أخبار قناة الشمس

×

اضغط هنا إن لم يقم المتصفح بتحويلك آليًا.
المخرج محمد فرحان

تداعيات من وحي روتردام السينمائي: عن الأفلام والعروض والجمهور

مهرجان روتردام السينمائي هو أول المهرجانات الكبيرة التي تقام في أوروبا، يوازيه في أميركا الشمالية مهرجان سندانس، فكلاهما يقام في أول شهور العام، أي في شهر يناير، حيث تنخفض كثيرا درجات الحرارة إلى ما تحت الصفر، وعادة ما ينتشر الجليد في الشوارع قبل أن يتحول إلى ثلج يتسبب في الكثير من المعوقات والمشكلات أثناء السير، ورغم ذلك تلقى عروض مهرجان روتردام الذي بدأت أتابعه في 2002، إقبالا جماهيريا كبيرا من جانب جمهور المدينة التي يبلغ عدد سكانها نحو مليون نسمة.

العرب أمير العمري [نُشر في 2017/01/31، العدد: 10529، ص(16)]


مناقشة عروض الأفلام روح المهرجان

تبدأ العروض الصباحية في مهرجان روتردام السينمائي في التاسعة صباحا، وهو وقت مبكر بالنسبة إلى غالبية الناس في فصل الشتاء القارس، والكثير من جمهور مدينة روتردام الشغوف بالسينما يحصل على جزء من عطلته السنوية لكي يتمكن من متابعة عروض المهرجان الذي يمتد عبر اثني عشر يوما، يعرض خلالها المئات من الأفلام القصيرة والطويلة من أكثر من 80 دولة في العالم منها دول لا يتصور الكثيرون أنها تستطيع أن تنتج أفلاما سينمائية أو أن لديها مخرجين وممثلين، مثل كازاخستان وقرغيزستان وبورما ومنغوليا ومالي وغيرها.

وليس من الممكن تصور وجود قاعة عرض لا تمتلئ عن آخرها بالجمهور مهما كان الفيلم ومن أي بلد كان، فهناك انفتاح كبير للغاية في هولندا وغيرها من بلدان أوروبا الغربية عموما، على ثقافات البلدان الأخرى، على عكس ما يتصور كثيرون.

الطاقية هي سلاحك

في مهرجان روتردام لم يعد ما يسمى بـ”الكتالوغ” ذلك الكتاب الضخم الذي يحوي تفاصيل كثيرة خاصة بجميع الأفلام المشاركة وأقسام المهرجان، فقد انتهى هذا التقليد ليفسح الطريق أمام عالم الإنترنت
يستيقظ عشاق السينما مبكرا، ويهرولون وهم يرتدون المعاطف الثقيلة والطواقي التي تغطي الرأس والتي أسميها أنا “طاقية عم حمدان”، فهي تشبه تماما الطاقية التي يرتديها الصعايدة والفلاحون في مصر، ولكنها أصبحت منذ سنوات “موضة” شائعة، فهي البديل الأمثل عند سائر شباب أوروبا لاتقاء برد الشتاء عن طريق تغطية الرأس والأذنين، وأصبح من الصعب رؤية أحد لا يرتديها بعد أن انقرضت القبعات الأوروبية الكلاسيكية التي كانت شائعة في الماضي.

وعلى الرغم من أن نسبة كبيرة من سكان مدينة روتردام من العرب المهاجرين أساسا من المملكة المغربية، وتقول الإحصائيات إن عددهم يبلغ 350 ألف نسمة، إلا أنني لم ألحظ وجود المغاربة في دور العرض السينمائي التي تعرض أفلام المهرجان إلا في عروض الأفلام القادمة من بلادهم فقط، وهو ما يشير إلى تغلغل فكرة الانغلاق داخل “الغيتو”، وتفضيل البقاء على هامش المجتمع من الناحية الثقافية، أي الانعزال داخل التقاليد الخاصة والعادات الموروثة، ويمكن تبين ذلك بوضوح من انتشار غطاء الرأس (الذي يسمونه بالحجاب) بين النساء، وعدد كبير منهن أيضا يدفعن العربات الصغيرة التي تحمل الأطفال الرضع، وهو ما يدل على ارتفاع نسبة المواليد والتكاثر عموما بين المهاجرين المغاربة قياسا إلى السكان (الأصليين).

