أخبار قناة الشمس

×

اضغط هنا إن لم يقم المتصفح بتحويلك آليًا.
المخرج محمد فرحان

قصة قصيرة / إنفلونزا إسراء البيرماني

(إنفلونزا )
يبدو ان مزاجه حاد بعض الشي و يلازم الصمت فمن النادر ان يعجبه شيء حتى انه كان يركن الى كرسي هزاز بالقرب من نافذة تطل على حديقته .. كرسي هزاز ادمنه و ثمة جرائد لا تكاد ان تفارقه لساعات .. كلامه قليل فيبدو و كأن وجهه يعتريه الوجوم .. السكون يخيم على منزله الواسع فلا يكاد ان يسمع غير صوت ارتشافه لفنجان قهوته بين الحين و الاخر .. وحفيف أغصان أشجار الزيتون .. انه نوفمبر شهر النفضيات و الشمس الشاحبة .. يترك جرائده بعدما أعيته مطالعة صفحاته السياسية فيتجه نحو نافذة عريضة أطلت على حديقة شاسعة ... هناك حيث ركن بعيد هي تستقل ارجوحة لا تبرحها ليل نهار .. تأنس بسقي الورد و الحشائش و ثمة اوراق تشرب مدادها و هي تدون حب صامت ينتحل شخص الجماد .. تنهكها مروج عارية كانت وطنا من الاغراس و ربوة من الاحلام تقاتلت من اجل إثبات وجودها فكانت في النهاية منزلا محكم الأقفال سيده يودع مشاعره في الجليد ... منزلا كعالم الجماد.
لم يلبث حتى صار حبيبا غير موعودا و سيدا تقدسه بحفاوة .. تموج بأنوثتها المتفجرة بين أركان منزله فلا تتعدى الا ان تكون ابسط اهتماماته فتنحسر عند نهايات الشرفات او الغرف المؤصدة فتتلاقفها المقاعد او ارجوحة ضخمة احتلت نهاية الحديقة .
تنتبه لصوت وقع أقدامه وعطره الأنيق الذي ملأ الهواء فتجده يستعد للخروج .
- انا ذاهب .
- الى اين ؟
- عمل .
- و الغداء ؟
- تناولي غداءك قد أتأخر .
تعود لتستقل أفياء الزيتون و هي تمسك بخرطوم الماء لتسقِ أغراس أدمنت لمساتها كل يوم .. تحييها بابتسامة عذبة و ثمة أمل يموج تحت جفنين منسدلين من العاج ..
يرن الهاتف بنغمة طويلة تنتبه لها من غفلة انشدادها بسنادين الزهر و روايات أحلامها المستودعة في صدف الأمنيات تنهض لتلتقف الهاتف :-
- من معي ؟
- كيف انت ؟
- بخير و لكن من معي ؟
- آسر
- آسر ؟!
- نعم انا هو ... كيف حالك مضى وقت طويل من الغياب لم يتسن لي التواصل معك .. او .. حتى السؤال عنك .
- لا بأس كيف حالك انت ؟
- بخير .. و لكن ماذا فعلت بشهادة الكيمياء التي حصلت عليها منذ عامين ؟ الا تزالين تتصاعدين كأبخرة الكبريت كما عهدتك !
- تضحكني حقاً .. و لم الكبريت تحديدا ؟؟
- لانها كلما تصاعدت اختلطت بالهواء فأثارت دموعي و هنا الرابط .
تعم لحظات من الصمت و تتلاطم أمواج الذكريات فما تنتهي الا ان متكسرة على صخرة الواقع.
- سألتني عن الكيمياء .. نعم هي ورقة و إطار احتفظ بها معلقة على جدران الصالة تكاد تخفيها ستائري الجديدة التي كلفتني ثمنا باهضا .
- و سجنك الجديد ؟ أكلفك الباهض ايضا ؟
- عن اي امر تتحدث ؟
- يجب ان تعملي .. ان تخرجي من سجنك .. من عذاباتك حين تتهاوى عليك كقوارض الندم .
- و لاي امر اندم !!
- هه .. لا شي .
- برغم كل شي انا احبه و أبقى .
- حسنا .
- ما الذي حملك الي بعد هذا الغياب ؟
- لكأنك اعتقدت بأنني انسى حتى اتذكر .. هه .. كما عهدت سطحيتك ... أتراك لم تتغيري .
تغلق الهاتف و ذكريات الماضي تدور حول رأسها كشريط فلم سينمائي قديم عبثت باسطوانته رياح السنوات فملأت طياته سحائب الغبار و شي من الذكريات ..
احتلالها منزلا جديدا يحتم عليها تجاهل ونسيان كل شي .. حتى انه قد شق حياته بمفترق طريق مغلق انتهى به الى منزل ملأه صخب صبية صغار .. حنينه لأنثاه القديمة لا ينفك ان يباغت قلبه بين الحين و الاخر فتجرفه ترانيم حبه القديمة الغريقة التي بات يكبتها في داخله صرخة مكتومة الأنفاس نحو سواحلها الهشة التي طالما انتشت بكؤوس الحسرة في منزل بات كالمعتقل و حبيب ساه لا يعي من أمرها شي غير كونها حبيسة مطيعة ..
آسر العاشق المغيب بين ثنايا زمان مجهول مضى يظهر بعد خفاء و تجاهل معلنا الوجود ... هي تغفل عنه سنوات .. تتجاهله سنوات فلا يتعدى حدود قريب و حسب ... أتراه كان شخصا اخر يتفجر حبا منذ زمن احبطه بعراقيل شتى فكانت
اخر احباطاته رحيلها الى منزل جديد مخلفة فيه عذابا لا يهدأ و نشيجا سرمدي ...
آسر رجل يصل متأخراً .. القدر يحتم الكثير فيجعل الطرفين كقطبين متنافرين .. بعد كل هذا و ذاك تبدو مستفهمة عن هذا الذي حل من بعيد متآتيا من غيب مجهول وثمة بعثرة اوراق و تشابك .. كمن كان ينبعث من كوة تغوص في عمق جدار من الغموض .. تجوب به أركان ذاكرتها المثقوبة فلا تجد له وجود !! لكنه يبعث من جديد و يبعث فيها أملا لا تفهم لاي شي .. يبدو غامضا لكنه مهتما بها و هذا ما تفتقده في أركان بيت التهميش الذي تعيش وسط وجوم و تجاهل !
كانت كمن ينتظر انتعاشة يومه ليبدأه باتصال أسر المعهود .
يسألها :-
- ان امتلكت سراً فلمن أبوح ؟
- لا تبوح به لانه سر.
- يكاد يقتلني ان لم افعل .
- اذن .. اكتبه في ورقه و ارمه في البحر .
- قد تتلاقفه الأمواج و يختفي ... يغيب كما غيبني الزمان .
- ما رأيك لو أبوح لك فيه ؟
- سأحفظه .
- يبدو انني .. احبك .. فانظري ماذا تفعلين بقلبي .
- مشاعرك جاءت متاخره جدا فاحفظها في منأ عني .. و اكتف بقرص من النسيان و الجفاء فهو كفيل بحمى الإنفلونزا التي تجتاحك ..


اسراء البيرماني
23/4/2014
 0  0  1036