قصة قصيرة "خطيئة مجتمع"
قصة قصيرة
"خطيئة مجتمع"
طالما وقد عرفت الكثير من الفتيات، وصنعت أكثر من علاقة لحب كان يقف بعيدا، يقترب أحيانا حد التلصص، لكنه يرحل ضاحكا لأمر لا نعلمه ، و يتعثر عندما يقترب قلبينا، لكنني أدركت هاته المرة كم يلزمني من القوة لأعيش بلا حب، عندما أتى أحد زملائي بعد أن خرجت للتو من محاضرة الأدب وربت بيده على كتفي الأيسر يلومني سبب إهمالي هاته الفترة الأخيرة. نظرت أمامي كان هناك كرسي منفردا يستند إلى جذع شجرة عارية من الأوراق، يخرج طلاب علم الاجتماع، وقف الحب بجانبي يردد: حتما ستعود.. حتما ستعود.!
ابتسمت لما قاله، وحدها الابتسامة التي نستطيع بها أن نجيب في مواقف كهذه. تأتي صديقتي نجوى، تستأذن مني أن نقعد بعض الوقت، اختارت طاولة في الجانب الأيسر من المقهى، كانت أول مرة أجلس مع فتاة ترتدي النقاب في مجتمع محافظ، وثوب يميل للبياض، كانت متمردة عن بقية الفتيات، كثيرات هن اللاتي صنعن من الثوب الأسود، رداءا للفرح والحزن، يأتي النادل، تركت نجوى الطلب لي، كعادتي.. طلبت قهوة.
نظرت إليها كانت تخرج من حقيبتها مجموعة أوراق، وضعتهن أمامها، يأتي النادل بالقهوة، شكرته نجوى ابتسم إليها، ارتشفت نجوى قهوتها، أخرجت نفسا عميقا، لم تنطق بشيء حتى أكملت أنا سيجارتي.
تسألني بألم. ماذا تعني العدالة الإجتماعية؟
كنت مستغربا من سؤالها، ارتشفت قهوتي مجيبا : تعني إزالة الفوارق الطبقية بين أفراد المجتمع، اجتماعيا، واقتصاديا وسياسيا. كنت أعلم أني لم أفي بالجواب. لكنها كانت سعيدة بجوابي المتواضع.
تتابع بهدوء لتقول: انظر هاتيك العيون التي تنظر إلينا، ما أن نكمل الحديث ويذهب كلانا إلى محاضرته، حتى تبدأ الأفواه الهمس بالآذان بأنك تقعد مع فتاة أبوها يعمل(جزارا)، تتابع.
فتاة من طبقة الجزارين والمزينين. ساد الصمت بيننا لبرهة. لم أعير تحمسها أهتماما كوني لا انظر بأن هناك عيب في مثل هذه المهن؟ لكنني وقفت إلى جانب كلامها لأن هاته مشكلة لها جذورها العميقة في مجتمعنا اليمني خاصة والمجتمعات العربية عامة. قلت بعد أن ساد الصمت: مالفرق بين جزار يتخذ من مهنته عملا يخدم كثيرا من الأفراد في شراء ما تحتاجه أسرته من لحوم، وجزار أتخذ من مهنته ليعدم أسرا بأكملها، لا لأنه يجزر حيوانا بل بشرا .! أليس من الحق أن نحترم ونمجد الأول، ونقف بكل ما نمتلكه من قوة في وجه الأخير؟..
تجيب نجوى:
بل العكس، فالأول هو من نحقره ونذله، والأخير هو من يتقلد الأوسمة والمناصب بمناسبة حصده أكثر رؤوسا ممكنة. نعود للصمت بعد أن قارب الوقت على الذهاب بكلينا إلى محاضرة الدرس، يأتي النادل بالفاتورة ، أخرجت من محفظتي الحساب ، تشكره نجوى ثانية، تركتها خارجا بعد أن طلبت مني أن أعطيها رقم الهاتف، أسبوعين انطوت على كف الزمن لم نلتق ببعض، كل مساء تتصل بي، تحدثني ما يحصل لها وغالبا ما تنهي المكالمة بدمعة، ذات صباح وبعد أن خرجت من محاضرة الأدب كنت منتظرا قدومها إلى المقهى ذاته، تذكرت أني أعيش بلا حب، يخرجن طالبات علم الاجتماع كانت تتوسطهن، وكن يتحاشين السير بقربها، كانت أجملهن، تمتلك ما لا يمتلكنه "الحرية"، كثيرات هن اللاتي يرتدين "الخمار" خوفا لا إرادة، أما نجوى فقد أقسمت أن لا تخبئ جمالا وهبها الله إياه، ما دامت تخاف الله وتتقيه حق الاتقاء. تقترب نجوى من الطاولة يتحرك الكرسي الثالث، كان الحب واقفا، يهمس إلي حتما ستعود.. حتما ستعود.!
