د. بوزيان موساوي: "بيان الحداثة في الشعر العربي المعاصر" من خلال ديوان "لون الماء"، آخر إصدارات الأديب/ الشاعر والناقد عبد الكريم بدر خان
"بيان الحداثة في الشعر العربي المعاصر"
د. بوزيان موساوي/ وجدة_ المغرب
مقدمة:
المثقف لا يستحق لقبه إلا إذا ساهم في بلورة مشروع مجتمعي برؤية بعيدة الأمد.. والفنان المبدع يموت لما يكرر نفسه.. والمواطن العادي يتوه لما لايجد من يأخذ بيده.. لذا قام مفكرون وفلاسفة ومبدعون عبر التاريخ بوضع أنساق رؤى طلائعية كخرائط طريق لتجاوز الموجود واستشراف الأفضل والأجمل..
مطلع هذه المقدمة هو من إملاءات خصوصية هذا الديوان الذي نحن بصدده: "لون الماء" للمبدع السوري عبد الكريم بدر خان.
وعليه، فـ "مسح طوبوغرافي" لمعمار الديوان انطلاقا من: "أقول كلاما"، مرورا بـ "عن الغريب"، وبـ "عن الغجرية"، وصولا إلى "غرباء في حياة الغريب" أكد لنا فرضية قراءة مفادها أن الشاعر يحلق بنا بين ثلاثة أنواع من الخطاب:
ـ النص، باعتباره ظاهرة لغويّة، يزيد فيها المعنى على اللفظ، تجمع بين الجملة والكلام والقول والتبليغ والخطاب والنظم... منها الجلي، ومنها المسكوت عنه..
ـ التناص، كمرجعية فكرية للنصوص، منبعها مخزون قراءات الشاعر.. منها ما يلهمه، ومنها ما يغيضه... ووظيفية استعماله..
ـ الميتا ـ نص، أو سؤال الكتابة... بمثابة ميثاق بين القارئ و الكاتب حول "نمطية الكتابة بين الثابت فيها والمتحول". ومضامينها.
وكأننا في حضرة "بيان تيار شعري عربي حداثي جديد" من توقيع الشاعر والباحث والناقد الأستاذ عبد الكريم بدرخان.
1ـ "البيان الحداثي " لعبد الكريم بدر خان:
لا نقصد بالبيان هنا معناه اللغوي والاصطلاحي... بل كما استعمله فلاسفة وفنانون وأدباء... بمثابة إعلان بميلاد نظرية، أو خارطة طريق لمذهب إيديولوجي فلسفي كـ "بيان الحزب الشيوعي" سنة 1848 من تأليف كارل ماركس وفريديريك انجلز، و بيان "الفن الحديث" لماريتيني Maritini، و"بيان السريالية" لأندري بروطون A. Breton... و غيرهم.
ورغم أن كتاب عبد الكريم بدر خان ليس أطروحة تقارب إشكالات ومواضيع بالتحليل وإبداء الرأي والحسم في المسائل العالقة يشكل مباشر، ونثرا، لأنه ديوان شعر بالأساس، إلا أننا ـ ومن وراء جمالية قل نظيرها عبر النصوص ـ ، نستشف بالملموس تارة، وعبر المسكوت تارة أخرى "عقيدة"/ نظرية الكتابة الشعرية عند عبد الكريم بدر خان.. و نضمنها تضاعيف هذا المقال تدريجيا، ولو بشكل موجز لضيق المجال .
1 ـ 1 ـ "الكتابة في درجة الصفر":
نقرأ:
"أكتب في درجة الصفر
(....)
