الناقد: مختار أمين "محراب الصوفيين في نقاء اللغة" قراءة في قصيدة "المنتظر" للشاعرة سعاد العتابي
جمالية الأدب بكل فنونه وأجناسه ترتقي بالمتلقي إلى مصاف مريدي الأنبياء..
تجعلك تفكر، وتنتشي، وتسمو روحك ويعمّها الصفاء.
المنتظر
في انتظار الأشجار
تبني العصافير أعشاشها
تتبادل الأحاديث والوعود مع الأغصان
تغني لها امتنانا ونكاية بابن آوى
………..
في انتظار البحر
يسود الصمت
تبدو الأمواج هادئة
يعتصره لظى الحنين
تشعر به السماء..
فتجهش في البكاء..
………..
وفي انتظاري..
أدركتُ حقيقةَ قلبي
مترامي الأطراف
يبحث عن ميلاد
وإن كان موجة هاربة من شواطئها
ولا يعنيه من أي زمن حضرتْ.
………………………………… .
(القراءة)
الشجر، والبحر، وأنا، ثالوث يشكل وطنا منتظرا، وطنا حالما مأمولا..
والوطن تلاشى قهرا وعمدا، وطن لا يدرك معناه الحق لدى مواطنيه..
وطن في غفوة استباح نفسه لكل من يطأه جبرا، لم يكن ساذجا حتى يجود بعوراته للمتسكعين اللئام، لم يكن شهوانيا شغوفا حتى يمارس البغاء على ظهور أولاده العاشقين، الذين ما عادوا يستسيغون طعم نهوده يلوكونها لاستحلاب لبنه المر الذي لوّثه منيّ العابرين المرتزقة..
لم يكن الوطن فاجرا يوما، ولا نسمع أنه في يوم اشتهى الحرام متعة..
لم نؤمن بشيخه وعجزه وهرمه وجفاف ماءه، وتجريف كبد حقوله، وذبول نخيله وشجره الأجرد لا يثمر..
لم نؤمن أن النهاية قد دنت.. قد حانت..
لم نؤمن أننا سنساق عرايا مطرودين من ثدي رحمته وقلبه النابض، لم نفكر أننا سنحرم من دفء حضنه، ومزاولة الدلال على ضفاف نهريه تغازلنا نسماته العابرة، ونطرب بشدو طيوره النادرة..
الحق أن هذا إنكار غير مقبول للوطن الأم الرؤوم، الشعور المغاير غير الحقيقي..
من بدل طعم الوطن؟
من كشف عوراته للئام يشتهونه؟
من عكر ماءه وأغطش سماءه؟
من تنازل عن كرامته وباع جسده؟
من مارس معه علاقة محرمية واشتهاه لنفسه؟
حكت لي القصيدة، ورأيت ما رأيت فيها من هذا الوجع البُغيّة المستشف..
………………….
وجع هذه القصيدة وإن كان مستترا على غائب هو الوطن، ولكنها تهادت إليّ كشابة حسناء مهجرة غصبة، شعثاء تترنح ألما وجوعا وعطشا، تستر مابقى من عفتها حتى وهي تتهاوى..
خلتها في خدر غيبوبة التعب تهذي، تتذكر مفقودها كأم ثكلى جاءها خبر مصرع وليدها الوحيد، حتى وإن ضحكت في هيستيريا الفاجعة، وتهذي بآخر لقاء معه.. بآخر ضحكات.. بآخر دمعات.. بآخر طيف جميل تحلم..
تحلم أننا كمواطنين مطرودين مشردين خارج الوطن..
أول مرثية:
مرة كالعصافير تبني أعشاشها استعدادا للبيوت الجديدة أو القديمة التي تحمل الذكريات الجميلة “في انتظار الأشجار/ تبني العصافير أعشاشها/ تتبادل الأحاديث والوعود مع الأغصان/ تغني لها امتنانا ونكاية بابن آوى” الأشجار هنا كناية عن البيوت المفقودة المهدمة أو المهجرين منها غصبا، والعصافير كناية عن أبناء الوطن، تصف الشاعرة غمار فرحة العصافير في صورة تبادل الأحاديث مع الأغصان، دلالة على تحليقها هنا وهناك بين الأغصان وتغريدها وغنائها، أي أنها تعود لحياتها الطبيعية نكاية في ابن أوى العدو الجبار الغدار الذي كان يفتك بهم يتصيدهم، وهو كناية عن العدو الغاشم الذي كان يفتك بهم..
