قراءة نقدية لـ نص "عتب" للأديب: مختار أمين بقلم: الناقد محمود عودة
ﻋتـــب
بقلم: مختار أمين
ها أنا..
ما زلت أجلس هناك.. عند رصيف الخسّة والخيبة والرجاء. ﻃﻔﻠﺔ شاردة ﺗﻨﻬﻤﺮ الدموع ﻣﻦ ﻋﻴﻨﻴﻬﺎ ﻓﻲ جحوظ المحروم، تزغرد.. تبرق.. ﺗﺘﺠﻤﺪ ﻓﻲ ﺷﺮﻳﺎﻧﻲ، تعود لترسم بسمة بلهاء..
مازلت أقصد ﺳﻤﺎﺣﺔ العابرين، أقضم من أيدهم المغلولة جزءا ﻣﻦ حنان، أستدر ﻣﻨﻬﻢ عطفا مكسور البسمة معوج الشفة..
طورني المطوّر، وفي الليل سكب على جسدي سحر النماء، وأصبحت أنثى تصلح لكل الرجال العابثين، وكل الغلمان النائمين بجواري على نفس الرصيف..
ﻛﻠﻨﺎ ﺑﺄﻃﻔﺎﻟﻨﺎ ﻧﻠﻬﻮ ﺗﺤﺖ ستر هذا الكوبري العتيق، لا أحد منهم يرانا بأطفال المتعة والخدر والشقاء والتعب، ﻧﻨﺠﺐ أنفسنا ﺑﺄﻧﻔﺴﻨﺎ مع أول طلقة بلوغ ﻧﺤﻤﻞ، وننجب، ونتكاثر..
ابنتي تشبهني كثيرا، ولا تشبه أحدا من أبائها، شعرها الذهبي الأشعث بالفطرة، وعيناها الواسعتان بسواد ألق ﻏﺮﻳﺐ، يقوّم حرمان بحروف مكسورة ﻳﺤﺒﻮ ﻋﻠﻰ ﻣﻘﻠﺘﻴﻬﺎ.. ﻳﺘﻬﺠﻰ السطوع، ووجنتان بيضاويتان ﺗﺠﻠﻠﻬﻤﺎ حمرة تشبه الترف، ربما غليان الحاجة ﻳﺸﺐّ طوره ﻓﻲ ﺟﺴﺪﻫﺎ الصغير، ﺗﺴﺘﻔﺰﻧﻲ، ﻗﻠﻴﻼ ﻣﺎ ﺗﺒﻜﻲ، دائما ﺑﺎﺳﻤﺔ.. ﻋﺠﺒﺎ!
الجنس والمخدرات عادة ﻳﻮﻣﻴﺔ ﻓﻲ ﺷﺮﻋﻨﺎ، ﻳﺤﻠﻮ ﺗﺠﺮﻋﻬﻤﺎ ﻗﺒﻴﻞ الفجر ﻟﻴﺠﺬﺑﺎ النوم اللذيذ، ﻻ ﻧصوم ﻋﻨﻬﻤﺎ ﻳﻮﻣﺎ واحدا، ﻏﻴﺮ ﻓﻲ النادر القليل ﺣﺘﻰ ولو أصاب أحدنا المرض..
زوجي الصديق أقرب أزواجي إلى ﻗﻠﺒﻲ وأكبرهم ﺳﻨﺎ، ﻳﻔﻜﺮ ﻓﻲ الفكرة ﻧﻔﺴﻬﺎ، ﻋﻨﺪﻣﺎ ضرب رأسينا الخمر الذي ﺳﺮﻗﻨﺎﻩ ﻣﻦ تبلوه السيارة الفارهة ﻧﻔﺴﻬﺎ.
ﻛﻨﺖ أضحك ملء صدري على الكورنيش، وتركت شعري الذهبي للهواء، وزوجي المخمور يطير بالسيارة، واﺑﻨﺘﻲ ﺗﺸﺎﻫﺪ اﻟﻌﻤﺎﺋﺮ اﻟﻌﺎﻟﻴﺔ، والأﺷﺠﺎر ﺗﺘﻼﺣﻢ ﻣﻦ ﻧﺎﻓﺬة السيارة، وﻫﻲ ﻓﻲ ﺷﺮود ﺑﺴﻤﺔ الكبار..