درجة الصفر زرقاء
والحبر.. زرقة دم"
هي مراوغة جميلة للقارئ المتخصص، لأن المقولة "درجة الصفر" Degé zéroتحيل على نظرية "التبئير" focalisation عند الباحث و الناقد البنيوي جيرار جونيه Gerard Genette في كتابه المرجعي الأوجه 3 Figures III، المتعلق بنظرية التلفظ و يقصد به الذات الساردة الغير منحازة والمغيبة "الهو" التي لا علاقة مباشرة لها مع الحدث.. وتتبخر نظرية التلفظ هذه بمفارقات أخرى لما نقرأ:
"أقول كلاما غريبا كوجهي
وأبحث في المفردات
عن وجود فتات
أخبئه بين جفني حلما"
الضمير المتكلم ليس "هو" كما " في "درجة الصفر" عند البنيويين، بل أنا، ليصبح "التبئير داخليا" Focalisation interne، يصف فعل الكتابة.. والمكتوب "كلام" (أقول كلاما).. والقول هنا خارج عن المألوف في الشعر، لأن الشعر "يوحي" ولا "يقول" خلاف النثر.. لكن سرعان ما تتبخر هذه الملاحظة لما نقرأ:
"أقول كلاما على شكل شعر
و جوهره وجع في الحياة"
أي شعر يعني؟
1 ـ 2 ـ شعر خارج القيود:
لعبد الكريم بدر خان غيرة كبيره على اللغة العربية و قواعدها، و كثيرا ما قرأنا انتقاداته اللاذعة لشعراء صنعوا نشازا في ما يشبه القصيدة العمودية... لكنه ورغم حنينه حتى في هذا الديوان للقافية والميزان:
"كنا نعربد أحلاما بلا أفق
ثم ارتضينا بقير موحش الغرق"
(...)
"والآن من دمنا ... الطوفان ينسكب
أين السفينة يا رباه...؟ والكتب؟"
فهو قد اختار بمحض إرادته أن يكون شعره حرا، ويلوي بظهره لما ذكره الخليل بن أحمد الفراهيدي عن بحور الشعر الستة عشر..
نقرأ:
" ولأكتب قصيدة واحدة
قصيدة تشبهني
يلعنها القراء والنقاد
ويدوسها الجند في استعراض عسكري"
وبأسلوبه الساخر المتفرد يذكرنا عبد الكريم بدرخان بمعركة "هيرناني" (HERNANI ) لفيكتور هوغو Victor Hugo لما شنها حربا ضد الكلاسيكيين الذين حاربوا الحداثة في عهده، واعتبروا كلما كتب خارج نهجهم ركاكة و بدعة وانحطاط.. نقرأ في الديوان:
"تحتاج أن تنسى حبيبتك البعيدة
فهي تزداد اشتعالا
والرسائل خلف مشيتها تبعثر مثل أوراق
الخريف
كأنها جاءت لتختبر البراعة في قصيدتك
الحديثة
أو لتقتل ما تبقى فيك من أمل
كأن جمالها
يكفي لتعتزل الكتابة"
اختار أن يكون شاعرا طلائعيا لا يرى ضالته في محاكاة سلفه، ولا في تحويل كتاباته لمجرد بكائيات عن سعير الحاضر... اختار أن يكتب عن و للمستقبل:
نقرأ:
"أقول كلاما لما سوف يأتي
فلا حاضري يستحق الكلام
ولا الذكريات
سوف تبعث عمرا موات"
2 ـ سؤال الكتابة:
عبد الكريم بدر خان ليس من مريدي ولا من دعاة مذهب "الفن من أجل الفن"... صحيح أن الجمالية عبر نصوصه الشعرية هدف أسمى، لكن فعل الكتابة عنده سؤال وجودي بامتياز... وقبل مقاربة هذا السؤال في تضاعيف هذا المقال، لابد من الإشارة على سبيل التمهيد إلى معطى جوهري: كتابات عبد الكريم بدر خان "تفاعلية" (intéractive).
2 ـ 1 ـ الكتابة التفاعلية:
بمعنى أنها تثير القارئ تارة، وتستفزه مرارا وتكرارا... تدعوه لـ "السفر" (Invitation au voyage) عبر "فلسفة نفي النفي": نفي القصيدة.. حتى لا يبقى مجرد مستهلك محايد وسلبي.. ويطرح الأسئلة عن سبب نفي القصيدة في القصيدة:
نقرأ:
"تعرفين أن الكلمة التي لم أقلها
أعمق من كل ما قلت،
وأن القصيدة التي لم أكتبها
أجمل مما كتبت،
وأن المرأة التي أخاف من حبها
توجعني أكثر من اللواتي أحببت."
وكأن الشاعر في سياق كلامه هذا، يجسد بالملموس إحدى النظريات الحديثة الأكثر تداولا في "علم سياقات الخطاب" التي لخص خصائصه العالم اللساني الانجليزي أوسطين (Austin ) في كتابه الشهير "لما يكون الكلام فعلا" (Quand dire, c’est faire)... واختزلها في أبعاد ثلاث:
ـ الملفوظ كبعد لغوي لفظي (locutoire): يدعو المخاطب (القارئ) إلى فهم المعنى اللغوي اللفظي الأولي المتداول للمفردات والجمل، وصيغ الكلام (إخبار؟ استفهام؟ تعجب؟ إقرار؟ نفي...)... وفي سياق النص أعلاه، نجد النفي ("لم أقلها".. "لم أكتبها) والضمير المفعول به تقديره هي القصيدة، والإقرار ("أن المرأة التي أخاف... توجعني أكثر..").
