داود الفرحان: السيدة القادمة من هولندا الكاتب داوود الفرحان
داود الفرحان: السيدة القادمة من هولندا الكاتب داوود الفرحان
حين تسلمت وزيرة الدفاع الهولندية السابقة جينين بلاسخارت في أغسطس (آب) 2018 مهمة الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة في العراق كانت تدرك تماماً حجم المخاطر المحيطة بعملها الحساس. وقبل هذا التعيين، كانت عضواً في البرلمان الأوروبي منذ 2004 وأعيد انتخابها أكثر من مرة، وتم تكليفها العمل وزيرةً للدفاع في هولندا. ثم استقالت من المنصب لتعود إلى الاتحاد البرلماني الأوروبي، حيث خاضت نقاشات ساخنة حول سلامة المطارات الأوروبية، وقالت إن أنظمة السلامة يجب أن تطبق فقط في المطارات ولا تتمدد إلى المناطق السكنية والزراعية والصناعية المجاورة. ولم تتردد في إثارة جدل حول رسوم الكاريكاتير المسيئة للرسول الكريم النبي محمد، صلى الله عليه وسلم. وكانت ناشطة في مسائل السلامة العامة والشرطة الهولندية والمساواة في المعاملة والحقوق المدنية.
وفي واحد من أجرأ مواقفها ضد الولايات المتحدة، قادت تصويت البرلمان الأوروبي إلى وقف اتفاق بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة كان من شأنه أن يمنح السلطات الأميركية إمكانية الوصول إلى البيانات المصرفية الخاصة بالمواطنين الأوروبيين في شركة سويفت SWIFT، وهو أمر لا يسلب حقوق المواطنين فقط، لكنه يمس سيادة الدول.
في أكتوبر (تشرين الأول) عام 2017 تم تصنيفها على أنها أكثر امرأة تأثيراً في هولندا. بهذه المواصفات عينها الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش في عام 2018 ممثلاً خاصاً له في العراق ورئيسة بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق «يونامي».
بعد تسلمها عملها في العراق بأشهر قليلة حدثت ثورة أكتوبر في بغداد والمحافظات الجنوبية تحت شعارات استعادة العراق من الاحتلال الإيراني، ومحاربة الفساد، وتوفير فرص عمل للشباب العاطل من خريجي الجامعات والشهادات العليا والفقراء.
وشوهدت علناً في ساحة التحرير الكبرى في بغداد في أوج مظاهرات الشباب المحتج على الفساد والقمع والبطالة والطائفية. وقامت بجولة في عربة «التوك توك» في الميدان الذي شهد أبشع عمليات الاغتيالات بقنابل الغاز والرصاص الحي، ما أدى إلى استشهاد أكثر من 700 شاب مسالم، وأكثر من 10000 جريح يرفعون علم العراق وشعارات المظاهرات.
وفي أول تصريح علني لها عن اختطاف ناشطين كانوا في طريق العودة من بغداد إلى كربلاء في أواخر عام 2019، دعت الممثلة الدولية إلى توفير الحماية للمتظاهرين السلميين، محذرة من أن «عنف العصابات والميليشيات المنبثق عن الولاء للخارج (إيران) قد يضع العراق في مسار خطير». وأضافت أن «القتل المتعمد للمتظاهرين العُزّل على أيدي عناصر مسلحة ليس سوى عمل وحشي ضد شعب العراق». وطالبت بتحديد هويات الجناة و«تقديمهم إلى العدالة من دون تأخير». وحثت الجيش العراقي، وليس الحكومة، على «ألا يدّخر جهداً لحماية المتظاهرين السلميين من العنف الذي تقوم به عناصر مسلحة تعمل خارج سيطرة الدولة».
يتذكر القراء أن الولايات المتحدة نظمت في السنوات الأولى للاحتلال الأميركي اجتماعات دولية عدة تحت مصطلح «دول جوار العراق» حضرتها الدول الست، الكويت، والمملكة العربية السعودية، والأردن، وسوريا، وتركيا وإيران، بالإضافة إلى العراق الذي لم يحضر الاجتماع الأول. ثم سمعنا عن مؤتمر الدول المانحة في الكويت. لكن مشاكل العراق المحتل ظلت كما هي، بل تعقدت أكثر بالتدخل الإيراني السافر في جميع مفاصل الحكم والمجتمع والانتخابات والاقتصاد وكتب الدين والتاريخ. وفجأة ماتت هذه الاجتماعات والمؤتمرات بالسكتة القلبية بعد أن انسحبت معظم القوات الأميركية من الأراضي العراقية، تاركة إيران تصول وتجول في طول العراق وعرضه.
