×

اضغط هنا إن لم يقم المتصفح بتحويلك آليًا.
المخرج محمد فرحان

شاهيناز الفقي تكتب: صائد الفَرَاشات

صائد الفَرَاشات


هوايته صيد الفَرَاشات وكانت هي فراشة حائرة في فضاء النِّت الأزرق، في ذلك اليوم كتبت تعليقًا على منشور له على الفيس، كان يعرض فيه وجهة نظره في واقعة تاريخية، مختلفة هي عن الآخرين، حاول يومها أن يستدرجها لحديثٍ يطول، اكتفت بتعليق وانصرفت، تظن أن الأمر سينتهي عند هذا الحد؛ وصلتها رسالةٌ منه يقول فيها:


- أحب أن أعرف رأيك في الموضوع باستفاضة، كُلِّي عيون قارئة.


لماذا قرأت رسالته على غير عادتها، لم تكن تقرأ رسائل الغرباء والمتطفلين، لم تكتفِ بالقراءة بل أجابت عليها،

- أنا لا أعترف بالتاريخ، فهو يحتمل وجهات نظر، التاريخ يكتبه المنتصر.


كادت تغلق قبل أن يقفز بوجهه الطفولي في رسالتها يستدرجها لحديث طال أكثر من ساعتين، عن التاريخ والسياسة، غاب بعدها ليوم كامل، تركها تتجرَّع حَيْرَتَها."

أنا في انتظارك مَلِّيت".


أغنية لأم كلثوم وواقع عاشته لساعات وقد ازدادت لهفتها لرسالةٍ منه، الوقت يلعب دورًا رئيسًا في بداية العلاقات، تعامُلنا مع الوقت يحدد من سيَمْلِك الزمام، وكان هو يملك الوقت دومًا ويعرف كيف يُديره لصالحه، في المساء بعد يوم طويل وصلت رسالته:

- مساء الخير، كيف حالُك اليوم؟

ترددت طويلًا قبل أن تجيب، قالت على استحياء:
- مساء الخير.
مساء الخير تلك جرَّت عليها كل شرور الزمن الرديء، فتحت الباب على مصراعيه لآلاف الرسائل بينهما، يطاردها برسائل لا تنتهي، يمسك الدفَّة وتسير هي مع التيار.
لا حسابات عقلانية ولا منطق في علاقتهما، فقط الشغف هو ما يجمعهما، يتسلل داخلها كل يوم ببطء، يدكُّ حصونًا ويبني قلاعًا ويدقُّ رايته بأراضيها، أمام اجتياحه انهارت كل خطوط دفاعها، وانسحبت كل جيوش مقاومتها، وأعلنت استسلامًا غير مشروط.
طلبت منه أن تسمع صوته، لم يعرف التردد يومًا، بعد ثوانٍ كانت تسمع اسمَها في رسالة صوتية، سمعت الرسالة أكثر من ألف مرة، تمنَّت لو تستطيع احتضان صوته، تسكبه في قلبها، تضعه سوارًا في معصمها وكُحْلًا في عينيها، صوته دافئ حَنُون.
يراها مختلفة، قوية وجريئة لتقول له بعد غياب إنها تفتقده، ليفاجئَها رَدُّه الغريب.. "شكرًا".
عاتبَتْ نفسها على اندفاعها، أرسلت له لتبرير جريمتها وأن الكلمة خانتها وأنها لم تقصد وأنها.. ليأتيها الرد في رسالة منه تقول:
"افتقدتك جدًّا".
أضافا تلك الكلمة لقاموس علاقتهما فأصبحت عادةً أن يقولها صباحًا وتقولها هي مساءً، وكما أن كل شيء يشمله التغيير، تحولت كلمة "افتقدتك" لكلمة أكثر عمقًا وحرارةً "وحشتيني"، لترد هي: "وحشتني جدًّا".
انساقت وراء اندفاعها وجنونها، جرفها التيارُ بجموحٍ وشدة نحو أرضه؛ لتمارس معه كل ألوان الجنون، وتُلمْلِم في رسائله ما تناثر من عمرها، وتصنع من حكايات يرويها تاريخًا جديدًا
بعد أن أطفأ ضوء لمبته الخضراء أرسلت له رسالةً تقول:
"أشكرك كثيرًا لأنك حوَّلتني لفتاةٍ بلهاء، سعيدة متوهجة، تبتسم طوال الوقت وتضحك لأتفه الأشياء، جعلتني أحب اسمي وأطرَب لسماعه، كطفلةٍ لم يمرَّ من أمامها قطار العمر، أشكرك لأنك خلقت لحياتي معنًى ولأني اكتشفت نفسي معك من جديد، أشكرك على وجودك في حياتي.
كيف نمنح ثقتنا لحروفٍ صامتة، كيف يغزونا الحب ويرتعش القلب ويرتجف البدن وتستعر فينا الرغبة من بضعة حروف، لم يلتقيا يومًا، لم يتحادثا هاتفيًّا، ليس بينهما سوى الحروف وصوتُ لوحة المفاتيح وبعضٌ من الخيال، ولكن تَملَّكها تلك الليلة شعورٌ ساحرٌ حلق بها في سماوات من العشق واللهفة.
تَملَّكها عشقٌ مجنونٌ.. شعرت أنها على وشك السقوط في بئر ليس لها قرار، كفراشةٍ ترقص رقصة الموت الأخيرة حول اللهب ابتهلت إلى الله أن يُزيح عنها كربة ذلك العشق ولكن الله لم يَسْتجِب.