كلا الصيغتين (النفي / الاقرار) تجععلان القارئ يتساءل: أين القصيدة؟ ما المقصود بهذا النفي / الاقرار؟
أسئلة كهذه تدعوه إلى اكتشاف البعد الثاني للملفوظ الذي تحدث عنه أوسطين:
ـ الملفوظ كبعد مجازي (Elocutoire): و يعني الانزياحات اللغوية والأسلوبية والبلاغية.. أو بعبارة أدق: المسكوت عنه داخل النص: النوايا الخفية للشاعر.. الشيء الذي يجعلنا نستشف رسالة الشاعر لمخاطبته في النص، وللقارئ المتلقي: رسالة ديداكتيكية/ تعليمية مفادها أن الشعر ليس كلاما مباشرا يوميا عاديا... هو كل تلك الحمولة الوجدانية والثقافية والفكرية... التي يوحي بها ملفوظ النص، ولايقولها.
نقرأ في نفس السياق:
"ـ أحمد الله... لست بشاعر!
ـ نعمة وهدي؟
ـ مثل موت سدى!
ـ مثل قبلة عاشقة للجنون"...
كيف لشاعر أن يقول على نفسه أنه ليس بشاعر؟
هو البعد الثالث لأفعال الكلام عند أوسطين:
ـ الملفوظ كبعد محفز لردة فعل (Acte perlocutoire):
ويتجلى هذا البعد في ردة فعل المخاطب/ القارئ لما لا يفهم، أو لما يعجب، أو لما لا يجد متعته... لما تتحقق أو لا تتحقق آفاق انتظاراته من الخطاب الموجه إليه...
2 ـ 2 ـ لماذا نكتب؟
أعجبني جواب إحدى الكاتبات، لتشابهه ضمنيا مع فعل الكتابة عند عبد الكريم بدرخان لما قالت:
" الكتابة، سؤالنا الحارق في خضم هذه التبدلات والمتغيرات العاصفة بنا من كل جانب، هو كيف سيكون غد الإنسان في عالم يتحول إلى متحف مهجور... كيف سيكون تفكير هذا الكائن الهش وماذا عن نظرته للأشياء وجملة همومه الاجتماعية والثقافية التي تتضمن في ما تتضمن: الكتابة عموما والنص الشعري تحديدا."
أما عبد الكريم بدر خان فـ "يكتب لنفسه عن نفسه شعرا".. كتب في حوار (مفترض؟) مع صديقه (صديقي) الكاتب السوري العملاق مصطفى تاج الدين الموسى:
"قلت (يقصد صديقه مصطفى) أرض القصيدة محروثة من ألف نبي،
وأما الرواية بكر...
ستنجب سبع ورود... كسبع نساء
قلت (الشاعر/ الأنا): في الشعر أكتب نفسي لنفسي،
و ما همني أن تموت البلاغة
أو يسقط الشعراء؟"...
الأمر لا يتعلق هنا بتفاخر بين الأجناس الأدبية (رواية/ شعر)، بقدر ما هو الدفاع عن اختيار: ماذا تكتب؟ ـ أكتب شعرا.. و بما أن الشعر أكثر توظيفا للانزياحات من النثر، ولأنه (الشعر الحر) ليس مجرد محاكاة لأساليب لغوية وبلاغية سرمدية.. ولأنه حداثي في أشكاله ومضامينه.. ولأنه متمرد عن "حرس اللغة".. فلا يهم كاتبه أو قائله نيل رضا أصحاب العمائم يلكون شاعرا وما يبدعه شعرا.
وحتى لما يصرح "أكتب نفسي لنفسي"، فالأنا هنا لا تعود بالضروري لذات الشاعر الشخص المفرد.. هي "أنا" جماعية حاملة لهم وطن، ووجود، وكنه، وماهية، ومصير...
