×

اضغط هنا إن لم يقم المتصفح بتحويلك آليًا.
المخرج محمد فرحان

‏محمد الياسري الحسيني‏ محمد صبري الفنان الأسمر الذي ألتهمه المرض


‏محمد الياسري الحسيني‏


ربما تحيلني الكتابة عن الفنان التشكيلي العراقي الراحل محمد صبري (1954-2002) كنوع من الوفاء لفنان عاش ثنائية اللون واللوعة ، ثنائية المدينة وعنفها ، ثنائية التذكر والنسيان ،المواجهة والصمت ثنائية المبدع واللاجدوى . فنان حاول جاهدا أن ينزع عنه أثقال سنين عجاف . يطارده الحنين إلى زمن الألفة ، الأصدقاء ، التجريب ، الحوارات ، الحنين إلى المقهى (مقهى حسن عجمي) وأكتظاظها بروادها من أدباء وفنانين وصعاليك ،
إلى جماعة الأربعة (جماعة فنية تشكيلية تأسست بداية الثمانينيات وكانت تضم بالاضافة إلى محمد صبري ، كل من حسن عبود وفاخر محمد وعاصم عبد الأمير ) .
الحنين إلى كل مايؤنس وحشته بعدما تشتت الحلم والوطن والذاكرة والأصدقاء ، واستكان إلى عالم لم يعد يحتمل حركته ، ولا موهبته وتشوقه إلى جدلية الفعل وانبهار الأكتشاف وقيمة الخطاب .
كثيرا ماتذكرني أعمال الفنان محمد صبري بالواقع الذي طالما أدرجه في مخيلة المتلقي ، واقع يستنفذ شرط الأنسنة بل يعيد اللوعة ويفهرس العذابات ويكشف حساب المهانة ، كي يورد أبصارنا لهيب الأسئلة ، ويحرض أستكانة المتلقي ، إنه فن أبناء الغرف الداكنة في الشوارع الخلفية بكل جحيم المشهد المسربل بالفجيعة ، إنه فن الأنين الخفي النازف من هذيان الفقر والسلطة والحصار .
ورغم كمّ الوجع الذي تحتويه أعمال الفنان لكنها لم تتخلّ عن شرطها الأبداعي بأن تكون
تجانسا لونيا معبرا يثبت قدرة الفنان على إدهاش المتلقي ، وبمعالجة احترافية واعية لمساقط الظل والضوء والتي كثيرا ماتتجسد كقيمة من شرط العمل في الأعمال التي تمتلك رؤيا تشخيصية ( يعتبر محمد صبري من الفنانين الذين يمتلكون خصوصية عالية في تقنية العمل الأكاديمي أو الدراسي وبقدرة لونية تعزفها أنامله المحترفة في تدجين تكنلوجيا اللون ) ولذلك كان محمد صبري عاشقا أزليا لرسم الموديل أو الطبيعة حين كان يدرس أو يدرّس في أكاديمية الفنون الجميلة – بغداد. لوحة محمد صبري فعل مشهدي يحقق صدمته وبمهارة ابداعية عالية تكثف شرط المعالجة مستعينا بمهارته الأكاديمية وبتناص إلى موروث ينضج فعل العمل والرمز المكتنز بالدلالة .
يجزيء محمد صبري مساحة العمل إلى أجزاء داخل اللوحة وينفذ وجوها محفورة في تركيب لوني أبيض أشبه مايكون بكتاب تتلاحق حركة أوراقه كأجندة لذهالة الوجوه ، أو يرسم شخوصا ، كثيرا ماتتراءى بضبابية وكأنها تنحو برمزيتها نحو أفق مغاير لأفقها اليومي .
جاء موت محمد صبري المبكر ليترجم أكتمال الثنائيات ، وهاهي ثنائية الحياة والموت تنسج آخر خيوط الدائرة ، وربما أراد محمد بموته أن يعلن أحتجاجا آخر بعدما ضاق فضاء اللوحة عن أن يحتمل كلّ هواجس شخوصه المثقلة بالحزن و الأدانة . جاء موته ليدين كلّ تنابلة الغفلة ومروضي الضمائر ، وربما أنقاد محمد صبري لموته تنفيذا لنبوءة تلبستها أحدى لوحاته والتي عنونها (موت شاعر) .
هل مصادفة أم إنها قيم شائعة ألا أجد( وبعد مايقارب سنة على موته) في كل الصحف أو المجلات أو أرشيف الصفحات الألكترونية مايشير إلى موته إلا مقالتين لم تف محمدا حقه
وألا أجد أي صورة لأعماله حتى عند الصديق الفنان حسن عبود والذي تربطه بالراحل صداقة لمرحلة وجيل وجماعة (الأربعة ) وحتى محاولتي في مراسلة الأصدقاء داخل الوطن للحصول على بعض الصور والمقالات عن محمد صبري وجماعة الأربعة لم تفلح .
ولذلك جاءت هاتان الصورتان الوحيدتان والتي حصلت عليهما بالصدفة داكنتين , ، والدكنة هنا ربما تناص لدكنة بشرة محمد صبري ولموته الأكثر دكنة ولصمتنا الداكن أبدا .
مات وحيدا بمستشفى بعمّان بمرض السرطان المفاجيء بعد خروجه من العراق بفترة قصيرة حالما بالوصول إلى شطآن أمان وجنات عدن بعدما تحول الوطن إلى خراب أبدي . هكذا استشرى خبر موته ... محمد صبري الفنان الأسمر الذي ألتهمه المرض والحزن ليتبدّد وإلى الأبد في رحلة لم تكمل بحثها الفتي بعد ، ربما كانت نظراته لحظة الأحتضار تتفحص مكائد المكان وغفلة العالم ( الضجيج ) عن الوجوه والأجساد (عوالم لوحاته) وعن عذاباته هو، وموته إنه ( موت شاعر )...عفوا ياصديقي موت فنان

https://youtu.be/lbsdksfEhJU
image
 0  0  211