حالياً للأمم المتحدة ممثلية خاصة في العراق تديرها السيدة بلاسخارت، وهو أمر تطور مهم ومفيد، وغالباً ما تلجأ المنظمة الدولية إلى تسمية ممثلين لها في الدول التي تعاني من حروب أهلية وعدم استقرار وحكومات ضعيفة.
قامت بلاسخارت بالاجتماع مع قيادات حكومية عراقية منذ رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي فعادل عبد المهدي إلى مصطفى الكاظمي. وزارت مراجع دينية اختارتها بنفسها حسب قدرة هذه المراجع على التأثير السياسي أولاً والديني ثانياً. وقبل أيام قامت المبعوثة الأممية بزيارة إيران واجتمعت مع مسؤولين فيها للبحث في علاقة إيران بالعراق، وهي في الحقيقة ليست علاقات «ملتبسة» كما يقول بعض الكتّاب، لكنها علاقات قسرية واحتلال إيراني مباشر وضع «سيادة» العراق جانباً وسلّط «الحرس الثوري» الإيراني، منذ قائده قاسم سليماني، على مقدرات العراق السياسية والعسكرية والميليشياوية والاقتصادية، وصولاً إلى قمع مظاهرات شباب العراق بالقوة المفرطة واغتيال النشطاء السياسيين.
تأكدت جينين بلاسخارت أن إيران ليست «الطرف الخفي» في المشهد الدامي الدرامي فقط، وإنما هي اللاعب الوحيد في العراق بصرف النظر عن السفارة الأميركية المغلقة والقواعد العسكرية الأميركية ذات التأثير المحدود، فقامت بزيارة طهران، وهي زيارة غير «سياحية»، وإنما تَدْخل في صميم عملها، والتقت مستشار المرشد الإيراني للشؤون الدولية علي أكبر ولايتي والمساعد الخاص لرئيس مجلس الشورى حسين أمير عبد اللهيان.
إلا أن السيدة الهولندية تعرضت لانتقادات واسعة من قبل قيادات سياسية عراقية معارضة لإيران في مقدمتها اللجنة المنظمة لمظاهرات ثورة أكتوبر بسبب قيام المبعوثة الأممية بمناقشة موضوع الانتخابات النيابية العراقية المقررة في أكتوبر المقبل مع مسؤولين إيرانيين، وهي «خرجت عن مهمتها الأساسية بتقديم المساعدة والخبرة للحكومة العراقية في إجراء الانتخابات، وليس التفاوض مع الدول الأجنبية بشأن عراقي مما يُعد استخفافاً صارخاً بسيادة العراق وتجاوزاً على استقلاله» كما جاء في أحد بيانات لجنة المظاهرات. وطالبت اللجنة بإقصاء المبعوثة الدولية عن منصبها بأسرع وقت؛ «لأن العراق ليس المحافظة رقم 32 في خريطة إيران». وهذا الغضب الشعبي العراقي له دوافعه، فقد قامت إيران وعملاؤها من الميليشيات باغتيال آلاف العراقيين من الناشطين السياسيين وأساتذة الجامعات والإعلاميين والضباط والطيارين، ولم تتم محاسبة أحد من القتلة على الرغم من أن كاميرات المراقبة وثّقت عدداً كبيراً من تلك الجرائم الشنيعة. لدى العراقيين اليوم حساسية شديدة ومؤلمة من أي مسؤول عراقي أو أجنبي يزور إيران ويلتقي مسؤولين هناك لبحث الشأن العراقي.
من الضروري أن نستوعب دائماً أن السياسة بحرٌ كبير فيه كل الاحتمالات، وليس الرفض فقط. وإذا لم تذهب بلاسخارت إلى طهران أو تركيا أو الدول الأخرى المجاورة للعراق فمن واجب شباب أكتوبر أن يطلبوا منها أن تتدخل لكف الأيادي الخارجية عن اللعب بمصير الشعب العراقي بعد 18 سنة من الخراب والدمار والفساد وتوالي الحكومات المشلولة تحت ضغط السلاح المنفلت والميليشيات الموالية لإيران ووليها الفقيه.
إذا استطاعت جينين بلاسخارت حلّ ونزع أسلحة الميليشيات الإيرانية الولائية فيكفيها هذا سبباً لإقامة تمثال لها في قلب بغداد.