جلست نجوى أمامي همست شفتاها بابتسامة اشتقتها كثيرا، يأتي النادل طلبت نجوى فنجانا واحدا من القهوة، سألتها لماذا؟
أجابت: لم أعد أحب شيئا يزرع أو ينتج في هذا الوطن. لكنني أقسمت أن تشاركني الفنجان حتى نكمله، كانت سعيدة بهذا، أخرجت من حقيبتها أوراق مجتمعة، كان اسمها مكتوبا، أيقنت أنه التقرير الذي أخبرتني عنه. وبعد أن تبادلنا رشفات الفنجان، ارتشفت القهوة، تاركة في قاع الفنجان قليلا، تحرك الكرسي الثالث أخذ الحب الفنجان،ارتشف ما تبقى في قاع الفنجان، همس إلي: حقا عدت.. حقا عدت.!
بدأت نجوى تقرأ التقرير. إحدى الفتيات تقول: لماذا ليس من حقي أن أحب ذلك الشخص الذي بدأ شعوره نحوي يزيد، ألئن أبي يمتلك صالون حلاقة، فتاة أخرى تقول: كنت قد بدأت قصة حب مع شخص، وبعد فترة ريثما علم أن أخي مالك إحدى المجازر أفترقنا عن بعض. تتابع نجوى يموت الحب عندما نبتسم بالحقيقة . لم أجيب بشيء لكنني فضلت أن تتابع قراءة التقرير. تتابع نجوى، مجموعة أسر تعاني من أمراض وراثية والسبب في ذلك زواج الأقارب. أحد الأفراد يقول: احيانا نحاول أن نتحاشى زواج الأقارب، لكن دون جدوى، فنحن نذهب لنطلب فتيات أخريات لكننا نقابل بالرفض، والسبب انتماءنا إلى "طبقة الجزارين والمزينين"، تقفل نجوى التقرير، تتابع .. نعم ليس من حقي أن أحب شخص لا يعمل كعمل والدي. يجب علينا نحن أبناء الجزارين والمزينين أن نسأل عن مهنة الشخص قبل كل شيء، نتبادل الحب عندما نتوافق بالمهنة.!
لم تنطق بشيء، "فقد فضلت الصمت حينما يكون النطق بحرف هو ذاته مشكلة". كانت عبارتها الأخيرة لها وقعها الخاص على مسمعي، مع أنني موجود معها على طاولة الحوار لا على طاولة الحب. تذكرت مقولة لأحلام مستغانمي(( أجمل حب هو الذي نعثر عليه أثناء بحثنا عن شيء آخر)). مددت بيدي حتى لامست يدها، تعانقت أناملنا، نظرت نجوى إلي بشغف، وحدها لغة العيون من تسعف عاشقين يقفا على محذاة طاولة الخجل. كنت أتمنى أن تنطق بأربعة أحرف من أبجدية اللغة، لكنها ألتزمت الصمت متذكرة مقولة أوسكار وايلد(خلق الإنسان اللغة ليخفي بها مشاعره). تذهب نجوى خائفة كي لا تشي بها حرائق الحب. وكنت جالسا استرجع محاضرة الأدب، جميل أن يجمع الأدب والحب عاشقين في وطن أصبح الأدب فيه نوع من الترف عندما أجادوا أبناءه النفاق لتعميق وجودهم .في الصباح كان الحب قد حجز لنا تذكرتين للذهاب إلى حديقة العشاق، عند وصولي مع نجوى، كانت الحديقة مزدحمة بالعشاق، وحدها القلوب تنطق بهذا المكان الذي لا يعرف إلا فصلا واحدا هو "الربيع"، أمسكت بيدها لنبحث عن طاولة شاغرة، كانت تفضل الجلوس يسار الأمكنة التي نرتادها، قالت: ما عاد اليمين لنا. بدأنا نرتشف القهوة، كانت نجوى تشاهد عاشقين يقفان على حافة الفراق، تهمس إلي يجب أن يتوافقا بالمهنة أولا.
