×

اضغط هنا إن لم يقم المتصفح بتحويلك آليًا.
مديرة التخرير سعاد العتابي

قراءة نقدية لرواية "الوثن" للروائي مصطفى بوغازي بقلم: نهى الخطيب/ المغرب


image



عنوان الرّواية هو بمثابة الرأس للجسد، واوّل عتبة نخطوها نحو النّص، للعبور إلى الرّسالة المضمرة في الرّواية.
اسم "الوثن" كعلامة لسانية وسيميولوجية رغم بساطته في اللّغة: التّمثال، أو في الإصطلاح: الصورة بلا جثّة، يُغري القارئ بفكّ شيفرته الرّامزة؛ حتّى يتبلور المعنى العميق له وتتكشّف معانيه.
في رواية "الوثن" التي تقع في مائة صفحة، يتحدّث الرّوائي الجزائري "مصطفى بوغازي" بشكل صريح عن الظاهرة الديكتاتورية والإحتكاريّة للحكم، واُستنطاق المحظور من يوميّات الجزائريين، منذ ثلاث عقود من الزّمن وأكثر، متحدّيا كلّ الحدود؛ مصوّرًا وضعيّة المثقّف الجزائري الذي يعيش بين نار السّلطة واستبدادها؛ وبين جحيم واقع مزري ينبئ بالإنفجار...
طالعنا " مصطفى بوغازي وهو من الرّوائيين الذين يشكلون منعرجا جديدًا في الكتابة السّرديّة ببلد المليون شهيد بقلم كبير وواعد؛ برواية.. هي نمط جديد وشهادة على واقع حال وحضور ذات المثقّف المعذّبة في وطن مثخن بالجراح على غرار كل الأوطان العربيّة؛ فكان عمله أدبيّا مميّزًا بكل عناصره، اُنطلاقًا من الإستهلال واُنتهاء بالحبكة.

أعطى لكلّ عنصر حقّه، فكان عرضه التّقديمي ذا عتبة قويّة البنية، جيّدة السّبك؛ بضمير متكلّم وافعال حركة: (ترجّلتُ - أطلقتُ) مؤكّدا منذ البداية انّه الشّخصيّة الرّئيسية في الرّواية وحضوره كسارد قويّ؛ في نفس الوقت يحيلنا بشكل لَبِق على جمالية أول فضاء يجري فيه الحدث الرّئيسي وهو نحت "الوثن"... القرية المشبعة برائحة التّراب وعبق شذى الأزاهير التي أعادت له أنفاسه المختنقة من أجواء المدينة الملوّثة، في أسلوب سردي تارة ووصفي تارة أخرى؛ يتميّز بالإقناع والإمتاع مع نيّة إحداث التّأثير باختيار مفردات اللّغة وتفجير طاقات التّعبير؛ ليمدّنا بسلسلة من الأحداث المرتبطة برباطين:
- رباط الزّمن الذي ينظّم الأحداث قبل 15 أبريل 1995 تلك الحقبة العصيبة من تاريخ الجزائر، المسمّاة بالعشريّة السّوداء، التي عرفت مذابح راح ضحيّتها سكّان قرى بأكملها (ذبحوه على مرأى من عيني جدتي)؛ عمّ الكاتب الصحفيّ (عمتي رندة أخذها أفراد عصابة الرّوجي إلى وجهة مجهولة وبقي مصيرها لغزا إلى اليوم)؛ حقد وإرهاب ووحشية بلا حدود طالت الأبرياء...
وبعد التاريخ المذكور تغيّر مجرى الأحداث، ليصبّ في شخصية الرئيس "الوثن"، أحد وجوه الازمة التي تغلغلت في البلاد؛ وتسبّبت في التّسلّط واستشراء الفساد وانتشار الرّشوة، وظهور طبقة واسعة من الوصوليين ومتصيّدي الثّروات:
- منير: مدير الثقافة، الوسيط بين الوزير وبطل الرواية لنحت تمثال للرئيس مقابل أجر مالي مغري ...
-عمار الطحش: سمسار المدير والمتاجر في كل شيء حتى الذّمم.
بنت الوزير: مديرة شركة للإشهار؛ تقيم معارض على حساب الغلابى من الرّسامين والنّحاتين، لكنّ البطل "النّحات" لم يكن صيدا في متناول يدها، لأنه يعرف حقيقتها.