الشرق الأوسط
داود الفرحان - كاتب عراقي
حين تسلمت وزيرة الدفاع الهولندية السابقة جينين بلاسخارت في أغسطس (آب) 2018 مهمة الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة في العراق كانت تدرك تماماً حجم المخاطر المحيطة بعملها الحساس. وقبل هذا التعيين، كانت عضواً في البرلمان الأوروبي منذ 2004 وأعيد انتخابها أكثر من مرة، وتم تكليفها العمل وزيرةً للدفاع في هولندا. ثم استقالت من المنصب لتعود إلى الاتحاد البرلماني الأوروبي، حيث خاضت نقاشات ساخنة حول سلامة المطارات الأوروبية، وقالت إن أنظمة السلامة يجب أن تطبق فقط في المطارات ولا تتمدد إلى المناطق السكنية والزراعية والصناعية المجاورة. ولم تتردد في إثارة جدل حول رسوم الكاريكاتير المسيئة للرسول الكريم النبي محمد، صلى الله عليه وسلم. وكانت ناشطة في مسائل السلامة العامة والشرطة الهولندية والمساواة في المعاملة والحقوق المدنية.
وفي واحد من أجرأ مواقفها ضد الولايات المتحدة، قادت تصويت البرلمان الأوروبي إلى وقف اتفاق بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة كان من شأنه أن يمنح السلطات الأميركية إمكانية الوصول إلى البيانات المصرفية الخاصة بالمواطنين الأوروبيين في شركة سويفت SWIFT، وهو أمر لا يسلب حقوق المواطنين فقط، لكنه يمس سيادة الدول.
في أكتوبر (تشرين الأول) عام 2017 تم تصنيفها على أنها أكثر امرأة تأثيراً في هولندا. بهذه المواصفات عينها الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش في عام 2018 ممثلاً خاصاً له في العراق ورئيسة بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق «يونامي».
بعد تسلمها عملها في العراق بأشهر قليلة حدثت ثورة أكتوبر في بغداد والمحافظات الجنوبية تحت شعارات استعادة العراق من الاحتلال الإيراني، ومحاربة الفساد، وتوفير فرص عمل للشباب العاطل من خريجي الجامعات والشهادات العليا والفقراء.
وشوهدت علناً في ساحة التحرير الكبرى في بغداد في أوج مظاهرات الشباب المحتج على الفساد والقمع والبطالة والطائفية. وقامت بجولة في عربة «التوك توك» في الميدان الذي شهد أبشع عمليات الاغتيالات بقنابل الغاز والرصاص الحي، ما أدى إلى استشهاد أكثر من 700 شاب مسالم، وأكثر من 10000 جريح يرفعون علم العراق وشعارات المظاهرات.
وفي أول تصريح علني لها عن اختطاف ناشطين كانوا في طريق العودة من بغداد إلى كربلاء في أواخر عام 2019، دعت الممثلة الدولية إلى توفير الحماية للمتظاهرين السلميين، محذرة من أن «عنف العصابات والميليشيات المنبثق عن الولاء للخارج (إيران) قد يضع العراق في مسار خطير». وأضافت أن «القتل المتعمد للمتظاهرين العُزّل على أيدي عناصر مسلحة ليس سوى عمل وحشي ضد شعب العراق». وطالبت بتحديد هويات الجناة و«تقديمهم إلى العدالة من دون تأخير». وحثت الجيش العراقي، وليس الحكومة، على «ألا يدّخر جهداً لحماية المتظاهرين السلميين من العنف الذي تقوم به عناصر مسلحة تعمل خارج سيطرة الدولة».
يتذكر القراء أن الولايات المتحدة نظمت في السنوات الأولى للاحتلال الأميركي اجتماعات دولية عدة تحت مصطلح «دول جوار العراق» حضرتها الدول الست، الكويت، والمملكة العربية السعودية، والأردن، وسوريا، وتركيا وإيران، بالإضافة إلى العراق الذي لم يحضر الاجتماع الأول. ثم سمعنا عن مؤتمر الدول المانحة في الكويت. لكن مشاكل العراق المحتل ظلت كما هي، بل تعقدت أكثر بالتدخل الإيراني السافر في جميع مفاصل الحكم والمجتمع والانتخابات والاقتصاد وكتب الدين والتاريخ. وفجأة ماتت هذه الاجتماعات والمؤتمرات بالسكتة القلبية بعد أن انسحبت معظم القوات الأميركية من الأراضي العراقية، تاركة إيران تصول وتجول في طول العراق وعرضه.
