللغة بكل شمولها واتساعها هي محور بحثي هذا "دق الناقوس في فنيات كتابة النصوص" لنفوز جميعا بفك شفرات إشكالية اللغة في النصوص الأدبية الحديثة وفق نهج علمي مدروس، ونزرع في أرض الواقع المعاش الآني لغة أدبية هي النموذج والمثال، ونرسم لها صرحا عاليا تبدأ درجاته الأولى من اللغة البسيطة شكلا في جمل سهلة البناء والتركيب، أحجارها من ألفاظ مستعملة نقيّة تطرب أذن المتلقي الشارد، وتحيله إلى زمن طرب اللغة مستعطفا ذكريات الفطرة المفطور عليها العربي، لتطوّر الكاتب، وتفتح شره نهمه للبحث والإطلاع، والقراءة في الموروث التراثي العربي الضخم؛ وتخلق جيلا جديدا من الكتاب يدرك ماهية الأديب، ويعرف قيمة النص الأدبي وخصوصيته، وتذوب اللعثمة والثأثأة من على لسانه، ويخرج من براثن الخلط والتشويه في مسميات النصوص الأدبية، وملما إلماما جيدا بتكنيك كل نص أدبي على حدا؛ فإن سلك الدرب ووعاه خلق جيلا من القراء، وأعاد المتلقي الشارد، وإني لأعيش بحكمة قلّما تخطئ: "كلما تثقف الأديب جذب؛ فإن تعالى الكل منه نفر".
مع نص حرب المجهول للكاتب بدوي الدقادوسي:
نوع آخر من النصوص التي تحمل الأسلوب المباشر وتذهلنا في الخاتمة، وكأن الكاتب داعبنا بأرجوحة صنعها من أدوات بسيطة عمدا.. بين شجرتين عاليتين من غابات الحكايات مستخدما لحاء الكلمات، وجدله وصنع أرجوحته بكل بساطة، ووضع فيها فلذة من فلذاته متحديا السقوط، وأخذ يدفع نصه إلى أقصى ارتفاع في الهواء.. واثق هو أنه سيتفادى الوقوع في الزلات، وأنه سيدهش حقا.

بين التقريرية المذلّة، والتقريرية المدلّة في فنيات أساليب السرد الأدبي:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
التقريرية المذلة في النص الأدبي هي التي تتكلم على لسان النص ولا تتيح الفرص لتأويله، أي أنها تبقر بطن جنين الإبداع بجمل كالمشرط الغشيم الذي يقطع ويشوه.
بينما التقريرية المدلة هي التي تقودك إلى التأويل؛ تأويل الألفاظ والجمل والعبارات، كالبناء المتراص المنسجم شكلا وموضوعا لتنجب مولودا جديدا سليما معافا بهي الطلعة.
التقريرية المدلة تتكلم لصالح النص ولا تتكلم ضده؛ تقريرية المبدع الواع الذي يغزلها بغزل الأسلوب السلس البسيط -السهل الذي يمتنع على المبتدئ- ويصعب عليه؛ فيسقط نصه قتيلا منحدرا من على سفح جبل قمة العظماء في عزلة تصوفهم لينالوا رسالة الإبداع.
فنجده أنه يقرر عن نفسه معترفا بعجزه في مطلع النص، فيقول: "مذ وعيت الحياة وهو يطاردني. حاولت مواجهته. خضت حروبا طويلة خرجت منها خاسرا خسائر حالت حياتي جحيما.. فلقد خرجت بعاهة مستديمة وهي مرض النسيان الذي أعياني أن أداويه" فهذه العبارة التي تدلنا وترشدنا عن مضمون واضح يقره الراوي عن نفسه.. من خلال جمل مباشرة كما لو أنها أجوبة على أسئلة سُئلت قبلا تمثل اعترافا.
