قراءة في "تراتيل قمر" مجموعة شعرية للشاعرة: سعاد العتابي بقلم: الناقد د. خالد بوزيان موساوي
صدرت عن دار المختار للنشر والتوزيع ـ 2015 (الطبعة الأولى) مجموعة شعرية للكاتبة والناقدة والشاعرة العراقية سعاد العتابي، تحت عنوان “تراتيل قمر”… تحتوي المجموعة الشعرية على 29 نص شعري “حديث”..
وخروجا عن المعتاد في قراءاتي النقدية التطبيقية المتشبعة بـ”السيميائيات” و”نظرية جمالية التلقي في النقد الأدبي”، وجدت نفسي وأنا أغوص في أغوار ومتاهات المجموعة الشعرية لسعاد العتابي، أبحث عن مقاربة ممكنة لتقريب المسافة أكثر وأفضل بين القارئ والكتاب. وقد لجأت لأجل ذلك ـ كمنطلق ـ استدعاء حيثيات سياق عام من وحي تاريخ الأدب العربي الحديث (المثير للجدل)…
السياق العام:
السياق العام لقارئ تاريخ الأدب العربي الحديث والشعر الحر خاصة، ومدى تأثره بالحركات الفنية والأدبية في الغرب، يكمن في كون الشاعرة سعاد العتابي تشكل امتدادا لجيل من نوع آخر، عربي، وحداثي بامتياز ـ أطلق عليه “جيل 26″… ، نقلا عن قول بدر شاكر السياب “إن العبقرية ولدت في العراق عام 1926″، لتقارب تاريخ ميلاده وتاريخ ميلاد كل من نازك الملائكة، وبلند الحيدري، وعبد الوهاب البياتي، ومصطفى جمال الدين…
جيل اعتمد على الأسطورة والتراث الشعبي والثورة على القهر، والتحرر من التخلف والتعقيد والقيود الاجتماعية.، والاهتمام بالحديث عن الإنسان، وهو محور لابداعاته.
و قد تزعم جدالات الحداثة في الشعر بناءا على مبادئ وتوجهات الإبداع لدى هذا الجيل من العراق كل من نازك الملائكة التي كتبت تنتقد المحافظين المدافعين عن الشعر العمودي، تقول:
“ما زال المتعصبون والمتزمّتون من أنصار الشطرين يدحرجون في طريق الشعر الحرّ صخورهم التي يظنونها ضخمة بحيث تقتل هذا الشعر وتزيحه من الوجود.”
والماغوط الذي لم يوقر أحداً في حواراته الصحفية، بل تناول الجميع تناولا حرا. “شعر نزار قباني برأيه لا يختلف عن أي تصريح رسمي لأي مسؤول حكومي”. “محمود درويش شاعر موهوب لكنه غير صادق”. “ربما لو كنت مثقفاً وتعلمت لغات أجنبية لكتبت طلاسم مثل أدونيس!”…
وقد جاءت المجموعة الشعرية (تراتيل قمر) لسعاد العتابي لتصنع حدث التصالح والوفاق بين توجهات وتيارات الشعر الحديث..
مجموعة تراتيل وحداثة النص الشعري المخضرم:
ونحن ننتقل من نص إلى نص، ومن صورة إلى أجمل منها، ومن إيقاع موسيقي إلى الأروع منه، أول ما نستخلصه هو كون الشاعرة والكاتبة سعاد العتابي قارئة جيدة… وبالتالي حاولت عدم “سجن” إبداعها الشعري في خانة تيار شعري حديث محدد، أو محاكاة نمطية شاعر معين كنازك الملائكة أو نزار قباني أو الماغوط أو محمود درويش… وقراءاتها، وحسها الشعري ونظرتها لمقومات الحداثة كما نستشفها بمجرد قراءة عناوين نصوصها، هي تراكمات “مدرسة الديوان”، و”الرابطة القلمية”، و”جماعة أبولو”، و”تجربة الغربة والضياع”، و”تجربة الحياة والموت”، و”الشكل الجديد”…، تراكمات ساعدتها على الابحار بين مختلف المذاهب والتيارات الحديثة بشكل سلس ومتناغم وهادف، كشاعرة مخضرمة تكوينا وإبداعا، ومعاصرة عطاء وإبداعا وتفردا… استنتاجات كهذه تضفي المشروعية على التساؤل التالي:
ـ أي نوع من الشعر الحديث تكتب سعاد العتابي من خلال مجموعتها قيد الدرس هنا؟
بعد خمسينيات القرن المنصرم، أطلق بعض النقاد عدة نعوت وصفات على الشعر الحديث، بحيث سمّوه ب “الشعر المرسل” أو “النظم المرسل المنطلق”، والبعض أسماه بـ “الشعر الجديد”، بينما أطلق عليه آخرون اسم “شعر التفعيلة”، وبعد الخمسينات تمّ تسميته بـ “الشعر الحر” (مع نازك الملائكة في قصيدة الكوليرا, المنشورة في تشرين الأول سنة 1947م),. بينما فضلت الشاعرة سعاد العتابي تسمية جنس كتابتها: شعر، وتصنيف كتابها “تراتيل قمر”: (مجموعة شعرية).. و كأنها تقول للقارئ العادي أو المختص: أنا كتبت شعرا، و لك حرية تصنيفه “حرا”، أو مرسلا منطلقا”، أو بغير هتين الصفتين، أو تصنيفه رومانسيا، أو واقعيا، أو سورياليا، أو وجوديا (لا حدود بين هذه المدارس والمذاهب والتيارات في “تراتيل قمر”…
وقد تعمدت شد نظر القارئ الفضولي الدارس للمعجم العربي بعنوانها “تراتيل قمر”.
