×

اضغط هنا إن لم يقم المتصفح بتحويلك آليًا.
مديرة التخرير سعاد العتابي

أثر العمل الأدبي وبغيته على المتلقي قراءة لـ مختار أمين في رواية "سجين الوهم" للكاتب طنطاوي عبد الحميد طنطاوي


image


الموضوع:
هو تشريح شخصية المواطن المصري الفطرية الأصيلة، ودراسة سيكولوجية دقيقة التفاصيل للمكونات الأساسية لتركيبته الشخصية بالتسجيل الدقيق، لمراحل تراكم طبقات الفيروس الميكروبي على الجينات الأصلية لتتصارع معها وتتحد نسبيا لتعطي صورة ميكروفيلم ((negative لصورة أشعة، لتبديل أصل الجينات لتظهر بصورة مغايرة على شكل جديد، وقد خفت بعض مقومات جين أو آخر ليظهر جين جديد مضاد للصفات عاكس للسلوك والفكر، ويتطاول وينمو كجين جديد قاهر يضعف القوام العام، ويخلخل بناء شخصية المصري، ولكن مما لا شك فيه أن جينات المصري الأصيل غالبة عصيّة، فمازال محتفظا بأغلبها كتركيبة فريدة حباها الله بمقومات وقدرات هائلة..
إن العودة للخليّة الأولى لتركيبة الشخصية المصرية مستوجبة هنا كسؤال ربما تطرحه رواية "سجين الوهم" في ذهن بعض القرّاء المحللين، وهي تعرض بشكل جليّ نموذجا لبطل الرواية "المصري" عندما ألبسته إرث التحولات الجينية من خلال شخصية تبدو لشاب مسالم نقيّ يطوق للحرية حالما بسلام جماعي آمن شامل، وكأن الشخصية استيقظت من ثبات عميق من آلاف السنين بفطرتها الكاملة منذ أول تاريخ المصري على الأرض، وكأهل الكهف نهضت تستقرئ تغيرات وتبدلات في أحوال الناس من حولها، ورصد مجريات الزمان على نتاج الأشرار منهم، ومن في أيديهم مقدرات البشر المسالم الفطري داخليا وخارجيا، وهي في الأصل تصوّر وتسجل بكاميرا عميقة دقيقة لصراع الفيروسات الميكروبية الجينية مع الجينات الأصيلة، وتعدد طبقات جلد الميكروبات على الجلد النقي، وترسم ملامح هيكلية لشخصية المصري المعاصر، بل تتوغل وتتعمق لتطرح في الخارج نتيجة وأثر ملامحه الداخلية في الفكر والسلوك.
لم تنقل الرواية أحداثا عادية من قرية من قرى الجنوب المصري، وتجسّد نماذج من الشخصيات المصرية، ولا تتحدث بشكل قطعي عن أثر ثورة كبرى لها دويّها في تاريخ مصر الحديثة، وهي ثورة 25 يناير، وبالقطع لم تتحدث عن مدى ارتباط هذا الشعب بتمسّكه بعقائده الدينية وإيمانه بالله، ولم تناقش أثر الحداثة بتعاملها مع مفهوم الحريّات التي تصدره أروقة العولمة لفصيل معين من البشر محصور في رقعة من الكرة الأرضية هي ميزان العالم وأصله البشري.
بل استطاع الكاتب بحرفية إسقاط كل هذا الفكر وما تبتغيه روايته البحث فيه ورصده من خلال سرد حيّ لواقع حديث لشخصية البطل "المصري" هو إسقاط لرصد التحولات الطارئة على شخصية المواطن المصري المعاصر، كدات ((data أولية أصيلة من خلال تحليل سيكولوجي دقيق لتكوينه النفسي وتفاعله مع أحداث تفاصيل حياته حتى غاب وتاه.
قصة الرواية هي عبارة عن جسد ظاهر يكسو فكر الكاتب الرمزي الذي يريد أن يطلقه ويصرخ به لكل قرّاء العالم أجمع، وأظن من خلال قراءتي الشخصية للرواية أنه نجح بدرجة امتياز .