قلت بعد ابتسامة: وحده الحب لا تحكمه قوانين. قبل فترة مضت كنت معك على طاولة الحوار، الآن ها أنا معك على طاولة الحب. أتانا على عجل دون أن يسمح لكلينا أن نتعرف بعمق. كلمتان اثنتان كانتا بالنسبة لكلينا بطاقة تعريف.
أنت قلت: أعشقك.. عندما قلت لك أشتهيك.
ترد نجوى بنبرة هادئة: أتمنى لحبنا مستقبل يليق بعاشقين أصبحا حاملين مشروعا لحب تكبد خسائر راح ضحيتها العشاق قهرا. تتابع قائلة: عندما تصبح اختلاف الطبقات الاجتماعية هي المشكلة التي تقف عائقا أمام عاشقين جمعهما الحب، فأن نجاحه يعد انتصارا لشرعية المساواة التي لا تمايز فيها إلا بالتقوى. رميت رماد سيجارتي بالمنفضة، وأنا اتأمل نجوى بجنون نسيت أن المنطق ينتهي حيث يبدأ الحب، لكن ها هي ذي تتكلم بمنطق لا مثيل له. غادرنا الحديقة بعد أن أتفقنا بأن يذهب كلانا ليخبر أباه بأننا نريد ممارسة الحب عن قرب، عند وصولي كان أبي برفقة أمي يتابعا الأخبار، كنت حينها لا أعلم بأي عبارة أبدأ.
هل أقول أنني أريد الزواج من نجوى؟
أم أنني أريد الزواج من نجوى التي والدها يعمل جزارا؟. عبارتان أحلاهما مر بالنسبة لأبي، بعد برهة كنت قد أكملت الحديث عندما وقف أبي أمامي عابس الوجه، شديد الغضب، يقذفني بكلمات لم أسمعها من قبل. حينها ذهبت نحو غرفتي حاملا شرطين لا ثالث لهما: الزواج من نجوى،والذي بتحقيقه أكون قد تخليت عن انتمائي لوالدي. أو التخلي عن نجوى. عند الصباح كنت ذاهبا لأخذ محاضرة الأدب، قطعت الشارع تلو الأخر وصولا للكلية، كنت على يقين أنني سأفقد كل شيء كان أبي يمنحني إياه بما فيه مصاريف الجامعة. ألم يقل برنارد شو((تعرف أنك عاشق عندما تبدأ بالتصرف ضد مصلحتك الشخصية))؟.
عند خروجي من محاضرة الأدب، ذهبت أبحث بين الرؤوس السوداء عن تلك الأنثى التي أدمنتها، تلك التي أحترق شوقا لرؤيتها، تلك التي يختبيء صوتها خلف تسعة أرقام معلنة الصمت، نجوى التي ليس لها صديقة لأنها من طبقة أدنى، أنا الذي يتحاشى أصدقائي الحديث معي لأنني عشقت أنثى. يوما من الفراق تلاه أسبوع من الغياب.. نجوى لم تودعني ذلك اليوم وكأنها ستعود اللحظة، أو أنها تذكرت أن الوداع خلق للغرباء لا للأحبة. ها أنا اطوي المسافات مع بزوغ الشمس، مشتهيا لقاءك.. حديثك.. همسك.. ابتسامتك.. عطرك. عند وصولي كنت تريدي أن تسأليني مالذي حل بك؟ لماذا تغيرت هيئتك؟ أهذا كله من أجلي؟ أياكل الحب عشاقه كما تأكل الثورة أبناءها؟ لكنك اختصرتي كل هذه الأسئلة، حين قلت:أشتقتك. وقتها كنت أعبر حواجز الحزن التي تطوقك، كنت اشعر بلهفة وأنا أبدأ بفك شفرات غيابك المعقدة. قلت بعد صمت: (غيابك طال ليه ياحبيبي(، ابتسمتي لأنك تستمعين لفريد الأطرش كثيرا. لكنك لم تبرر سبب غيابك، ولا سر حزنك، كان حضورك كلمتين وصمت. ذهبت بعد أن قلت: أراك.