حالياً للأمم المتحدة ممثلية خاصة في العراق تديرها السيدة بلاسخارت، وهو أمر تطور مهم ومفيد، وغالباً ما تلجأ المنظمة الدولية إلى تسمية ممثلين لها في الدول التي تعاني من حروب أهلية وعدم استقرار وحكومات ضعيفة.
قامت بلاسخارت بالاجتماع مع قيادات حكومية عراقية منذ رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي فعادل عبد المهدي إلى مصطفى الكاظمي. وزارت مراجع دينية اختارتها بنفسها حسب قدرة هذه المراجع على التأثير السياسي أولاً والديني ثانياً. وقبل أيام قامت المبعوثة الأممية بزيارة إيران واجتمعت مع مسؤولين فيها للبحث في علاقة إيران بالعراق، وهي في الحقيقة ليست علاقات «ملتبسة» كما يقول بعض الكتّاب، لكنها علاقات قسرية واحتلال إيراني مباشر وضع «سيادة» العراق جانباً وسلّط «الحرس الثوري» الإيراني، منذ قائده قاسم سليماني، على مقدرات العراق السياسية والعسكرية والميليشياوية والاقتصادية، وصولاً إلى قمع مظاهرات شباب العراق بالقوة المفرطة واغتيال النشطاء السياسيين.
تأكدت جينين بلاسخارت أن إيران ليست «الطرف الخفي» في المشهد الدامي الدرامي فقط، وإنما هي اللاعب الوحيد في العراق بصرف النظر عن السفارة الأميركية المغلقة والقواعد العسكرية الأميركية ذات التأثير المحدود، فقامت بزيارة طهران، وهي زيارة غير «سياحية»، وإنما تَدْخل في صميم عملها، والتقت مستشار المرشد الإيراني للشؤون الدولية علي أكبر ولايتي والمساعد الخاص لرئيس مجلس الشورى حسين أمير عبد اللهيان.
إلا أن السيدة الهولندية تعرضت لانتقادات واسعة من قبل قيادات سياسية عراقية معارضة لإيران في مقدمتها اللجنة المنظمة لمظاهرات ثورة أكتوبر بسبب قيام المبعوثة الأممية بمناقشة موضوع الانتخابات النيابية العراقية المقررة في أكتوبر المقبل مع مسؤولين إيرانيين، وهي «خرجت عن مهمتها الأساسية بتقديم المساعدة والخبرة للحكومة العراقية في إجراء الانتخابات، وليس التفاوض مع الدول الأجنبية بشأن عراقي مما يُعد استخفافاً صارخاً بسيادة العراق وتجاوزاً على استقلاله» كما جاء في أحد بيانات لجنة المظاهرات. وطالبت اللجنة بإقصاء المبعوثة الدولية عن منصبها بأسرع وقت؛ «لأن العراق ليس المحافظة رقم 32 في خريطة إيران». وهذا الغضب الشعبي العراقي له دوافعه، فقد قامت إيران وعملاؤها من الميليشيات باغتيال آلاف العراقيين من الناشطين السياسيين وأساتذة الجامعات والإعلاميين والضباط والطيارين، ولم تتم محاسبة أحد من القتلة على الرغم من أن كاميرات المراقبة وثّقت عدداً كبيراً من تلك الجرائم الشنيعة. لدى العراقيين اليوم حساسية شديدة ومؤلمة من أي مسؤول عراقي أو أجنبي يزور إيران ويلتقي مسؤولين هناك لبحث الشأن العراقي.
من الضروري أن نستوعب دائماً أن السياسة بحرٌ كبير فيه كل الاحتمالات، وليس الرفض فقط. وإذا لم تذهب بلاسخارت إلى طهران أو تركيا أو الدول الأخرى المجاورة للعراق فمن واجب شباب أكتوبر أن يطلبوا منها أن تتدخل لكف الأيادي الخارجية عن اللعب بمصير الشعب العراقي بعد 18 سنة من الخراب والدمار والفساد وتوالي الحكومات المشلولة تحت ضغط السلاح المنفلت والميليشيات الموالية لإيران ووليها الفقيه.
إذا استطاعت جينين بلاسخارت حلّ ونزع أسلحة الميليشيات الإيرانية الولائية فيكفيها هذا سبباً لإقامة تمثال لها في قلب بغداد.
الشرق الأوسط
داود الفرحان - كاتب عراقي