image


1ـ وحدة الموضوع:
من خلال تماسك عضوية الرواية كأشبه بالحقيقة لنقل حياة واقعية لجسد حيّ..
يظن البعض أن الكلاسيكية التي تغطي رداء السرد والأسلوب التقليدي في الأعمال الأدبية وعلى الأخص في الأعمال السردية غير قادرة في زمننا المعاصر على التعبير الجيد عن الحياة الواقعية الآنية، والحديث الدقيق عن دواخل الإنسان وتفاعلاته الحسّية والفكرية، وغير قادرة على استقراء ما يستجد وما يستوجب،
مَنْ منا لا يتذكر "أيونا" ذلك الحوذي في قصة "شقاء" للأديب العملاق تشيكوف التي نشرت سنة 1886م، ومازالت أحداثها عالقة في أذهاننا، وكثير من قصص تشيكوف تعيش معنا حتى الآن، ومَنْ منا لا يتذكر صراع الأخوة كارمازون في رواية "الأخوة كارامازون" لديستوفسكي والتركيب المبدع للشخصيات والحوارات العميقة الفلسفية، وكتابات أرنست همنجواي، ورواية "ذهب مع الريح" لمارجريت ميتشل، وغيرهم كثر، أعمال أدبية كتبت في القرن التاسع عشر ومازالت قابعة في مخيلتنا بعبقها الشجي، وأي من المحللين الأكاديميين لم يدرس أبحاثا تتناول أعمال هؤلاء في العصر الحديث، ما أود أن أقوله أن المدارس الأدبية العديدة التي أنشأها الفكر الخالص البكر لتحليل النصوص الأدبية حبلى بالحداثة وما بعد الحداثة، وما أنتجته من مدارس جديدة هي تلوين في الصور والرؤى للمدارس الأولية الأم، وقدرة على التعمق في الأصل واستنساخ سيمائي جديد، كما الجدة التي أنجبت للأمة القادمة جيلا بعد جيل.
في هذا الصدد أشير إلى المدرسة الأدبية المحببة إلى نفسي وتفرد عباءتها ليستظل تحتها عدد هائل من عوام القرّاء جذبا وانسجاما، ألا وهي المدرسة الكلاسيكية التقليدية وخاصة في الرواية، إن الشعب العربي فطم وجبل على الحدوتة ووحدة الحكاية، أما الابتكار والأسلوب التكنيكي الحداثي مازال في منيّ مُضاجعها -المؤلف- ومازالت بطن الكلاسيكية قادرة على الحمل وتغذية الأجنة الحديثة وفق غذائها المعاصر، وإن ولدوا شكلا بعاد الشبه...
فأسلوب طنطاوي عبد الحميد الروائي سيظل مطلوبا مفضلا للقارئ العربي بعبق الكلاسيكية التي تعنى بوحدة الموضوع ووحدة القص الروائي، وهو يتماشى مع طبيعة القارئ العربي الذي دوما يبحث في النصوص الأدبية عن نفسه، وعما يحاكيه بشكل مباشر، وأن ما يأخذون نصوصهم الأدبية السردية إلى هاوية التغريب والتشتيت، والترميز المعتم هم قاصري الرؤية ويطلقون دعاءات لا يفهمون أصلها البحثي النقدي، وهم يرفعون في أعمالهم السردية شعارات كاذبة تقتل نصوصهم في أفكارها واجهاض حمل بطنها لجنس أدبي محدد المعالم، فكل من ينادي بتوحد الأجناس الأدبية، وفتح ساقي الرواية على أكبر زاوية مستقيمة ليستقبل فرجها كل شارد ووارد من الفكر وأضغاث هلاوس قلم أدب، ستتشوّه الأجنة ويضعف بلا شك المنتج ويستعصي على الفهم والتحليل، وإن من يكتبون نصوصهم السردية بهذا الشكل الأخير رافعين لواء سلطة النص، هم يهلوسون أدبيا، وليسوا على دراية وادراك حقيقي لمفهوم الأكاديمية النقدية لما تعنيه بسلطة النص، ولنا حديث مستقل في مقال منفرد للشرح العلمي لهذا المصطلح.