حينها أنتابي شعور. أيكون أبوك رافضا لزواجنا؟ وهل يمتلك القوة ليخمد بركان حبك؟ وأي نوع ذاك البركان؟ أخشى أن يكون من صنف البراكين الساكنة التي لا تثور إلى عند موعد حب. ها أنتي تغادرين تاركة علامة استفهام تتبعها علامة تعجب أقرب للحزن. وها أنا أرتدي الصبر للقاء لا توقيت له. وحدها كلمة"أراك" توحي بلقاء ما زال نابتا برحم القدر. عند المساء كنت أقرأ عنوانا في إحدى الصحف اليومية، عجيب هذا الوطن الذي يطالب أبناءه بالحرية، فيم هناك عشرات الحالات من الفتيات ينتحرن بسبب أجبارهن على الزواج من أشخاض لا يرغبن بهم. لا شيء في هذا الوطن ينذر بالخير، أخباره السيئة تلاحقك حتى على السرير. ثلاثة أيام وأنا منتظر ذاك اللقاء الذي لم يأت بعد، وحدها الأماكن الذي وهبتنا الحب نتحاشى المرور بمحاذاتها في غياب من وهبتنا حبهم. ها هو ذا الأول من (حزيران) أتنا على عجل،لا أعلم لهذا الشهر موعد حب. أيكون قد حجز لنا لقاء في أول أيامه ليفاجئنا؟ أم أنه أعلن الحداد. عند وصولي المقهى جلست منتظرا نجوى على الطاولة التي أحتضنت أول لقاء جمعني بها، ها هو الوقت يطول، وها هي الوردة آيلة للذبول. يأتي النادل لكنني لم أطلب شيء في غياب نجوى، عندها أتاني صوتها، أخذت الهاتف مجيبا.
_آلو..
*ردت بلغة حزينة.اشتقت لك. لكنني أعتذر عن المجيئ إليك!
_ قلت:لكنني لا أمتلك الصبر.
* الافضل أن تبحث عنه، أن تنفخ فيه من روحك ما دمت حيا.
_ولم؟
* لأنك لن تراني بعد اليوم.لكنني أتمنى أن تحظر فرحي إن صح التعبير.
لم أجيب، وكأنني فقدت القدرة على الكلام، عندما امتلكت نجوى القدرة على البكاء.
_قلت: أحظر فرحك أم حزني.
* بل تحظر موتي؟!
_ أن يموت من نحبهم.. خيرا من أن يذهبوا إلى غيرنا.
*لكنني أحبك وحدك؟
_ لكنك له وحده، ها هو ينتظر قدومك إليه.
*بل سأكون رقما جديدا إلى جانب تلك الفتيات المنتحرات التي قرئت عنهن في إحدى الصحف يوم أمس.
_لا.. نجوى أريد لحبنا البقاء.
لم تضيف كلمة أخرى، انهت المكالمة على عجل، تذكرتها عندما قالت ذات يومنتبادل الحب عندما نتوافق بالمهنة). لكنني أخطأت عندما قلت: وحده الحب لا تحكمه قوانين.التقطت الوردة خارجا.. لا أدري أأبحث عن موت يليق بي؛ أم حياة أليق بها؟ وإن أخترت الموت فلن يغير من ظلم المجتمع شيئا، سينساك مهما كان سبب موتك، وتستمر الحياة وكأنك لم تأتي إليها. في الصباح كنت متجها لأقرأ عناوين الأخبار، كان عنوانا بالخط العريض(إنقاذ فتاة من الموت أثناء محاولتها الانتحار في ليلة زفافها، وموت فتاة أخرى). لكنني لا أعلم أيتهما نجوى. هل هي التي ماتت مرة واحدة؟ أم التي أنقذوها لتعود للمجتمع الذي كان سببا في انتحارها لتموت أكثر من مرة.!