وفي هذا المقام يقول "العقاد" بأن:
"التأليف بين القيود والحرية" يمكن أن يتخذ ميزانا صحيحا لوزن الأمم والأفراد أو الحضارات والآراء والفنون فكلما اقتربت الأمة أو الفرد أو الحضارة أو الرأي أو الفن إلى حسن التأليف بين أفراح الحياة وأوزانها بين خيالها وعروضها بين معناها وصورتها كانت أقرب إلى السمو والنبالة والصدق لأنها أقرب إلى القصد الإلهي ووجهة الكون البادية في جميع أجزائه" (مطالعات في الكتب والحياة ص7)...
ـ لماذا نكتب إذن؟ (سؤال نعيده للمرة الألف)
2 ـ 3 ـ الكتابة سؤال وجودي:
نقرأ:
"قلت: مادية الجدلية تحكمنا،
والمثالية انتحرت
والجنون يطيرننا شررا في الهواء
قلت:
نبني الوجود من العدم المتناثر في روحنا
ومن العتم نسحب سيف الضياء"...
هي فلسفة عبد الكريم بدر خان الشاعر والمثقف و المناضل الملتزم مع قضايا الإنسان والمجتمع... هو التفاؤل بعينه لما يقول:
"نبني الوجود من العدم المتناثر في روحنا"... وهو الشاعر الذي ما رضى على نفسه تقديم استقالته كما فعل الكثير من الشعراء الجبناء: " ومن العتم نسحب سيف الضياء"..
وما اختيار الماء كعنوان لهذا الديوان "لون الماء" إلا استشراف لدلالات كتابات عبد الكريم بدر خان كسؤال وجودي... أليس الماء سر، وضامن الوجود (وجعلنا من الماء كل شيء حي: كلام الله)... فالدراسات السيميائية للشعر العربي قد أثارت دلالات هذه "العلامة" (Signe) العنصر الحيوي (الماء) في الشعر الجاهلي عند عبيد بن الأبرص، وفي الشعر الإسلامي عند الحطيئة، والشعر الأموي عند جميل بثينة، والشعر العباسي عند بشار بن برد، والشعر الأندلسي عند المعتمد بن عباد، والشعر الصوفي عند محيي الدين بن عربي، وفي الشعر الحديث عند محمود درويش.
كتب الباحث في السيميائيات عزيز العرباوي في هذا السياق:
"لقد استعمل الماء في الكثير من الأشعار العربية على مر العصور استعمالا مخالف للمعهود عليه والمألوف في الثقافة الإنسانية، فقد تم استحضاره في التشبيه، وفي المقارنة، وفي المدح، وارثاء، والهجاء، والغزل، والحزن، والمعاناة، والغرق، والضياع، والتشرذم، والتقدم، والتخلف، والمأساة والسخرية...".
لا لون للماء و لا شكل له، رغم ما جاء في عنوان الديوان (لون الماء)... وقد يكون له لون في نظر الشاعر عبد الكريم بدر خان، لأنه يتجلى في تمظهرات عدة... فهو:
ـ ما يغسل عرق الكادحين المغفلين:
نقرأ:
" بينما كنت أسكب الماء فوق العرق
وأنسج من الكلمات حمالة لنهود النساء
كنتك...
تدمرون البلاد"
ـ هو المطر في وطن تمطر سماؤه رصاصا:
نقرأ:
"أسقي الحمام جراحاتي و أغسله
إلى تراب... دموع الله تغسله"
(...)
" ولحمص..
أرفع كأسي العطشى
وأحلم بالمطر"
ـ هو الدمع أسفا على مصير بلد:
نقرأ:
" أراك عارية... كالدمع يا بلدي
أخشى على النهد من حبي ومن حسدي"
ـ هو البحر المرأة الحبيبة/ الأرض:
نقرأ:
" ما عدت أذكر
كان بحرا... ربما
أو كنت أنت البحر
أحمله و يحملني إلى غرق جميل"
ـ هو الخمر دون كحول كشاعر بلا دموع:
نقرأ:
"فاض نهر المدينة
ولم أبك
رجل بلا دموع
مثل البيرة بلا كحول والزهور الاصطناعية
وكغيري من منتجات الحداثة
أبتسم لكم من واجهات المحلات"...
ـ هو الشاعر يبدع الوجود من عدم:
نقرأ:
"أنت حلم
تولد من عدم
وتجلى بآلاته في مرايا الوجود
(...)