لا يفوتني في هذا الصدد أن أشير بأسلوب رواية "سجين الوهم" في تقليديته والاعتناء الكامل بوحدة الموضوع والوحدة العضوية في القصة التي ساهمت في جذب القارئ من أول صفحة حتى آخر صفحة، وألقت في قلبه همّ البطل والتفاعل الكامل مع أحداث الرواية..
البطل: محدد السمات والمعالم، أبرز الكاتب نوازعه الداخلية والفكرية ومدى ترجمته السيكولوجية كسلوك منطقي سليم، وتفاعل حقيقي مع الأحداث.
إن بناء شخصية "المصري" بطل الرواية بناء محترف لمدرك عليم خبير في قاموس مخيلته عدد هائل من تركيبة الشخصيات الواقعية في الحياة المعاصرة، وهو مدرك مسبقا لأبعاد الشخصية لبنائها الفكري والسلوكي والملامحي، فنجد تكوينه لشخصية "المصري" رمز اسقاطي على المصري القديم أبو تركيبة فريدة الذي غاب وتاه في آخر روايته، لم يكن صوت نداء "زيزي" على المصري في آخر رمق وروح الرواية غير صوت المؤلف المؤمن بفكره وما يود طرحه للمتلقي..
أي علينا جميعا البحث في أنفسنا.. أين المصري الفريد فينا؟ الأقوى من الأحداث والخطوب لبناء مصر جديدة تواكب الحداثة وتعلن عن حضارتها الجديدة..
على أن القارئ أن يرصد في شخصية "المصري" متى يصمت؟ متى يتحمل؟ متى لا يستطيع التعبير؟ ومتى يفعل ويثور ويحارب انتكاسته ليظل باقيا أبد الدهر.
كان طنطاوي قديرا بقدر كبير برسم شخصيات روايته، وعلينا نعيد إلى أذهاننا في تركيبة شخصياته ما ترمز إليه، من خلال شخصية "البرنس" التي تعكس مدى تأثرنا في القرى المصرية والحواري الشعبية في المدينة شخصيات من الأساطير، نحن الذين أعطينا الهالة والمهابة لها وأسقطنا عليها حكايات الخرافات والخوارق، وهي تجسيد متين أصيل تأثر به تكويننا الجيني، حتى وإن جاءت الحداثة والمدنية وأسقطنا هاجسنا للخرافات على رجل دين، أصبح الجين يدل على نفسه في ثوب جديد في منحى ديني، أصبحنا تواقين لتبجيل وتمجيد شخصية خرافية ومرضاة النفس من خوف الرب أسقطنا هاجس الخرافة على شخصية من الشيوخ حتى ولو كانت بلا دين وإيمان وتأخذ الدين ستارا، كما صور لنا الكاتب في شخصية الشيخ "لا مؤاخذة" والمقارنة بالشخصية المتوازنة للشيخ الغريب عن القرية، وأيضا في تصويره الدقيق للملامح السيكولوجية لشخصية "أم عباس"، وشخصية "حامد" التي تمثل النمط المنتفع الحالي كنموذج عصري في فكره وسلوكه، ولا أبرع من تركيبة شخصية "الزعيم" المتقاعد كرسي الشلل الظاهر، الجالس في رقعة جغرافية بعيدة عن أتون أحداث الداخل المصري الذي يغلي، وفي يديه مقاليد أمور كثيرة للهيمنة على البلد والنظام، وكل اعجابي بما رصده الكاتب في معياره الفكري لوجود هذه الشخصية وهي ترمز في عمق رمزها على هشاشة النظام وما يخفيه ويظهره من أنياب حادة، وأسرار نجسة دالة على عدم النزاهة وحب التملك والانتفاع، ولا يفوتني أن أشير على براعته التكنيكية في تأليف هذه الشخصية بالذات، بكل ما أظهره من مشاهد لها وأقوال وأحداث لم تعطنا اليقين بتصديق كل ما جاء على لسان الشخصية، ولم يلعب الكاتب على مؤكدات دلالية أنه وطني