كتبها/مروان الشريفي... اليمن
-8تموز-2014
"خطيئة مجتمع"
طالما وقد عرفت الكثير من الفتيات، وصنعت أكثر من علاقة لحب كان يقف بعيدا، يقترب أحيانا حد التلصص، لكنه يرحل ضاحكا لأمر لا نعلمه ، و يتعثر عندما يقترب قلبينا، لكنني أدركت هاته المرة كم يلزمني من القوة لأعيش بلا حب، عندما أتى أحد زملائي بعد أن خرجت للتو من محاضرة الأدب وربت بيده على كتفي الأيسر يلومني سبب إهمالي هاته الفترة الأخيرة. نظرت أمامي كان هناك كرسي منفردا يستند إلى جذع شجرة عارية من الأوراق، يخرج طلاب علم الاجتماع، وقف الحب بجانبي يردد: حتما ستعود.. حتما ستعود.!
ابتسمت لما قاله، وحدها الابتسامة التي نستطيع بها أن نجيب في مواقف كهذه. تأتي صديقتي نجوى، تستأذن مني أن نقعد بعض الوقت، اختارت طاولة في الجانب الأيسر من المقهى، كانت أول مرة أجلس مع فتاة ترتدي النقاب في مجتمع محافظ، وثوب يميل للبياض، كانت متمردة عن بقية الفتيات، كثيرات هن اللاتي صنعن من الثوب الأسود، رداءا للفرح والحزن، يأتي النادل، تركت نجوى الطلب لي، كعادتي.. طلبت قهوة.
نظرت إليها كانت تخرج من حقيبتها مجموعة أوراق، وضعتهن أمامها، يأتي النادل بالقهوة، شكرته نجوى ابتسم إليها، ارتشفت نجوى قهوتها، أخرجت نفسا عميقا، لم تنطق بشيء حتى أكملت أنا سيجارتي.
تسألني بألم. ماذا تعني العدالة الإجتماعية؟
كنت مستغربا من سؤالها، ارتشفت قهوتي مجيبا : تعني إزالة الفوارق الطبقية بين أفراد المجتمع، اجتماعيا، واقتصاديا وسياسيا. كنت أعلم أني لم أفي بالجواب. لكنها كانت سعيدة بجوابي المتواضع.
تتابع بهدوء لتقول: انظر هاتيك العيون التي تنظر إلينا، ما أن نكمل الحديث ويذهب كلانا إلى محاضرته، حتى تبدأ الأفواه الهمس بالآذان بأنك تقعد مع فتاة أبوها يعمل(جزارا)، تتابع.
فتاة من طبقة الجزارين والمزينين. ساد الصمت بيننا لبرهة. لم أعير تحمسها أهتماما كوني لا انظر بأن هناك عيب في مثل هذه المهن؟ لكنني وقفت إلى جانب كلامها لأن هاته مشكلة لها جذورها العميقة في مجتمعنا اليمني خاصة والمجتمعات العربية عامة. قلت بعد أن ساد الصمت: مالفرق بين جزار يتخذ من مهنته عملا يخدم كثيرا من الأفراد في شراء ما تحتاجه أسرته من لحوم، وجزار أتخذ من مهنته ليعدم أسرا بأكملها، لا لأنه يجزر حيوانا بل بشرا .! أليس من الحق أن نحترم ونمجد الأول، ونقف بكل ما نمتلكه من قوة في وجه الأخير؟..
تجيب نجوى:
بل العكس، فالأول هو من نحقره ونذله، والأخير هو من يتقلد الأوسمة والمناصب بمناسبة حصده أكثر رؤوسا ممكنة. نعود للصمت بعد أن قارب الوقت على الذهاب بكلينا إلى محاضرة الدرس، يأتي النادل بالفاتورة ، أخرجت من محفظتي الحساب ، تشكره نجوى ثانية، تركتها خارجا بعد أن طلبت مني أن أعطيها رقم الهاتف، أسبوعين انطوت على كف الزمن لم نلتق ببعض، كل مساء تتصل بي، تحدثني ما يحصل لها وغالبا ما تنهي المكالمة بدمعة، ذات صباح وبعد أن خرجت من محاضرة الأدب كنت منتظرا قدومها إلى المقهى ذاته، تذكرت أني أعيش بلا حب، يخرجن طالبات علم الاجتماع كانت تتوسطهن، وكن يتحاشين السير بقربها، كانت أجملهن، تمتلك ما لا يمتلكنه "الحرية"، كثيرات هن اللاتي يرتدين "الخمار" خوفا لا إرادة، أما نجوى فقد أقسمت أن لا تخبئ جمالا وهبها الله إياه، ما دامت تخاف الله وتتقيه حق الاتقاء. تقترب نجوى من الطاولة يتحرك الكرسي الثالث، كان الحب واقفا، يهمس إلي حتما ستعود.. حتما ستعود.!
