×

اضغط هنا إن لم يقم المتصفح بتحويلك آليًا.
المخرج محمد فرحان

غادة هيكل---صوفيا ******



صوفيا

******image

سيدة ثلاثينية لا أدرى هل أصف جمال عيونها التى تحجبه بطرف طرحتها ، أم أصف جمال جسدها التى تداريه بجلبابها الفضفاض ويأبى الهواء إلا أن يلصقه به ، لن أصف سوى تلك النظرة الوحيدة فى عينيها الباكيتين ، تلتصق أكثر وأكثر بالشباك تدارى فيه دمع عيونها ، وتبدى صلابة قسمات وجهها بتكشيرة تعلو حاجبيها المرسومين كلوحة رسام لغجرية سمراء لا تبيح بمكنون نفسها إلا على لوحة شاردة ، أتطلع إليها ثم أستدير نحو الحائط الآخر فأجد ملامحها قد تكونت على الجدار بفعل ريشة هذا الرسام الهاوى ، ولكنها لم تطلب منه أن يرسمها ، هل ألفت نظرها لما يحدث ؟ ، ولكنى أخشى أن تترك المكان وتبتعد ، إنها بالفعل لوحة ربانية بديعة المنظر ، كيف يراها ولا يرسمها ، ولكن كيف يرسمها دون إذنها ، أقترب أكثر من اللوحة ، لا ليست هى! ، لا بل هى ، اللوحة لم تنتهى بعد ، ولكن الوجه غير واضح الملامح ، إنه يرسمها كما هى تقف قبالة شباك المقهى ، تضع يد على الحديد البارز والأخرى بها منديل ابيض تمسح به دموعها ، ثم تسند راسها عليه فترة ما لتعاود مسح دموعها ، دائمة الحركة برجليها خطوة إلى الأمام وأخرى للخلف ، نظرة تلقيها داخل الشباك ترتفع معها رجلها لتقف على أطراف اصابعها ، يرتفع معها جلبابها الفضفاض ، يبرق من تحته بياض ناصع كاللبن الحليب ، واستدارة سمانتها تبيح بجمال علوى يبحث عن قارئه ، ولكن ما قصتها ؟ ولما وقوفها هكذا ، أراه يتعجل بالرسم يخشى ما اخشاه ، لقد حدد باترون جسدها حتى وصل لصندلها الابيض اللامع ذى الكعب العالى ، توقف هنية ينظرلبديع خلق الله فيها ، ثم سرعان ما التفت للوحة وأمسك بالريشة غمسها باللون الابيض بعد تحديد وجهها الدائرى باللون الأسود وخصلات شعرها الاسود البارزة تحت طرحتها تتدلى على جبينها ، وحاجبين مخطوطان باللون الاسود رموش طويلة وعيون عسلية ولكنها حائرة ووحيدة ، هل قرأت ذلك فى اللوحة ام فيها لا أدرى ؟ وبياض ناصع تلتهمه شفاه بصبغة وردية اللون ، يا الله إنها هى ! سبحان من ابدع وصور ، أعجبتنى اللوحة الربانية واللوحة البشرية ، ولكن يبقى السؤال هل أبوح لها بما يحدث ، لقد حمل اللوحة وسار بها نحوها ، هكذا فوت علىّ ما أفكر فيه ، يقترب منها يلقى التحية ، تنتبه له ، أعطاها اللوحة ، ظلت نتظر لها فترة طويلة من الزمن لا ادرى كم مر عليها وهى تتيه فيها ، جذبها من يدها ن ارتمت على الكرسى كمن ظلت تبحث عنه زمنا ، ما زالت تنظر إلى اللوحة ، وهو صامت يتملى فى وجهها يقرأ عباراته التى تبوح بحزن عميق ووحدة وألم دفين ، فتحت حقيبتها وأخرجت بعض جنيهات ، ولكنه ضم يدها إلى صدرها وتركها وعاد إلى طاولته يجمع ريشته ولوحاته البيضاء ، أسرعت إليه تعتذر ، الصوت بعيد ، إنتقلت إلى طاولة قريبة منهما ، سألها : هل لى أن أعرف سر حزنك ووقوفك هنا هكذا ؟