وإنني الماء... لو رجلاك تغسلني
لصرت كأني من الفيروز في اللهب"
قراءة ممتعة للديوان أتمناها لكم... ولنا لقاءات أخرى مع المبدع الشاعر الرائع عبد الكريم بدر خان
بوزيان موساوي... كاتب من المغرب
د. بوزيان موساوي/ وجدة_ المغرب
مقدمة:
المثقف لا يستحق لقبه إلا إذا ساهم في بلورة مشروع مجتمعي برؤية بعيدة الأمد.. والفنان المبدع يموت لما يكرر نفسه.. والمواطن العادي يتوه لما لايجد من يأخذ بيده.. لذا قام مفكرون وفلاسفة ومبدعون عبر التاريخ بوضع أنساق رؤى طلائعية كخرائط طريق لتجاوز الموجود واستشراف الأفضل والأجمل..
مطلع هذه المقدمة هو من إملاءات خصوصية هذا الديوان الذي نحن بصدده: "لون الماء" للمبدع السوري عبد الكريم بدر خان.
وعليه، فـ "مسح طوبوغرافي" لمعمار الديوان انطلاقا من: "أقول كلاما"، مرورا بـ "عن الغريب"، وبـ "عن الغجرية"، وصولا إلى "غرباء في حياة الغريب" أكد لنا فرضية قراءة مفادها أن الشاعر يحلق بنا بين ثلاثة أنواع من الخطاب:
ـ النص، باعتباره ظاهرة لغويّة، يزيد فيها المعنى على اللفظ، تجمع بين الجملة والكلام والقول والتبليغ والخطاب والنظم... منها الجلي، ومنها المسكوت عنه..
ـ التناص، كمرجعية فكرية للنصوص، منبعها مخزون قراءات الشاعر.. منها ما يلهمه، ومنها ما يغيضه... ووظيفية استعماله..
ـ الميتا ـ نص، أو سؤال الكتابة... بمثابة ميثاق بين القارئ و الكاتب حول "نمطية الكتابة بين الثابت فيها والمتحول". ومضامينها.
وكأننا في حضرة "بيان تيار شعري عربي حداثي جديد" من توقيع الشاعر والباحث والناقد الأستاذ عبد الكريم بدرخان.
1ـ "البيان الحداثي " لعبد الكريم بدر خان:
لا نقصد بالبيان هنا معناه اللغوي والاصطلاحي... بل كما استعمله فلاسفة وفنانون وأدباء... بمثابة إعلان بميلاد نظرية، أو خارطة طريق لمذهب إيديولوجي فلسفي كـ "بيان الحزب الشيوعي" سنة 1848 من تأليف كارل ماركس وفريديريك انجلز، و بيان "الفن الحديث" لماريتيني Maritini، و"بيان السريالية" لأندري بروطون A. Breton... و غيرهم.
ورغم أن كتاب عبد الكريم بدر خان ليس أطروحة تقارب إشكالات ومواضيع بالتحليل وإبداء الرأي والحسم في المسائل العالقة يشكل مباشر، ونثرا، لأنه ديوان شعر بالأساس، إلا أننا ـ ومن وراء جمالية قل نظيرها عبر النصوص ـ ، نستشف بالملموس تارة، وعبر المسكوت تارة أخرى "عقيدة"/ نظرية الكتابة الشعرية عند عبد الكريم بدر خان.. و نضمنها تضاعيف هذا المقال تدريجيا، ولو بشكل موجز لضيق المجال .
1 ـ 1 ـ "الكتابة في درجة الصفر":
نقرأ:
"أكتب في درجة الصفر
(....)
درجة الصفر زرقاء
والحبر.. زرقة دم"
هي مراوغة جميلة للقارئ المتخصص، لأن المقولة "درجة الصفر" Degé zéroتحيل على نظرية "التبئير" focalisation عند الباحث و الناقد البنيوي جيرار جونيه Gerard Genette في كتابه المرجعي الأوجه 3 Figures III، المتعلق بنظرية التلفظ و يقصد به الذات الساردة الغير منحازة والمغيبة "الهو" التي لا علاقة مباشرة لها مع الحدث.. وتتبخر نظرية التلفظ هذه بمفارقات أخرى لما نقرأ:
"أقول كلاما غريبا كوجهي
وأبحث في المفردات
عن وجود فتات
أخبئه بين جفني حلما"
الضمير المتكلم ليس "هو" كما " في "درجة الصفر" عند البنيويين، بل أنا، ليصبح "التبئير داخليا" Focalisation interne، يصف فعل الكتابة.. والمكتوب "كلام" (أقول كلاما).. والقول هنا خارج عن المألوف في الشعر، لأن الشعر "يوحي" ولا "يقول" خلاف النثر.. لكن سرعان ما تتبخر هذه الملاحظة لما نقرأ:
"أقول كلاما على شكل شعر
و جوهره وجع في الحياة"
أي شعر يعني؟
1 ـ 2 ـ شعر خارج القيود:
لعبد الكريم بدر خان غيرة كبيره على اللغة العربية و قواعدها، و كثيرا ما قرأنا انتقاداته اللاذعة لشعراء صنعوا نشازا في ما يشبه القصيدة العمودية... لكنه ورغم حنينه حتى في هذا الديوان للقافية والميزان:
"كنا نعربد أحلاما بلا أفق
ثم ارتضينا بقير موحش الغرق"
(...)