ولذلك كان من الطبيعي أن يصبح لهذا التمدد الديموغرافي مع الانغلاق على العادات الخاصة ورفض الاندماج، تأثير اجتماعي وسياسي خطير على المجتمع الهولندي خلال السنوات الأخيرة، مع تنامي الشعور بما يسميه البعض “الخطر الإسلامي”، وإن كان يتعين أن أستدرك لأقول إنه رغم وجود حزب يميني معاد للأجانب المسلمين في هولندا، إلا أن الشعب الهولندي من أكثر شعوب أوروبا تحضرا ورقيا ودماثة خلق، في التعامل مع المهاجرين ومع الغرباء عموما.

عودة إلى المهرجان أود أن أذكر أن من أكثر ما يلفت النظر هو قدرة الهولنديين الهائلة: أولا، على تشييد مبنى عظيم في وسط المدينة، على بعد خطوات من محطة القطارات الرئيسية، هو “قصر المهرجان” الذي يضم مكاتب المهرجان، وقاعات المؤتمرات، والمكتب الصحافي، ومقصف، ومقهى، ومطعما، وقاعتين كبيرتين للعروض السينمائية، ومكتبة الفيديوتيك التي يمكن للصحافيين والضيوف مشاهدة أفلام المهرجان فيها على شاشات الكمبيوتر إذا كانت قد فاتتهم مشاهدتها في العروض السينمائية.


المهرجان يعرض لأكثر من 80 دولة في العالم منها دول لا يتصور الكثيرون أنها تستطيع أن تنتج أفلاما سينمائية
ثانيا، وجود قاعدة أساسية لا غنى عنها لأي مهرجان سينمائي دولي كبير يريد أن يلعب دورا ملموسا في حياة سكان المدينة التي يقام في نطاقها، وهو وجود نحو ثلاثين دارا أو قاعة للعرض السينمائي في وسط المدينة، معظمها يقع على مسافة قريبة من “قصر المهرجان” أو المقر الرسمي له، وهي قاعات كبيرة مجهزة بأحدث أجهزة العرض السينمائي في العالم، تضمن بالتالي مستوى مثاليا في نقاء الصوت والصورة، إلى جانب المقاعد المريحة، والمستوى التنظيمي الكبير في الدخول والخروج.

العروض المخصصة للنقاد والصحافيين هنا لا تنحصر -كما يحدث في مهرجانات سينمائية كبيرة مرموقة مثل كان وفينيسيا- في قاعة أو اثنتين، بل تتوزع على أكثر من 10 قاعات، ويرجع هذا إلى العدد الكبير من الأفلام التي تشملها برامج المهرجان، وبالتالي لا يحتاج الصحافي للوقوف في صفوف طويلة أمام السينما ليضمن الحصول على مقعد، كما أن هذه الدور والقاعات كلها تضمن مساحة داخلية تتمتع بالتدفئة بحيث يكون الانتظار القصير مريحا، ولا يترك الصحافيين للبرد في صقيع الشتاء (أو للشواء تحت قيظ النهار كما يحدث في مهرجان كان)! وبالإضافة إلى العروض الصحافية الخاصة التي تسبق عادة العروض العامة للأفلام نفسها في اليوم التالي، يمكن للصحافيين والنقاد الحصول على بطاقات لحضور العروض التي تقام مع الجمهور.

ابتكر مهرجان روتردام تقليدا جديدا غير مسبوق في أي مهرجان آخر على حد علمي، هو إتاحة الفرصة للنقاد والصحافيين لحجز ما يرغبون في مشاهدته عبر صفحة ينشئها كل منهم من داخل الموقع الرسمي للمهرجان على شبكة الإنترنت، بحيث يقوم بإدخال الأفلام التي يريدها وحجز التذكرة مجانا إلكترونيا، فيتلقى على الفور رسالة إلكترونية تؤكد له حجز التذكرة عن طريق إدخالها مباشرة إلى بطاقته الصحافية، وعندما يذهب إلى دار العرض لمشاهدة الفيلم، لا يحتاج إلى الحصول على تذكرة من شباك التذاكر، بل يخرج بطاقته التي يتم مسحها إلكترونيا بواسطة جهاز صغير في يد المسؤولين عن دخول الجمهور. لم يعد بالتالي ممكنا أن يحصل الصحافي على تذكرة مجانية ثم يمنحها لصديق له، كما توفر هذه الطريقة المتقدمة الكثير من الجهد والوقت والمال، فلم تعد هناك حاجة لطباعة التذاكر وإدخالها أجهزة مخصصة لذلك الغرض.

