×

اضغط هنا إن لم يقم المتصفح بتحويلك آليًا.
مديرة التخرير سعاد العتابي

سعاد العتابي.. (وشمٌ في ذاكرتي سيرةُ واقعٍ معاشٍ وخيالٍ خصبٍ).. قراءة انطباعية في المجموعة القصصية "وشمٌ في ذاكرتي" للقاصة ليلى عبد الواحد المراني.


image



سعاد العتابي.. (وشمٌ في ذاكرتي سيرةُ واقعٍ معاشٍ وخيالٍ خصبٍ)..
.

مدخل:
المجموعة القصصية "وشمٌ في ذاكرتي" للأديبة العراقية ليلى عبد الواحد المراني. صدرت عن دار المختار للنشر والتوزيع 2017 والتي شُرّفت بوضع لمساتي بتصميم غلاف المجموعة.

لكلّ منا وشم منقوش في جدار ذاكرته جمع فيه صورا وحكايات ووجوها وأمكنة وأحداثا ومواقفا مفرحة ومحزنة. آرشيف نحتفظ به.. نمدّ به ذاتنا العطشى في لحظة حنين، أو الشعور بالفقد وضياع الهوية. نتلمس ذلك الجدار.. نتحسسه.. نوقظ ذكرياتنا لتأخذنا برحلة سندبادية، نستنشق منها عبق الماضي، ونجلي صدر حاضرنا من غصّة البعد والتغرب ...

((الرؤية))

"في فن القص مَثل للأمة وبني الإنسان على مدار التاريخ، به الحكمة والمثل في الحكاية لنستقي العبرة، لنأخذ منها الصالح النافع في أمور الحياة، وفن الوصف وجمال السرد وبلاغة اللغة وإيقاعها ووقعها في النفس وإعمال الفكر..
وحيث أن الإنسان جُبِل على التعلّم بكل ما هو مسموع ومشهود، والمكتوب؛ فالقصة هي محرك الخيال لدى الإنسان المتلقي، تؤثر في شعوره ووجدانه، وعندما يعتمل في ذهنه الخيال، ويتحرك في نفسه الوجدان، تتولد في داخله العقيدة والقناعة، لما في القصة من أثر بالغ على النفس والعقل والوجدان، فهي إما ترسخ بداخله قناعة بعينها، أو تبدل قناعة بأخرى. والقصة كما عرّفّها الناقد د. مختار أمين هي حدث يخص فرد أو جماعة يؤكد على معنى بعينه من خلال صراع متنام ينتهي عند إيصال المعنى في تكثيف واختزال للجمل والعبارات والمواقف والشخوص..".*