فالحق ينبغي أن نقول: قد تنجو الجملة الأولى "مذ وعيت الحياة وهو يطاردني، وحاولت مواجهته" إن فاداها الكاتب من التقسيم الصريح بالفصل التام بنقطة (.) دالة على اكتمال المعنى قبل مقطعها الثاني (حاولت) وقسمها بفاصلة (،) وأعطفها على حرف الواو على (حاولت) كما تبرعت بكتابتها للمثل. كانت مبررة لما يأتي بعدها من جمل مفصولة فصلا تاما بنقط، وتحيلنا من التقريرية المذلة في ركاكة الأسلوب إلى تقريرية مدلة تعد لنا عددا من الأحداث تستوجب إلزام الخوض في تفاصيلها بحدث أو عدد من الأحداث؛ فيعد مقبولا.. عملا بقاعدة الضد لواو الثمانية العددية، وهي واو عطف تدخل على المعدود الثامن لتعطفه على ما سبق ويكون مغايرا لبعض المذكورين قبله في بعض الصفات، وهنا نستشهد بضد هذه القاعدة في الجمل عكس المعدود اللفظي. لو أننا فصلنا الجملة الأولى بواو واحدة على معدود بعدها لجمل قصيرة أو حالات شعورية أو أعمال يفصل بين كل منها نقطة يصح التقرير، ويصبح مدل يستوجب التفصيل.
ونجد الكاتب بعد أن قرر على لسان الراوي، ووصف أنه تحت وطأة عجز ما.. سرد لنا أحداث متتالية تدل عليها جمل قصيرة توضحها، ولكني أعيب عليه عدم الالتزام بعلامات الترقيم الواجبة التي خلت من هذه الجمل، والعبارات.. (ربما أصابته لعنة "الفيس بوك" كما تصيبني دائما، وأنا أكتب مشدودا للحاق بجاذبية عجلته السريعة الإيقاع، وأخطئ في القواعد النحوية والإملاء أيضا؛ فعذره معه لأنه أستاذ في اللغة) وعلامات الترقيم مهمة أهمية كبرى في النصوص الأدبية، وإلا ما دلالة شرحنا السابق بأن النقطة أو الفاصلة أو أي علامة خطأ تؤثر على جودة النص الأدبي، وتحول مفهومه ومساره من خلال النقد التطبيقي العلمي.
فنأتي للخاتمة المفسرة المدهشة، الآتية بحدث متكرر مشابه في العزف على سيمفونية التنويع، لتفسير العجز وأثره على الراوي، كما لو أنك تسمع سيمفونية لبيتهوفن، وتظن أن مقاطعها الموسيقية متشابهة أو متكررة، وكما يعلمنا معلم اللغة الأول على مدار الدنيا القرآن الكريم، والبيان في آياته، ويظن الجاهلون أن الآيات متشابهة، ولكنها نزلت بتنويع متعدد فريد ليس بغية في ضرب الأمثلة في البلاغة للعرب كما يظن البعض، ولكن لتعلمنا من بين علومها علم آخر مهموم بالبحث فيه، وأوشكت على نهايته مستخلصا "أن اللفظ العربي له ثلاث درجات" وأن القول الواحد في بلاغته يصح تطبيقه وأخذ المشتق منه والغاية في مواقف مختلفة، وأحداث مختلفة، وعصور مختلفة، وأجناس مختلفة.
أتى الكاتب بحدث الخاتمة، إنجاب المولود الخارج من رحم الأحداث التي سردت لتعطينا البغية من الموضوع المعروف سلفا، وفضحه الكاتب بشق بطنه مقدّما بمشرط لسان التقريرية المدلة الواعية، ليترك في المتلقي بخاتمة نصه أثر الدهشة، ليجعله يفكر في النص مرات ومرات عندما تركك هنا: "في الصباح وضعت طاقم أسناني في فمي، والمفاتيح في جيبي، والجوال في الحزام، وناولتني مشفقة عصاي.. انطلقت سعيدا بانتصاري على المجهول.
جلست بالسيارة وأدرت المحرك، ونسيت أين سأتجه؟."
ترى إن كان ما حول الراوي من عائلة نجحت في صد رأب هذا العجز، وعلاج هذه الآفة (النسيان) على حدود مواقف وتصرفات معروفة. هل تضمن تصرفات هذا الرجل وهو متحررا من مراقبتهم خارج البيت؟ ترى أين سيتجه؟ وهل سيجد من يدله لمنزل العودة ليسكن فيه للأبد؟.
وتحاصرك جيوش الأسئلة النابعة من الحسرة، ويلعب في داخلك طفل الإبداع الجاذب من النص.
 0  0  369