ولم يحدث في أي وقت أن فشلت آلة المسح الإلكتروني في العثور على تذكرة قمت بحجزها مسبقا بهذه الطريقة، لكن يجب أن أستدرك وأقول أيضا إن هذا النهج يقتضي أولا وقبل كل شيء وجود جمهور يتمتع بقدر من “ثقافة الإنترنت”، ناهيك بالطبع عن القدرة على القراءة والكتابة! ومن الملاحظات الملفتة للنظر في المهرجان، أن اللغة الإنكليزية هي اللغة الأساسية والأولى فيه، أي أن كل الأفلام الأجنبية يجب أن تكون مصحوبة بترجمة إنكليزية على نفس الشريط، باستثناء الأفلام الناطقة أصلا بالإنكليزية، وباستثناء عدد قليل للغاية من الأفلام التي تكون مصحوبة بترجمة مطبوعة باللغة الهولندية في حالة ما إذا كان الفيلم قد وجد موزعا له في السوق الهولندية، ولكن تظل الإنكليزية هي اللغة المستخدمة حتى في تقديم الأفلام للجمهور العام.

ويفهم الجمهور الهولندي الإنكليزية ويتحدثها بطلاقة على مستوى الشارع، ويتعلمها الأولاد في المدارس منذ الصغر، فهناك علاقة تاريخية تربط بين هولندا وبريطانيا، ويجب أن نعرف أن ملكة هولندا السابقة فيلمينا لجأت إلى بريطانيا مع عائلتها بعد اجتياح قوات ألمانيا النازية بلادها في الحرب العالمية الثانية، وتم إجلاؤها بواسطة طراد بحري بريطاني.

ليس من الممكن تصور وجود قاعة عرض لا تمتلئ عن آخرها بالجمهور مهما كان الفيلم ومن أي بلد كان، فهناك انفتاح كبير للغاية في هولندا وغيرها من بلدان أوروبا الغربية عموما
وقد شهدت مدينة روتردام تحديدا حدثا جللا عندما اتخذ هتلر قرارا بتسوية المدينة بالأرض وإزالتها من الوجود، وذلك لأهميتها الاستراتيجية بالنسبة إلى قوات الحلفاء في بداية الحرب، ومعروف أن ميناء روتردام هو أطول ميناء في العالم، فهو يمتد على مسافة 44 كيلومترا، وتصل مساحته إلى 105 كيلومترات مربعة. وبعد تحرير هولندا عادت الملكة وظلت تحمل الكثير من التقدير والوفاء لموقف العائلة الملكية البريطانية، وكنت أعتقد في السابق أن هولندا التي تشكل مع بلجيكا ولوكسمبورغ، ما يسمى بمجموعة “البينلوكس” هي أقرب إلى فرنسا منها إلى بريطانيا، لكن ثبت أن العكس هو الصحيح.


توفر المعلومات

لم يعد في مهرجان روتردام ما يسمى بـ”الكتالوغ” ذلك الكتاب الضخم الذي يحوي تفاصيل كثيرة خاصة بجميع الأفلام المشاركة وأقسام المهرجان، فقد انتهى هذا التقليد ليفسح الطريق أمام عالم الإنترنت بعد أن أصبح من الممكن الحصول على كل المعلومات من خلال موقع المهرجان على شبكة الإنترنت، وهو نفس ما يحدث في معظم المهرجانات (ما عدا مهرجانات العالم العربي التي مازالت تفخر بما تصدره من “كتالوغات” ربما لارتفاع نسبة الأمية الإلكترونية!).

ولا توجد إصدارات للكتب السينمائية، كما يحدث أيضا في مهرجانات العالم العربي، وهو تقليد يجده البعض إيجابيا يعوض غياب مؤسسات متخصصة في الإصدارات السينمائية، غير أنني أجده تقليدا شكليا لا يتمتع بالجدية، فالغالبية العظمى مما ينتج من كتب مهرجانية تكتب عادة قبل شهرين أو أقل من موعد المهرجان، مما يجعلها في معظمها بالطبع “كتب مناسبات” يتم “سلقها” على عجل.
 0  0  2666