نصوص المجموعة القصصية (وشم في ذاكرتي) من النوع التسجيلي، هي قصص في إطارها المألوف الواقعي.. ولكن بإضافات إبداعية جديدة، ضمنت للكاتبة الحرية والوجدانية معا.
وقد جمعتها وحدة موضوع، حمل صبغة إنسانية، واجتماعية يسوّرها حزن، وشجن، وحنين، ووجع، وثورة ضد واقع أليم، بحيث تمحورت الأفكار حول قضايا مهمة جدا مثل: معاناة المرأة، وانتهاك حقوقها، وطفولة محرومة،.. كما جاء في: قصة (الأرجوحة الحمراء): "إلى أهلي عدتُ ثانيةً، باكية مكسورة، أحمل هموم طفلٍ يكاد يكون يتيماً، وضياع زوجٍ أحسبه دوما في عداد المفقودين، غصَّةٌ لا تزال تثقل صدري، تركت الأرجوحة الحمراء هناك، فبيت أهلي كعلبة كبريت لا مكان عندهم لأرجوحة طفلي".
وسلّطت الضوء أيضا على مسألة خطيرة جدا، وهي مصير أطفالنا في خضم الحروب، والويلات التي تعاني منها أوطاننا، والمستقبل الغامض الذي ينتظرهم داخل جغرافية الوطن أو خارجه في بلاد الحريات والأحلام..
في قصة "فصل من رحلة موت" : "ثلاثين كنّا, وولداً صغيراً في الرابعة، ترك أخاه وأمَّه هناك في أرض النخيل، وجاء مع والد يسعى للمّ شمل العائلة بواسطته..".
واستوقفتني بعض الأحداث والشخوص والمواقف. لا شعوريا انسلخت عن ذاتي واندسست بين صفحات الكتاب لأجد نفسي مع أبطال ليلى استرجع مشاهد عشتها يوما وكنت فيها إحدى البطلات أو لي فيها دورا ثانويا كشاهد فقط لكنه كان مؤثرا جدا بحيث ترك وشما في ذاكرتي.. وبهكذا نجحت الكاتبة في نقل القارئ من بيئته إلى حيث تريد في العديد من المشاهد وهنا في قصة "ميراث حزن" وجدت نفسي بين المارة على جانبي الطريق ألّوح مودعة جارنا الشاب الذي سرقت (حرب الثمانية أعوام اللعينة في عراقنا الحبيب أحلام حبيبته بلقائه وصبغتها بالسواد) في قصة "ميراث حزن..":
"أصبحت اللقاءات في مدينتي تأخذ طابعاً جديداً.. نساءٌ يتلفّعن بعباءات سوداء، وظلال لهفةٍ وشوق للوصول إلى المكان للقاءٍ يكاد يتكرّر يوميّاً.
الأمر كان مختلفاً عند أوَّل جنازةٍ ل -شهيدٍ- تحمله سيارة عسكريّة، وموشّحٍ بالعلم.. بخشوعٍ، اصطفّ المارة على جانبي الطريق ، يلوّحون بأيديهم ، مودّعين بالدعاء وبجنّات الخلد، بعضهم بكى، ونساء زغردن للشاب -العريس- يُزفّ إلى قبره قبل أن يكمل دينه..".
... وفي قصة (أخيرا وجدتها) جسدت معاناة المغترب والانتماء الروحي والوجداني لوطنه حيث تجده دائما يبحث في وجوه المارة عن قسمات وملامح أهله وأحبته وليلى هنا كانت تبحث عن نخلتها السامقة الشامخة التي تركتها وراءها حيث مرتع الطفولة والصبا الذي خلفتهما بعد هجرتها القسرية، يلعبان ويختبئان خلف جذعها الحاني على جوانب نهر دجلة الخير... لنشاهد ليلى ولقاءها مع النخلة في قصة: "أخيراً وجدتُها"
"وقفتُ مشدوهةً، وشعورٌ غريب ينتابني، مزيجٌ من فرحٍ وألم.. فجأةً أراها أمامي، معشوقتي التي شدَّني الحنين إليها، مُذ طوقتنا المسافات، وابتلعنا الزمن. في زيارتي الأخيرة إلى دولةٍ أوربيّة، وفي ساحةٍ مكشوفةٍ واسعة، أمام مركزٍ تجاريّ ضخم، رأيتها.
لم تكن وحدها، مجموعةٌ من ستّ أو سبعٍ أخريات، يحطن بها. هزّني الفرح والاشتياق، اقتربت منها، شممتُ عطرها، وقبّلتها، ونظراتُ تعجّبٍ واندهاش أحسستها ساخرةً تنغرز في ظهري. غصَّة حارقة ملأت صدري، كيف سجنوك أيتها الآلهة في قفصٍ خشبيّ؟ أين قامتك المديدة؟ أين شموخكِ؟
كانت وأخواتها، تيجاناً خضراء تزهو بهاءً، رغم اغتيال قاماتها المهيبة.. حملني حنيني، جارفاً، موجعاً إلى أرض الأنبياء، أرض السواد.. أرض النخيل وعنفوان الحياة،....."
ومما أعجبني:
ـ أسلوبها السردي السلس ولغتها الواضحة التي ابتعدت فيها عن أي لفظ مقعر أو زخرفة متصنعة، الهدف منها الاستعراض لقاموس ألفاظها.. خالية من أي صور بلاغية تخدم النص.
ـ اختارت الكاتبة شخوصها من الحياة، وحرصت على عرضها واضحة في الأبعاد التالية:
أولا: البعد الجسمي: ويتمثل في صفات الجسم من طول وقصر وبدانة ونحافة وذكر أو أنثى وعيوبها، وسنها.
ثانيا: البعد النفسي: وذلك في الاستعداد والسلوك من رغبات وعزيمة وفكر، ومزاج الشخصية من انفعال وهدوء وانطواء أو سعادة.
ثالثا: البعد الاجتماعي: وتمثل في انتماء الشخصية إلى طبقة اجتماعية وفي نوع العمل الذي يقوم به وثقافته ونشاطه وكل ظروفه المؤثرة في حياته.
خاتمة:
التمكن من مقومات وتكنيك القصة القصيرة لا يكفي وحده حتى يخرج الكاتب بنص ناجح جاذب مالم ترافقه الموهبة الإبداعية والقدرة على التخييل لابتكار الصور البلاغية وإتقان اللغة.
والأديبة ليلى عبد الواحد المراني تمتلك الأدوات، والموهبة، والثقافة، والوعي، وإتقان اللغة العربية بالرغم من أنها درست الأدب الإنجليزي وعملت كمدرسّة لغة إنجليزي. فهي تربت في بيت أدبي وتشربت جمال اللغة والأدب العربي من دفق أخيها الشاعر العراقي الراحل عبد الرزاق عبد الواحد الذي طالما تغنى بكتاباته وقصائده بحب الوطن...
كلمة أخيرة..
قراءتي المتواضعة لم تعط للمجموعة القصصية حقها، وإنما أردت فقط هنا نقل بعض ما لمسته على عجالة من قراءتي لها ولأعبّر عن سعادتي بها لما نلته منها من متعة وأنا أتنقل معها بين أروقة الذاكرة.
أرجو للأديبة الأستاذة ليلى عبد الواحد المراني كل النجاح والتوفيق، والازدهار ومزيدا من الإنجازات الإبداعية.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*فن كتابة القصة القصيرة و"نصوص تطبيقية"/ مختار أمين

مع تحياتي وتقديري..
سعاد العتابي
 0  0  417