في الحب تقتلنا الغَيْرَة ألفَ مرةٍ في اليوم وتُحيينا كلمة. قررت أن تبحث عنه عند الأخريات، الشكوك تقتلها مع كل تعليق يكتبه لإحداهن، بدايتهما كانت بتعليق، ثم رسالة، ثم علاقة ثم احتراق، كم كانت فراشاته كثيرات، يطاردهن بتعليقات تشبهه وتشبه تعليقاته السابقة لمنشوراتها، تسأله فيجيبها أنهم أصدقاء، تسأله عن نوعية تلك الصداقة، فتقتلها إجابته:
"أصدقاء عادي".
تتساءل في جنون "لقد كنا يومًا أصدقاء!".
في البداية كان هو الفعل والفاعل، يمسك الدفة والزمام، اليوم لماذا يكتفي بتحية صباحية وبضع كلمات، يغيب طوال اليوم، ويحييها مساءً على استعجال متعللًا بالنوم. تستيقظ فجرًا لتجد ضوئه الأخضر ما زال مضاءً. هل نجح في اصطياد فراشة جديدة؟، هل هو في بداية علاقة؟، ما أجمل البدايات، متعة الاكتشاف لديه تفوق كل متعة.

توسلت إلى الله أن يكشف لها غيب قلبه، أن يُزيل حُجُبَه لتعرف أين هي منه، تتباعد رسائله يومًا بعد يوم، يتركها تتسرب من بين يديه، أدركت أن طريقهما لن يتقاطع أبدًا، خطوطهما ستظل متوازية على الدوام. قررت الابتعاد وإنقاذ ما تبقَّى لها من كرامة، بعد أن تيقَّنت من وجودِ فراشةٍ جديدة تطوف في محراب ضوئه.

اكتشفت إنه للمرة الثانية يحوِّلها لبلهاء ولكن هذه المرة حوَّلها لفتاةٍ بلهاءَ بائسة، تتعاطى اليأس صباحًا ومساءً، تبتهل إلى الله أن تُذيقه فتاة أخرى مُرَّ ما ذاقت، أن تنتقم منه سواها، فهي أضعف من أن تملك القدرة على الانتقام.

ربما لم تتعافَ منه حتى الآن، ولكنها ستفعل يومًا، ستكفُّ عن مراقبة ضوئه الأخضر، ستدعُهُ لمغامراته وفتوحاته وترحل، ستسمع يومًا أخبار هزيمته، ربما حينها تبتسم في أَسًى
وتدعو الله له بالصبر ولعل الله يستجيب.
image
 0  0  207