قالت : بعد تنهيدة صدر كأنها تخلع قطعة مؤلمة من داخلها ،أنتظره
من؟
قبطان سفينتى .
ومن يكون واين سفينتك ؟
سفينتى هناك جرفتها نوة البحر ونادت عليه عروس البحر .
ولكن هنا لا سفينة ولا بحر !
عادت من مسافة بعيدة وقالت : كنا نتقابل هنا ويحكى لى عن البحر ونوّاته وكيف يفتدى نفسه من عروس البحر بصورتى التى تغار كلما رأتها فترفع الموج عاليا ويثور البحر عليه ، وعندما تراه متمسكا بى ولا فائدة من مراودته تتركه يعود ، يأتينى مسرعا ليحكى لى عنها ونضحك ملئ الدنيا كلها .
أطرقت إلى الارض ودمعت عينى عندما سمعت حديثها ، أما هو فقد أمسك بريشته ورسم لها بحرا آخرا تعلوه سماء زرقاء ، يتدلى منها نجما ، ونصف قمر تجلس هى فوقه مدلية رجليها
تداعب النجوم بطرف إصبعها الذى يحمل خاتم زفاف لم يتم .
لم أعد احتمل حوارهما كلما حدثته رسم لها لوحة حتى إكتملت لوحاتهما ببيت صغير وتكعيبة عنب يتدلى منها عنقودين ، يستلذان بطعمه ، وضحكات نشوانة.
أنزوى وحدى فى طاولة بعيدة ، اتوحد داخل نفسى كما أتوحد فى حجرتى ، يعم الصمت من حولى ، انتشى أنا وسيجارتى صديقى الوحيد ، وزفير الرياح ، وقمر يحاول ان يتسلل كلما استدار تباغته سحابة تحجبه وكلما راوغها دفعته بعيدا عنى ، صفير الريح يمتزج بصفير القطار الليلى القريب من مسكنى ، يمر فى ميعاده الساعة الثانية عشرة ليلا لم يخلف ميعاده ابدا ، ولكنه اليوم لم يأت لقد تغير كل شئ مواعيد القطار ، وزحمة الشوارع ، والصور فوق الجدران ، والأصحاب ، الكل تغير ، الكل صامت أو حزين ، والعيون تسير بلا هدف ، النادل ينادى لقد مر وقت طويل دون أن أطلب شيئا ، حان وقت الشاى ، لم اعد أشرب القهوة بالحليب ، كنت اشربها معها فقط ، يا الله لماذا أتذكرها الأن ، ولكنى لم انساها يوما ، هذه الحجرة الوحيدة فوق السطح تحدثنى عنها كل يوم صمتها وجدرانها و الصور المعلقة بلا نظام ، حتى المرآة التى تبرز تجاعيد وجهى تقف هى فى زاويتها كل يوم تغمز لى بطرف عينها ، ما اجمل ضحكتها لقد اشتقت لها ، ولكن أين هى الأن ؟ صوفيا رفيقة الدرب وصبية الحارة وفصل ربيعها الممتد ، قلبها يخفق لا اراديا كلما تلاقت نظراتنا ، تصفنى بأن قلبى جاحد كصنم زرعوه فى الصحراء ليدل المسافرين على نبع الماء ، يشير اليها بيده ولا يبرح مكانه ليرتوى ، آآآآآآآه يا صوفيا لو كنت ارتويت منك ما تركتك ترحلين أبدا ، لم يكن مولدنا هنا صدفة ، ولم يكن تقاربنا صدفة ، ولم يكن امتزاج ارواحنا صدفة ، إنه الحب العذرى المقدس يا صوفيا الذى ملأ أرواحنا ولم اعيه ، لماذا لم تثورى علىّ أو حتى تركلينى حتى أفيق ، اصبحت غريبا الأن يا صوفيا ، هل أذهب اليه ليرسمك ، واحتضن صورتك ، إنك أجمل منها ومن البحر ، ولكن كيف أصفك ؟ ، وكيف ابوح له بمفاتنك ؟! ، وكيف أبوح بعجزى عن الحفاظ عليك ؟ لقد أخذك عريس البحر منى وأنا لا ادرى بما يشتعل بداخلى ، لقد تركتك للبحر ونوّاته العالية ،آآآآآآه يا صوفيا لو أدركتِ أن عطشى إليك غريب فى الصحراء يلهث ، أعمى والنبع أمامه ، أصم والضجيج حوله ، نبى فى محرابه يتعبد ، ورسام مع فرشاته ، وقمر ترقدين فوق هلاله تتدلى رجليك منه وطرف أناملك يداعب نجمه ، فهل تأتين؟ مرت سنتان على فراقك ، أتساءل هل داعب كفه خصلات شعرك الملاصقة لقرطك الذهبى فانتفض جسدك ،- أبتعد إنى أغار القمر يا صوفيا هو من يداعب خدك لست أنا .
ما الحكمة يا صوفيا فى عدم فهمى ، هل صحيح أن قلبى بليد فى الحب لا يفهم تلميحاته سريعا ، فلماذا لم تصارحينى ؟ هل هو القدر الذى لعب بك وبى ، وقذفك بين انياب أسد جامح يعبث بمفاتنك ، لم تأخذنى الدروب بعيدا عنك يا صوفيا دائما تقذفنى بين زراعيك ، واليوم كانت هنا صوفيا مثلك ترسم على الجدران حزنها ، وأنا حفرت صورتك وشم على صدرى ، يكفى أن يراها هذا الرسام ليعلم أن جميع فرشاته والوانه لن توفيكِ حقك ، بل أنه سوف يقف عاجزا أمام غنجك ودلالك ، تدللين يا صوفيا لا تتركى البحر يذهب بك بعيدا عنى ، عودى إلىّ حتى تعود الحياة إلىّ ، أعيدى الضوء إلى ظلمتى، وأعيدى حركة القطارات ، واعيدى البسمة للوجوه العابسة ، والعيون الحزينة ، أعيدينى إلى ذراعيك البيضاء ، كى أكفر عن خطيئتى ، وأتوب عن ذنبى ، هل تغفرين ؟
الأن سوف تكتمل اللوحة هكذا صاح في ، عدت من شرودى وطاولتى البعيدة ، أدركت الضجيج من حولى ، وكوب الشاى المملوء ، وسيجارة لا أدرى كيف ظلت بيدى ولم تنتهى ، غشاوة ما على عينى ، أحاول أن اتفرس الوجوه ، يقترب الصوت منى هذه لوحتك هذه صوفيا ، كيف ولما واين انا ؟ لقد سمعنا حديثك كله مع صوفيا ، كان صوتك عاليا ، ناجيت واستمعنا غصت معك فى لوحتك ، أنظر لها هل وفيت وصفك ؟ وهل أتقنت نقل وشمك ؟ نظر إلى صدره ، الأذرار مفتوحة ، والوشم ينطلق مع كل تنهيدة وزفرة ، حمل الصورة وعاد ليعلقها على جدرانه الصماء ، فتح باب الحجرة ، صوت الصرير وصوت القطار العائد الساعة على الحائط تدق الثانية عشر ، القمر يعكس صورته على وجه مستدير يحمل بيده كوبا من القهوة بالحليب رائحتها نفاذة ،يعانق الجسد البض الواقف على الجدار ويغلق الباب .


- - - - - - - - - - - - - - - - -
تم إضافة المرفق التالي :
1546404_250313561802644_1596384373_n.jpg
 0  0  828