ثاني مرثية:
“في انتظار البحر/ يسود الصمت/ تبدو الأمواج هادئة/ يعتصره لظى الحنين/ تشعر به السماء/ فتجهش في البكاء” في انتظار البحر كناية عن العطاء، الذي يجلب السكينة وراحة البال “يسود الصمت” والصمت هنا استعارة تشبيهية ضمنية تحقق المعنى المشتق بأن لو ساد الصمت في معالمه سكينة ودلالة أمان، لأن “تبدو الأمواج هادئة” وهذه دلالة أخرى على صمت السكينة.. صمت الرضا، فيعتصر البحر لظى الحنين، الحنين من الحنان، ومظاهره الرقة والوداعة، واللظى اللهب الصافي، نار متأججة بلا دخان، والدخان علامة ضعف في النار، وإن خلت النار من الدخان دلالة على شدتها، وهنا اشتغال على الضدية للمبالغة في الوصف لتجسيم الصورة، هي تصف حنين البحر المتأجج بداخله لظى يكوي، وهذه الصورة صورة حركة فاعلة تصور صراع داخل الشعور، دلت على السرعة، وعندما يلجأ المبدع لمثل هذه الصور التي تدل على الحركة والإيقاع السريع، يشعرك بتورم الحدث ووشك انفجاره، أي ضرورة اللحاق به، التعجل، ولذلك نجدها تقول: “تشعر به السماء فتجهش في البكاء” أي تمطر عليه السماء مطرا يطفئ اللظى المشتعل، والجمال أن البحر طبيعته ماء، ولكن عندما يعتصره لظى الحنين شيء حسي، فماءه أصبح شكليا، تغيرت صورته وكأنه أصبح يتشبه بالنيران المشتعلة في حاجة لماء يطفئها، فشبهت السماء بروح تشعر، تشبيه تشخيصي لاستعارتها صفة البكاء والدموع، لإنسان حيّ له روح يبكي وقت الأحداث الجسام، والجهش بالبكاء مرحلة في البكاء، مرحلة الوسط، فيها تسخن الغدد التي تفرز الدموع وتدر أكثر، والكثرة تتشابه مع المطر الهاطل على البحر يطفئ لظاه.
الله ما أجمل اللغة في بلاغتها في يد متمكن موهوب حساس..
المرثية الثالثة الخاتمة:
“وفي انتظاري/ أدركتُ حقيقةَ قلبي/ مترامي الأطراف/ يبحث عن ميلاد/ وإن كان موجة هاربة من شواطئها / ولايعنيه من أي زمن حضرتْ” وفي انتظاري أدركت أني كنت أتسمع لهذيان قلبي عندما يأمل ويحلم، مترامي الأطراف يبحث عن ميلاد ليس ميلاده هو، ولكن ميلاد الوطن الحلم المأمول المرتجى، وهو بكل ما وصفت سلفا موجة هاربة من شواطئها، ولا يعنيه من أي زمن حضرت، زمن متغلغل في الحقيقية التي تتوارى أو يواريها الكفار الغاصبون، ذلك الزمن البعيد الذي خضب حَمار القلب لينبض، قلب معبق بتاريخ طويل لوطن، به العزة والكرامة والشموخ والمجد، وإن تغيرت معالم الصورة والملامح له فأني أنتمي لهذا الوطن الأم التاريخ الطويل، أما ما تم تشويه أرغمني على الفرار والتهجير والتشريد، لذا قلبي يهذي وما زال يحلم..
ذلك الثالوث الذي غزلته الشاعرة، مجرد صور لأشباه وطن غابر، تصور الحنين إليه بلظى يكويها، أقامت الشاعر تضافر ثلاثيا في وحدة، لتشعرنا بمدى الفقد..
ومن هنا نقول أن العمل الأدبي المبدع يجلي النفوس ويسمو بها، يضعك على مصاف النبي ومريديه، لتنال جرعة هائلة من الهدوء وراحة السكينة، صفاء غير محدود..
ولا أمتع من نبل الكاتب المخلص الذي يقومك بأفكاره وشعوره، أن يحدثك عن شيء له قيمة، يشعرك بما يدور حولك، يجعلك تفكر وتعيد ترتيب الحوائط الساترة أو هدمها للخروج إلى النور..
ما أجمل متعتي وأنا اطوف سابحا هائما منتشيا على جسد هذه القصيدة وأفكارها ومعانيها المستترة، الواضحة بلاغيا..
قلم سعاد العتابي قلم نادر بصوت كراوني يجب أن تجهر به في زمن نعيق البوم الأدبي
تحية فخر وإعزاز بصداقتي لها..