في مقابل هذه الزّمرة الفاسدة، توجد شريحة الشعب المغلوب على أمره، الذي يعيش الفقر والتنكيل، بعدما سلبوا منه كرامته واستحوذوا على الرّيع؛ وتركوه مابين طريح فراش يعاني الآلام وينتظر الموت (والد البطل: المريض بسرطان الرئة)؛ ومابين مظلوم سلبوه أرضه عدوانا (إبن عمّ البطل)؛ ومابين سكّير مجنون بهستيريا خيانة الشّعب وتحقيره واستغلال سكوته (ابن الحيّ "دونقا " المبحر الماهر في الشبكة العنكبوتية) ناهيك عن جيش من المعطّلين الشّباب الذين يُزَجُّ بهم في السجون، لأنهم يعبرون عن آرائهم ويفضحون عملاء الإستعمار في الماضي وناهبي الوطن في الحاضر على مواقع التّواصل الإجتماعي التي أصبحت المتنفّس الوحيد لشباب مقهور (رشيد إبن خالة بطل الرّواية) وغيرهم من معارضي العهدة الخامسة.
لقد بنى الرّوائي "مصطفى بوغازي روايته " الوثن " على فضائين مهمين:
- مدينة باتنة ونواحيها، التي تمثّل البيت والمقهى والسجن وبيت الجدّ وسوق الجملة وجدار باخوس ومركز الشّرطة والشارع ...
- الجزائر التي تمثّل الوطن بكل أوجاعه وأحلامه.

وقد أثّث لهذين الفضائين بكل ما يتجاوب مع الشخصية المركزية شكلا ومضمونا، وتنقلاتها في هذه الأماكن المفتوحة والخاصة عمل على إغناء الرواية من ناحية العامل الجغرافي والطوبوغرافي؛ وجعله فاعلا في الأحداث والشخصيات وله دلالات؛ وليس مجرد محايد .
وقد بدل جهدا مميّزا في التعريف بالأمكنة المتعددة في الرواية لتتناسب مع الأحداث بكل مكوناتها الاجتماعية والفكرية والثقافية؛ وهمومها اليومية العامّة والخاصّة بحيث نكاد نشمّ رائحة هذه الأمكنة وأصواتها: (أكثر الأمسيات كنت أعرّج على أبي في مقهى "مروش" ذي الأرضية الخشبية، أقطع عليه جلسة " الديمينو" لنعود إلى البيت، هكذا كانت مدينتي تمسي على راحة بال وصفاء ضمير، أبواب أزقتها الشّعبية مفتوحة على الفرح، يحرص على حرمة داخلها من العابرين ثقل ربط بحبل على بكرة تتحكم في رجوع الباب إلى وضع الغلق...).
لقد أفرغ الرّوائي " مصطفى بوغازي شحنته الفكرية والثقافية في هذه الرّواية، لتجنيب القارئ الملل، وتجديد اُنفعالاته مع النص، فكانت الحبكة عبارة عن حكاية وخطاب:
- حكاية بإثارة مجريات الأحداث المتسارعة.
- وخطاب يحاور ويتلاعب بالضمائر والأزمنة والفضاءات والشخصيات الفاعلة؛ متّكئا على حدث سياسي بات معروفا لِنقل بؤر موازية تساهم في تنويع السرد والوصف، مع التّقليل من النزعة الشّخصية، ومحاولة تقليص دور البطل النرجسي والخارق للعادة، متحرّرًا من المرجعية السطحية ومهتّمًا بالبُنى الدّلاليّة العميقة ذات الترابطات بين عناصر النص... من هنا راهن على التّغيير والتّحرر من التكرار والتقليد، الشيء الذي انعكس على الأسلوب والتّقنية/ بنية الخطاب.
لقد تمَّ إنجاز "الوثن" من الصخرة التي تبوّل عليها الكلب...!
منحوتة "وجه وأربعة أقنعة" كما لم يتخيّلها الوزير ليقدّمها هدية تزلّفا وتقرّبا من الرئيس في عهدته الخامسة...
بل عبارة عن صورة لوثنية جديدة (تنافس قطعان البق)، (تنافس قطعان البقر)
فلم تكن قناعة البطل ومبادئه لتسمح له بالتّنازل، لولا الحاجة وعسر الحال ومرض الوالد...
وتأتي بداية النهاية في 02\ 04 \2019
نزل الشعب للشارع في مسيرة سلمية للتنديد بالعقدة الخامسة.
- ياسر الأخ منتشي بالحدث الذي تربّع كلّ القنوات والفضائيات.
- الأب لم يطلب ضخّاخ الأوكسجين، وكأن مايراه ويسمعه جعله يتنفّس الصّعداء.
إنتهت رحلة "الوتن المنحوت" بساحة التّظاهر، في حين قدّم صاحبه استقالته لينهض الوطن من جديد ...
إنّ رواية " الوثن" إذا كانت تنضح بشيء فإنها لا تنضح بأكثر من الجانب النّفسي والأخلاقي والوجداني تُجاه الوطن؛ فالرّوائي "مصطفى بوغازي" لم يرد فقط ان يُصوّرها من الجانب السياسي العقيم والإجتماعي المزري فحسب، بل كتجربة مليئة بالإنفعالات، بكل بساطة أراد ان ينقل القارئ إلى عالمه...


بتاريخ 03\02\2020
[/SIZE]
 0  0  883