جلست نجوى أمامي همست شفتاها بابتسامة اشتقتها كثيرا، يأتي النادل طلبت نجوى فنجانا واحدا من القهوة، سألتها لماذا؟
أجابت: لم أعد أحب شيئا يزرع أو ينتج في هذا الوطن. لكنني أقسمت أن تشاركني الفنجان حتى نكمله، كانت سعيدة بهذا، أخرجت من حقيبتها أوراق مجتمعة، كان اسمها مكتوبا، أيقنت أنه التقرير الذي أخبرتني عنه. وبعد أن تبادلنا رشفات الفنجان، ارتشفت القهوة، تاركة في قاع الفنجان قليلا، تحرك الكرسي الثالث أخذ الحب الفنجان،ارتشف ما تبقى في قاع الفنجان، همس إلي: حقا عدت.. حقا عدت.!
بدأت نجوى تقرأ التقرير. إحدى الفتيات تقول: لماذا ليس من حقي أن أحب ذلك الشخص الذي بدأ شعوره نحوي يزيد، ألئن أبي يمتلك صالون حلاقة، فتاة أخرى تقول: كنت قد بدأت قصة حب مع شخص، وبعد فترة ريثما علم أن أخي مالك إحدى المجازر أفترقنا عن بعض. تتابع نجوى يموت الحب عندما نبتسم بالحقيقة . لم أجيب بشيء لكنني فضلت أن تتابع قراءة التقرير. تتابع نجوى، مجموعة أسر تعاني من أمراض وراثية والسبب في ذلك زواج الأقارب. أحد الأفراد يقول: احيانا نحاول أن نتحاشى زواج الأقارب، لكن دون جدوى، فنحن نذهب لنطلب فتيات أخريات لكننا نقابل بالرفض، والسبب انتماءنا إلى "طبقة الجزارين والمزينين"، تقفل نجوى التقرير، تتابع .. نعم ليس من حقي أن أحب شخص لا يعمل كعمل والدي. يجب علينا نحن أبناء الجزارين والمزينين أن نسأل عن مهنة الشخص قبل كل شيء، نتبادل الحب عندما نتوافق بالمهنة.!
لم تنطق بشيء، "فقد فضلت الصمت حينما يكون النطق بحرف هو ذاته مشكلة". كانت عبارتها الأخيرة لها وقعها الخاص على مسمعي، مع أنني موجود معها على طاولة الحوار لا على طاولة الحب. تذكرت مقولة لأحلام مستغانمي(( أجمل حب هو الذي نعثر عليه أثناء بحثنا عن شيء آخر)). مددت بيدي حتى لامست يدها، تعانقت أناملنا، نظرت نجوى إلي بشغف، وحدها لغة العيون من تسعف عاشقين يقفا على محذاة طاولة الخجل. كنت أتمنى أن تنطق بأربعة أحرف من أبجدية اللغة، لكنها ألتزمت الصمت متذكرة مقولة أوسكار وايلد(خلق الإنسان اللغة ليخفي بها مشاعره). تذهب نجوى خائفة كي لا تشي بها حرائق الحب. وكنت جالسا استرجع محاضرة الأدب، جميل أن يجمع الأدب والحب عاشقين في وطن أصبح الأدب فيه نوع من الترف عندما أجادوا أبناءه النفاق لتعميق وجودهم .في الصباح كان الحب قد حجز لنا تذكرتين للذهاب إلى حديقة العشاق، عند وصولي مع نجوى، كانت الحديقة مزدحمة بالعشاق، وحدها القلوب تنطق بهذا المكان الذي لا يعرف إلا فصلا واحدا هو "الربيع"، أمسكت بيدها لنبحث عن طاولة شاغرة، كانت تفضل الجلوس يسار الأمكنة التي نرتادها، قالت: ما عاد اليمين لنا. بدأنا نرتشف القهوة، كانت نجوى تشاهد عاشقين يقفان على حافة الفراق، تهمس إلي يجب أن يتوافقا بالمهنة أولا.