"والآن من دمنا ... الطوفان ينسكب
أين السفينة يا رباه...؟ والكتب؟"
فهو قد اختار بمحض إرادته أن يكون شعره حرا، ويلوي بظهره لما ذكره الخليل بن أحمد الفراهيدي عن بحور الشعر الستة عشر..
نقرأ:
" ولأكتب قصيدة واحدة
قصيدة تشبهني
يلعنها القراء والنقاد
ويدوسها الجند في استعراض عسكري"
وبأسلوبه الساخر المتفرد يذكرنا عبد الكريم بدرخان بمعركة "هيرناني" (HERNANI ) لفيكتور هوغو Victor Hugo لما شنها حربا ضد الكلاسيكيين الذين حاربوا الحداثة في عهده، واعتبروا كلما كتب خارج نهجهم ركاكة و بدعة وانحطاط.. نقرأ في الديوان:
"تحتاج أن تنسى حبيبتك البعيدة
فهي تزداد اشتعالا
والرسائل خلف مشيتها تبعثر مثل أوراق
الخريف
كأنها جاءت لتختبر البراعة في قصيدتك
الحديثة
أو لتقتل ما تبقى فيك من أمل
كأن جمالها
يكفي لتعتزل الكتابة"
اختار أن يكون شاعرا طلائعيا لا يرى ضالته في محاكاة سلفه، ولا في تحويل كتاباته لمجرد بكائيات عن سعير الحاضر... اختار أن يكتب عن و للمستقبل:
نقرأ:
"أقول كلاما لما سوف يأتي
فلا حاضري يستحق الكلام
ولا الذكريات
سوف تبعث عمرا موات"
2 ـ سؤال الكتابة:
عبد الكريم بدر خان ليس من مريدي ولا من دعاة مذهب "الفن من أجل الفن"... صحيح أن الجمالية عبر نصوصه الشعرية هدف أسمى، لكن فعل الكتابة عنده سؤال وجودي بامتياز... وقبل مقاربة هذا السؤال في تضاعيف هذا المقال، لابد من الإشارة على سبيل التمهيد إلى معطى جوهري: كتابات عبد الكريم بدر خان "تفاعلية" (intéractive).
2 ـ 1 ـ الكتابة التفاعلية:
بمعنى أنها تثير القارئ تارة، وتستفزه مرارا وتكرارا... تدعوه لـ "السفر" (Invitation au voyage) عبر "فلسفة نفي النفي": نفي القصيدة.. حتى لا يبقى مجرد مستهلك محايد وسلبي.. ويطرح الأسئلة عن سبب نفي القصيدة في القصيدة:
نقرأ:
"تعرفين أن الكلمة التي لم أقلها
أعمق من كل ما قلت،
وأن القصيدة التي لم أكتبها
أجمل مما كتبت،
وأن المرأة التي أخاف من حبها
توجعني أكثر من اللواتي أحببت."
وكأن الشاعر في سياق كلامه هذا، يجسد بالملموس إحدى النظريات الحديثة الأكثر تداولا في "علم سياقات الخطاب" التي لخص خصائصه العالم اللساني الانجليزي أوسطين (Austin ) في كتابه الشهير "لما يكون الكلام فعلا" (Quand dire, c’est faire)... واختزلها في أبعاد ثلاث:
ـ الملفوظ كبعد لغوي لفظي (locutoire): يدعو المخاطب (القارئ) إلى فهم المعنى اللغوي اللفظي الأولي المتداول للمفردات والجمل، وصيغ الكلام (إخبار؟ استفهام؟ تعجب؟ إقرار؟ نفي...)... وفي سياق النص أعلاه، نجد النفي ("لم أقلها".. "لم أكتبها) والضمير المفعول به تقديره هي القصيدة، والإقرار ("أن المرأة التي أخاف... توجعني أكثر..").