ﻛﻨﺎ ﻗﺪ اﺗﻔﻘﻨﺎ ﻋﻠﻰ الهدف، أن نقذف ﺑﺄﻧﻔﺴﻨﺎ ﻣﻦ فوق الكوبري ﻋﻠﻰ اﻟﻨﻴﻞ والسيارة ﻓﻲ آﺧﺮ ﺳﺮﻋﺘﻬﺎ، أو ﻧﻌﺒﺮ ﺑﻬﺎ ﺣﺪود ﻟﻴﺒﻴﺎ، وﻧﺒﻴﻌﻬﺎ ﺑﻨﺼﻒ اﻟﺜﻤﻦ ﻋﻠﻰ الحدود.
ها أنا أراها وأﻧﺎ ﻧﺎﺋﻤﺔ ﻋﻠﻰ ﺳﺮﻳﺮ اﻟﻤﺸﻔﻰ، مبتورة الساق عمياء، وزوﺟﻲ ﻟﻘﻰ حتفه، أراها ﺑﻤﺨﻴﻠﺔ رأﺳﻲ، وﻛﻞ العابرين ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻣﻦ الصفوة يركلونها ﺑﻨﻈﺮات ﺗﻤﺜﻞ الرحمة، وﺗﺘﺮﻛﻬﺎ وﺗﻌﺒﺮ ﻗﺒﻞ ﻧﺎﻇﺮﻫﺎ، ﺣﻴﺚ ﺗﺄﺗﻲ آلاف اﻟﻠﻴﺎﻟﻲ، ومئات سياط من الخدر والتيه، وتنجب الأولاد أولادا، تملأ الشوارع ﻓﻲ ﻟﻴﻞٍ ﻳﺨﻴّﻢ ﺑﻬﻴﻢ..
(القراءة النقدية)
بقلم: محمود عودة
ترددت كثيراُ قبل الولوج الى داخل هرم أدبي شامخ وقامة عالية الهامة.. أستاذ مختار أمين.. ولكنه نصه الرائع شدني بقوة فلم أستطع المقاومة والأفلات من براثن هذا الأبداع.
لفت نظري العنوان "عتب" ما جعلني أغوص بين كلماته وجمله الرشيقة والسريعة والمعبرة فوجدت أن الكاتب يوجه عتابه الى المجتمع ككل .
بدأ أديبنا الرائع نصه بكلمات فتاة حشرتها ظروفها الحياتية في زمرة فئة يطلق عليها " أولاد الشوارع " وهي فئة تعيش وسط مجتمعاً متكاملاً.. الأرض فراشهم والسماء غطاءهم والخمور والفحشاء غذاءهم.
" ها أنا .. ما زلت أجلس هناك .. عند رصيف الخسة والخيبة والرجاء .. طفلة شاردة .. " أراد الكاتب أن يضع القارىء في خضم هذه الفئة من خلال الفتاء الراوية .. في فقرة اعتراضية جاءت من الكاتب واصفا للمتلقي حالة هذه الفتاة نفسيا وجسدياً.. " تنهمر الدموع من عينيها في جحوظ المحروم .. تزغرد.. تبرق .. تتجمد في شرياني.. لترسم بسمة بلهاء "
وبهذه الجملة يخرج الكاتب بالمتلقي من مشاعره الخاصة الى الفتاة فتسرد له حالتها وكيف تستدر عطف العابرين وهي طفلة، ثم يطورها المطور، نما جسدها فيعبر الكاتب عن نموها بعبارة أدبية بسيطة لكنه معبرة بقوة " طورني المطور، وفي الليل سكب على جسدي سحر النماء " ثم يذهب بنا الكاتب مع هذه الفتاة وهي تسرد لنا حياتها، كيف تعيش مع فتيان وفتيات أعمارهم مقاربة لعمرها أو أكبر قليلاً بلا قيود ولا حواجز بعيداً عن القوانين ، حياة الخدر والسكر والمتعة الجنسية وقد برع الكاتب بدقة متناهية في وصفه لهذه الفئة من خلال الراوية " كلنا بأطفالنا نلهو تحت ستر الكبري العتيق، لا أحد منهم يرانا .. بأطفال المتعة والخدر والشقاء والتعب "بعد هذا الوصف ينتقل الكاتب بالمتلقي الى الحياة اليومية لهذه الفتاة مع مجموعة الفتيان والفتيات أمثالها يجمعهم الجنس بعد شقاء النهار.. ينجبوا ويتكاثروا ووصف الكاتب هده الحياة بجملة معبرة جداً " ننجب أنفسنا بأنفسنا مع أول طقلة بلوغ نحمل وننجب ونتكاثر"
وبهذا السرد الرائع ومن خلال عنوان النص عتب أجد الكاتب الملهم يوجه تحذيرا قوياً بضرورة الالتفات والاهتمام لهذه الفئة من المجتمع وعدم تهميشها حرصا على حياة سوية وبعيداً عن الأمراض المعدية وإن لم يذكر ذلك صراحة .