قلت بعد ابتسامة: وحده الحب لا تحكمه قوانين. قبل فترة مضت كنت معك على طاولة الحوار، الآن ها أنا معك على طاولة الحب. أتانا على عجل دون أن يسمح لكلينا أن نتعرف بعمق. كلمتان اثنتان كانتا بالنسبة لكلينا بطاقة تعريف.
أنت قلت: أعشقك.. عندما قلت لك أشتهيك.
ترد نجوى بنبرة هادئة: أتمنى لحبنا مستقبل يليق بعاشقين أصبحا حاملين مشروعا لحب تكبد خسائر راح ضحيتها العشاق قهرا. تتابع قائلة: عندما تصبح اختلاف الطبقات الاجتماعية هي المشكلة التي تقف عائقا أمام عاشقين جمعهما الحب، فأن نجاحه يعد انتصارا لشرعية المساواة التي لا تمايز فيها إلا بالتقوى. رميت رماد سيجارتي بالمنفضة، وأنا اتأمل نجوى بجنون نسيت أن المنطق ينتهي حيث يبدأ الحب، لكن ها هي ذي تتكلم بمنطق لا مثيل له. غادرنا الحديقة بعد أن أتفقنا بأن يذهب كلانا ليخبر أباه بأننا نريد ممارسة الحب عن قرب، عند وصولي كان أبي برفقة أمي يتابعا الأخبار، كنت حينها لا أعلم بأي عبارة أبدأ.
هل أقول أنني أريد الزواج من نجوى؟
أم أنني أريد الزواج من نجوى التي والدها يعمل جزارا؟. عبارتان أحلاهما مر بالنسبة لأبي، بعد برهة كنت قد أكملت الحديث عندما وقف أبي أمامي عابس الوجه، شديد الغضب، يقذفني بكلمات لم أسمعها من قبل. حينها ذهبت نحو غرفتي حاملا شرطين لا ثالث لهما: الزواج من نجوى،والذي بتحقيقه أكون قد تخليت عن انتمائي لوالدي. أو التخلي عن نجوى. عند الصباح كنت ذاهبا لأخذ محاضرة الأدب، قطعت الشارع تلو الأخر وصولا للكلية، كنت على يقين أنني سأفقد كل شيء كان أبي يمنحني إياه بما فيه مصاريف الجامعة. ألم يقل برنارد شو((تعرف أنك عاشق عندما تبدأ بالتصرف ضد مصلحتك الشخصية))؟.
عند خروجي من محاضرة الأدب، ذهبت أبحث بين الرؤوس السوداء عن تلك الأنثى التي أدمنتها، تلك التي أحترق شوقا لرؤيتها، تلك التي يختبيء صوتها خلف تسعة أرقام معلنة الصمت، نجوى التي ليس لها صديقة لأنها من طبقة أدنى، أنا الذي يتحاشى أصدقائي الحديث معي لأنني عشقت أنثى. يوما من الفراق تلاه أسبوع من الغياب.. نجوى لم تودعني ذلك اليوم وكأنها ستعود اللحظة، أو أنها تذكرت أن الوداع خلق للغرباء لا للأحبة. ها أنا اطوي المسافات مع بزوغ الشمس، مشتهيا لقاءك.. حديثك.. همسك.. ابتسامتك.. عطرك. عند وصولي كنت تريدي أن تسأليني مالذي حل بك؟ لماذا تغيرت هيئتك؟ أهذا كله من أجلي؟ أياكل الحب عشاقه كما تأكل الثورة أبناءها؟ لكنك اختصرتي كل هذه الأسئلة، حين قلت:أشتقتك. وقتها كنت أعبر حواجز الحزن التي تطوقك، كنت اشعر بلهفة وأنا أبدأ بفك شفرات غيابك المعقدة. قلت بعد صمت: (غيابك طال ليه ياحبيبي(، ابتسمتي لأنك تستمعين لفريد الأطرش كثيرا. لكنك لم تبرر سبب غيابك، ولا سر حزنك، كان حضورك كلمتين وصمت. ذهبت بعد أن قلت: أراك.