كلا الصيغتين (النفي / الاقرار) تجععلان القارئ يتساءل: أين القصيدة؟ ما المقصود بهذا النفي / الاقرار؟
أسئلة كهذه تدعوه إلى اكتشاف البعد الثاني للملفوظ الذي تحدث عنه أوسطين:
ـ الملفوظ كبعد مجازي (Elocutoire): و يعني الانزياحات اللغوية والأسلوبية والبلاغية.. أو بعبارة أدق: المسكوت عنه داخل النص: النوايا الخفية للشاعر.. الشيء الذي يجعلنا نستشف رسالة الشاعر لمخاطبته في النص، وللقارئ المتلقي: رسالة ديداكتيكية/ تعليمية مفادها أن الشعر ليس كلاما مباشرا يوميا عاديا... هو كل تلك الحمولة الوجدانية والثقافية والفكرية... التي يوحي بها ملفوظ النص، ولايقولها.
نقرأ في نفس السياق:
"ـ أحمد الله... لست بشاعر!
ـ نعمة وهدي؟
ـ مثل موت سدى!
ـ مثل قبلة عاشقة للجنون"...
كيف لشاعر أن يقول على نفسه أنه ليس بشاعر؟
هو البعد الثالث لأفعال الكلام عند أوسطين:
ـ الملفوظ كبعد محفز لردة فعل (Acte perlocutoire):
ويتجلى هذا البعد في ردة فعل المخاطب/ القارئ لما لا يفهم، أو لما يعجب، أو لما لا يجد متعته... لما تتحقق أو لا تتحقق آفاق انتظاراته من الخطاب الموجه إليه...
2 ـ 2 ـ لماذا نكتب؟
أعجبني جواب إحدى الكاتبات، لتشابهه ضمنيا مع فعل الكتابة عند عبد الكريم بدرخان لما قالت:
" الكتابة، سؤالنا الحارق في خضم هذه التبدلات والمتغيرات العاصفة بنا من كل جانب، هو كيف سيكون غد الإنسان في عالم يتحول إلى متحف مهجور... كيف سيكون تفكير هذا الكائن الهش وماذا عن نظرته للأشياء وجملة همومه الاجتماعية والثقافية التي تتضمن في ما تتضمن: الكتابة عموما والنص الشعري تحديدا."
أما عبد الكريم بدر خان فـ "يكتب لنفسه عن نفسه شعرا".. كتب في حوار (مفترض؟) مع صديقه (صديقي) الكاتب السوري العملاق مصطفى تاج الدين الموسى:
"قلت (يقصد صديقه مصطفى) أرض القصيدة محروثة من ألف نبي،
وأما الرواية بكر...
ستنجب سبع ورود... كسبع نساء
قلت (الشاعر/ الأنا): في الشعر أكتب نفسي لنفسي،
و ما همني أن تموت البلاغة
أو يسقط الشعراء؟"...
الأمر لا يتعلق هنا بتفاخر بين الأجناس الأدبية (رواية/ شعر)، بقدر ما هو الدفاع عن اختيار: ماذا تكتب؟ ـ أكتب شعرا.. و بما أن الشعر أكثر توظيفا للانزياحات من النثر، ولأنه (الشعر الحر) ليس مجرد محاكاة لأساليب لغوية وبلاغية سرمدية.. ولأنه حداثي في أشكاله ومضامينه.. ولأنه متمرد عن "حرس اللغة".. فلا يهم كاتبه أو قائله نيل رضا أصحاب العمائم يلكون شاعرا وما يبدعه شعرا.
وحتى لما يصرح "أكتب نفسي لنفسي"، فالأنا هنا لا تعود بالضروري لذات الشاعر الشخص المفرد.. هي "أنا" جماعية حاملة لهم وطن، ووجود، وكنه، وماهية، ومصير...
وفي هذا المقام يقول "العقاد" بأن:
"التأليف بين القيود والحرية" يمكن أن يتخذ ميزانا صحيحا لوزن الأمم والأفراد أو الحضارات والآراء والفنون فكلما اقتربت الأمة أو الفرد أو الحضارة أو الرأي أو الفن إلى حسن التأليف بين أفراح الحياة وأوزانها بين خيالها وعروضها بين معناها وصورتها كانت أقرب إلى السمو والنبالة والصدق لأنها أقرب إلى القصد الإلهي ووجهة الكون البادية في جميع أجزائه" (مطالعات في الكتب والحياة ص7)...