مجاهد وأفنى صحته وعمره في سبيل خدمة الوطن غير ما جاء بشكل تقريري على لسانه، وأتمنى أن يكون هذا مقصود كما استشعرته لسعة الدلالة لسبك هذه الشخصية داخل العمل، والدلالة من ذلك تكمن في مفهوم روح الرواية التي تبحث في شخصياتها عن المصري الأصيل، وفي المقابل تسليط الكاميرا على شخصية الزعيم لنرى من خلالها ما أضحت عليه شخصية المصري المعاصر الذي نما على تأليه القوي المتجبر حتى ولو كان في حقيقته ضعيف داخليا أو خارجيا أو بالون منفوخ بالهواء...
من المآخذ التي نأخذها على الرواية:
1ـ إن الرواية أي رواية، تتميز كجنس أدبي أنها مصدرة لأكبر كم ثقافي ومعلوماتي، وهي تشير على ذخيرة الكاتب الثقافية، وكم تحوي مكتبته من كتب ومعلومات، والروائي المحترف الذي يزخرف ويزين روايته في أرقى حلّة أدبية مطعّمة ومطرّزة بأقوال للشعراء والأدباء وحكم ورؤى فلاسفة، والمقارنة والمشابهة بأحداث تاريخية، والدراية العالية بجغرافية المكان وظهوره في الوصف، لأن عندما ندلل على بعد المكان في الرواية لا يكفي التكنيك أن نقول "ميدان التحرير" بلا وصف جغرافي، بلا وصف للجموع وانعكاس حالاتهم، ولا يكفي أن نقول قرية في جنوب الصعيد المصري.. ويحضرني المثل برواية لأحلام مستغانمي "ذاكرة الجسد" بها ما يقرب من 47 اسم لشاعر وكاتب وفيلسوف ورسام ونحات من خلال أشعارهم وأقوالهم وحكمهم ولوحاتهم وتماثيلهم، وأيضا أماكن وميادين مشهورة للرمز والدلالة، ولا تستطيع أن تحذف اسما واحدا أو معلومة لمقدرة التوظيف المحترف داخل المتن والنسيج.. وهذا مطلوب لتغذية القارئ ومدى الإفادة .
2ـ المونولوج النفسي: لبطل الرواية حسب تركيبته كشخص أغلب وقته صامتا مع الآخرين وغالبا لا يستطيع الرد والتعبير عن نفسه، وهذا النوع من الشخصيات لديه ثراء داخلي كبير، وهو دائم فلسفة الأمور وما يجري حوله حسب رؤيته، وأيضا دائم التساؤل، وهذا العامل كان ضعيفا جدا في أوائل الرواية حتى نزوله إلى القاهرة والتحاقه بالجيش، وكان هناك مواقف كثيرة كان يستطيع بها الكاتب عمل مونولوج نفسي داخلي في حوار مكشوف مكتوب ترسيخا للبعد الثقافي ومزيدا لواقعية الرواية.
3ـ لم تعطينا الرواية مبررا يريح ذهن القارئ عن ردة فعل أمه تجاه حادثة واقعة ضبط البطل مع أم عباس وهو يواقعها جنسيا، بل أعطانا رد فعل منها ظل غريبا على تركيبة شخصية الأم.
4ـ رغم أن الرواية تميل بشكل جادي للطبيعية إلا إصرار الكاتب أن تتكلم شخصياتها كلها بمختلف فكرها وثقافتها باللغة الفصحى، ولا ينبغي مطلقا في الأعمال السردية أن تتكلم كل شخصياتها بمستوى فكري وثقافي واحد، ومن عيوب الحوار الفصيح في الأعمال السردية يشرخ تركيب بعض الشخصيات الأمية أو محدودة التعليم، يخرجها عن واقعيتها، وأيضا يكسر عنصر مهم جدا في البناء وهو الحوار وفائدته في العمل الروائي والقصصي بشكل عام، هو يساعد على تفسير الشخصيات بشكل حقيقي والدلالة عليها، وهو مطوّر لبعض الأحداث واختزال بعضها.

د/ مختار أمين




[/JUSTIFY][/B][/FONT][/SIZE][/COLOR]
 0  0  577