حينها أنتابي شعور. أيكون أبوك رافضا لزواجنا؟ وهل يمتلك القوة ليخمد بركان حبك؟ وأي نوع ذاك البركان؟ أخشى أن يكون من صنف البراكين الساكنة التي لا تثور إلى عند موعد حب. ها أنتي تغادرين تاركة علامة استفهام تتبعها علامة تعجب أقرب للحزن. وها أنا أرتدي الصبر للقاء لا توقيت له. وحدها كلمة"أراك" توحي بلقاء ما زال نابتا برحم القدر. عند المساء كنت أقرأ عنوانا في إحدى الصحف اليومية، عجيب هذا الوطن الذي يطالب أبناءه بالحرية، فيم هناك عشرات الحالات من الفتيات ينتحرن بسبب أجبارهن على الزواج من أشخاض لا يرغبن بهم. لا شيء في هذا الوطن ينذر بالخير، أخباره السيئة تلاحقك حتى على السرير. ثلاثة أيام وأنا منتظر ذاك اللقاء الذي لم يأت بعد، وحدها الأماكن الذي وهبتنا الحب نتحاشى المرور بمحاذاتها في غياب من وهبتنا حبهم. ها هو ذا الأول من (حزيران) أتنا على عجل،لا أعلم لهذا الشهر موعد حب. أيكون قد حجز لنا لقاء في أول أيامه ليفاجئنا؟ أم أنه أعلن الحداد. عند وصولي المقهى جلست منتظرا نجوى على الطاولة التي أحتضنت أول لقاء جمعني بها، ها هو الوقت يطول، وها هي الوردة آيلة للذبول. يأتي النادل لكنني لم أطلب شيء في غياب نجوى، عندها أتاني صوتها، أخذت الهاتف مجيبا.
_آلو..
*ردت بلغة حزينة.اشتقت لك. لكنني أعتذر عن المجيئ إليك!
_ قلت:لكنني لا أمتلك الصبر.
* الافضل أن تبحث عنه، أن تنفخ فيه من روحك ما دمت حيا.
_ولم؟
* لأنك لن تراني بعد اليوم.لكنني أتمنى أن تحظر فرحي إن صح التعبير.
لم أجيب، وكأنني فقدت القدرة على الكلام، عندما امتلكت نجوى القدرة على البكاء.
_قلت: أحظر فرحك أم حزني.
* بل تحظر موتي؟!
_ أن يموت من نحبهم.. خيرا من أن يذهبوا إلى غيرنا.
*لكنني أحبك وحدك؟
_ لكنك له وحده، ها هو ينتظر قدومك إليه.
*بل سأكون رقما جديدا إلى جانب تلك الفتيات المنتحرات التي قرئت عنهن في إحدى الصحف يوم أمس.
_لا.. نجوى أريد لحبنا البقاء.
لم تضيف كلمة أخرى، انهت المكالمة على عجل، تذكرتها عندما قالت ذات يومنتبادل الحب عندما نتوافق بالمهنة). لكنني أخطأت عندما قلت: وحده الحب لا تحكمه قوانين.التقطت الوردة خارجا.. لا أدري أأبحث عن موت يليق بي؛ أم حياة أليق بها؟ وإن أخترت الموت فلن يغير من ظلم المجتمع شيئا، سينساك مهما كان سبب موتك، وتستمر الحياة وكأنك لم تأتي إليها. في الصباح كنت متجها لأقرأ عناوين الأخبار، كان عنوانا بالخط العريض(إنقاذ فتاة من الموت أثناء محاولتها الانتحار في ليلة زفافها، وموت فتاة أخرى). لكنني لا أعلم أيتهما نجوى. هل هي التي ماتت مرة واحدة؟ أم التي أنقذوها لتعود للمجتمع الذي كان سببا في انتحارها لتموت أكثر من مرة.!
كتبها/مروان الشريفي... اليمن
-8تموز-2014