ـ لماذا نكتب إذن؟ (سؤال نعيده للمرة الألف)
2 ـ 3 ـ الكتابة سؤال وجودي:
نقرأ:
"قلت: مادية الجدلية تحكمنا،
والمثالية انتحرت
والجنون يطيرننا شررا في الهواء
قلت:
نبني الوجود من العدم المتناثر في روحنا
ومن العتم نسحب سيف الضياء"...
هي فلسفة عبد الكريم بدر خان الشاعر والمثقف و المناضل الملتزم مع قضايا الإنسان والمجتمع... هو التفاؤل بعينه لما يقول:
"نبني الوجود من العدم المتناثر في روحنا"... وهو الشاعر الذي ما رضى على نفسه تقديم استقالته كما فعل الكثير من الشعراء الجبناء: " ومن العتم نسحب سيف الضياء"..
وما اختيار الماء كعنوان لهذا الديوان "لون الماء" إلا استشراف لدلالات كتابات عبد الكريم بدر خان كسؤال وجودي... أليس الماء سر، وضامن الوجود (وجعلنا من الماء كل شيء حي: كلام الله)... فالدراسات السيميائية للشعر العربي قد أثارت دلالات هذه "العلامة" (Signe) العنصر الحيوي (الماء) في الشعر الجاهلي عند عبيد بن الأبرص، وفي الشعر الإسلامي عند الحطيئة، والشعر الأموي عند جميل بثينة، والشعر العباسي عند بشار بن برد، والشعر الأندلسي عند المعتمد بن عباد، والشعر الصوفي عند محيي الدين بن عربي، وفي الشعر الحديث عند محمود درويش.
كتب الباحث في السيميائيات عزيز العرباوي في هذا السياق:
"لقد استعمل الماء في الكثير من الأشعار العربية على مر العصور استعمالا مخالف للمعهود عليه والمألوف في الثقافة الإنسانية، فقد تم استحضاره في التشبيه، وفي المقارنة، وفي المدح، وارثاء، والهجاء، والغزل، والحزن، والمعاناة، والغرق، والضياع، والتشرذم، والتقدم، والتخلف، والمأساة والسخرية...".
لا لون للماء و لا شكل له، رغم ما جاء في عنوان الديوان (لون الماء)... وقد يكون له لون في نظر الشاعر عبد الكريم بدر خان، لأنه يتجلى في تمظهرات عدة... فهو:
ـ ما يغسل عرق الكادحين المغفلين:
نقرأ:
" بينما كنت أسكب الماء فوق العرق
وأنسج من الكلمات حمالة لنهود النساء
كنتك...
تدمرون البلاد"
ـ هو المطر في وطن تمطر سماؤه رصاصا:
نقرأ:
"أسقي الحمام جراحاتي و أغسله
إلى تراب... دموع الله تغسله"
(...)
" ولحمص..
أرفع كأسي العطشى
وأحلم بالمطر"
ـ هو الدمع أسفا على مصير بلد:
نقرأ:
" أراك عارية... كالدمع يا بلدي
أخشى على النهد من حبي ومن حسدي"
ـ هو البحر المرأة الحبيبة/ الأرض:
نقرأ:
" ما عدت أذكر
كان بحرا... ربما
أو كنت أنت البحر
أحمله و يحملني إلى غرق جميل"
ـ هو الخمر دون كحول كشاعر بلا دموع:
نقرأ:
"فاض نهر المدينة
ولم أبك
رجل بلا دموع
مثل البيرة بلا كحول والزهور الاصطناعية
وكغيري من منتجات الحداثة
أبتسم لكم من واجهات المحلات"...
ـ هو الشاعر يبدع الوجود من عدم:
نقرأ:
"أنت حلم
تولد من عدم
وتجلى بآلاته في مرايا الوجود
(...)
وإنني الماء... لو رجلاك تغسلني
لصرت كأني من الفيروز في اللهب"
قراءة ممتعة للديوان أتمناها لكم... ولنا لقاءات أخرى مع المبدع الشاعر الرائع عبد الكريم بدر خان
بوزيان موساوي... كاتب من المغرب