وتستمر الفتاة تتحدث من خلال قلمه المبدع عن حملها وإنجابها طفلة تشببها ولا تعرف من أباها لتعدد أزواجها وتقول الراوية " الجنس والمخدرات عادة يومية .. يحلو لنا تجرعها قبل الفجر ليجذبان النوم اللذيذ .. لانصوم عنها يوماً واحداً غير القليل النادر حتى لو أصاب أحدنا المرض "
وبهذه الجملة على لسان الراوية أراد الكاتب التحذر من خطورة هذه الفئة المتشابكة مع المجتمع عامة من تسلل المرض كما أشرت سابقاً.
بعد ذلك يقوم الكاتب بتهيئة المتلقي الى الحبكة الرائعة والمتقنة بوفاة صديق الفتاة وأقرب أزواجها لها بعد تجرعه كمية كبيرة من الخمر من خلال الزجاجة التي وجدها على تابلو السيارة الفارهة ثم ركبها وانطق بها والى جانبه الفتاة ، وفكرا بقذف أنفسهما من فوق الكبري على النيل أو عبور الحدود الى ليبيا وبيعها بنصف الثمن وبذلك يريد الكاتب أن يجعل المتلقي يفهم أن هذه الفئة تعيش معاناة قاسية وفي نفس الوقت خطورة على المجتمع المهمش لها من خلال سرقة السيارة الفارهة ثم الرغبة في الانتحار أو الهروب من المجتمع . " كنت أضحك ملْ صدري على الكرنيش وتركت شعري الذهبي للهواء وزوجي المخمور يطير بالسيارة بنا وإبنتي تشاهد العمائر العالية والأشجار تتلاحم من نافذة السيارة وهي في شرود بسمة الكبار " وبهذه العبارة نقلنا الكاتب البارع قبل أن يصل الى الحبكة الى أحلام هذه المجموعة المهمشة من المجتمع رغم البؤس والشقاء وحياة الرذيلة .
وأخيراً تنتهي حالة هذه الفتاة " نائمة على سرير في المشفى مبتورة الساق عمياء وزوجي لقي حتفه " ثم جاءت العبارة الأخيرة او ما يعرف بالقفلة " وكل العابرين عليها من الصفوة تركلها بنظرات تمثل الرحمة وتتركها وتعبر قبل ناظرها "
وبهذه الحبكة أراد الكاتب أن يصل بالقارىء الى نظرة الصفوة من المجتمع الى هذه الفئة ، مجرد نظرة .. فقط نظرة رحمة مشبوهة وتنتهي الى لا شيء .. " حيث تأتي آلاف الليالي ومئات سياط الخدر وتنجب الأولاد أولاداً تملأ الشوارع في ليل يخيم بهييييم " . بهذه الفقرة المعبرة جداَ أنهى الكاتب البارع نصه والتي جاءت محبكة وكل حرف فيها له دلالة ومعني بلا أدنى زيادة .
أقدم قراءتي المتواضعة في نص أديب بارع يجلس بهامته في قمة هرم الأدباء .. أرجو أن أكون وفقت في قراءة وتحليل هذا النص المبهر بإمكانياتي الدبية المتواضعة .... مع خالص مودتي وتحياتي
محمود عودة