عنوان قد يحيل القارئ العادي على المعنى الفقهي لكلمة “تراتيل”، على أن المقصود بالترتيل، تلاوة وصلاة مع لحن ونغم (الأنشودة المرتلة من الصلاة عند المسيحيين)… وقد يكون هذا المعنى مقصودا مجازا من طرف الشاعرة سعاد العتابي، حتى يقرأ كل نص من مجموعتها الشعرية، كونه أنشودة، وأنشودة روحية إن صح التعبير.. وعناوين بعض نصوص المجموعة تؤكد هذه الفرضية (“ترنيمة سومرية”، “رقصة القلوب”، “دندنة عود”…)
وقد يحيل العنوان كذلك على المعنى الفقهي الإسلامي، ومفاده الترسل في القول، أي التمهل في قراءته، ورعاية مخارج الحروف و ونقط الوقوف… وقد يكون هذا المعنى أيضا بيت قصيد الشاعرة، لأنه يحيل على المعنى اللغوي المعجمي: أحسن تأليفه، وأبانه وتمهل فيه… وهو ما يوحي به العمل الجبار والمتريث والمتأني والمترسل والهادئ الذي قامت به الشاعرة سعاد العتابي أثناء كتابتها لهذه المجموعة الشعرية…
العنوان (تراتيل قمر): تركيب العنوان (نعت و منعوت) لا يمكن أن يقرأ “تشبيها” عاديا لغياب أدواته، ولا حتى “كناية” عن موصوف، ولا “استعارة”.. نحن أمام ظاهرة بلاغية تسمى “التشخيص”، وهو إعطاء غير العاقل صفة العاقل… وقد أعطيت للقمر في العنوان صفة العاقل… وقد يذهب القارئ إلى أدق التفاصيل لما يتساءل: لم صيغ “قمر” على شكل نكرة… لو قرأنا “القمر” في صيغتها المعرفة، لانتهى أمر تفكيك العنوان لأن السياق في هذه الحالة سيحيلنا على “كوكب القمر” (رغم تعدد استعمالاته ورمزياته لدى الشعراء)، أما “قمر” وهو مفرد ونكرة، فقد يستعدي فضول تأويلات ذاتية نحن في غنى عنها هنا…
مميزات النصوص الشعرية في مجموعة “تراتيل قمر”:
1 ـ جنس النص / نصوص مجموعة “تراتيل قمر”:
نقرأ هذا المقطع من نصها الشعري “هديرالصمت” (ص.11):
“يلازمني
رهاب الخوف.. من خوفي
يخالجني لحن القدر
يخذل شدوه الوتر
مرآة رفيقة وحدة.
تبكي و تضحك من ألم.” …
هو نص شعري، إنه موزون: فلو لم يكن موزونا لما جازت تسميته شعرا، ويتكوّن من شطر واحد، دون عجز،… له إيقاع موسيقي خاص به (لا يمت بصلة لإملاءات قواعد الخليل)، لا يلتزم بعدد التفعيلات في الأبيات، إضافةً إلى بضع قوافٍ (قدر/ وتر)، للتخفيف من حدة الإيقاع الواحد وتجنب شعور القارئ أو السامع بالملل، وقليل المحسنات البديعية (“يخالجني لحن القدر” / “يخذل شدوه الوتر”) والمقاطع الساكنة (“قدر”/ “وتر”/ ألم”)، تقنية “التدوير”( بمعنى أنه قد يأتي جزء من التفعيلة في آخر البيت، ويأتي جزء منها في بداية البيت التالي)، و لعل أحسن مثال ل “التدوير” جاء في نص، هذا مقطع منه:
نقرأ:
“رغبة تتوق للانعتاق من الأحزان
أسمع
صمتا يثور على صمته
لروح تتماهى
(…)
أدركت إن نقض دين هواك
ردة”.
2 ـ ركائز التصميم والبناء والتأثيث في النصوص الشعرية لمجموعة “تراتيل قمر”
ـ بنية النص: النص من أول سطر إلى آخر كلمة، بنية واحدة متراسة ومسترسلة (القصيدة بناء شعوري يبدأ من من حرف أو كلمة، ثم يأخذ في النمو حتى يكتمل)، تتميز بوحدة الموضوع، فقد اعتمدت على الوحدة العضوية، فلم يعد البيت هو الوحدة وإنما صارت القصيدة تشكل كلاماً متماسكاً وغير قابل للاختزال بسهولة والبناء التدريجي للصورة الرمزية (التي يموه بها الشاعر على مشاعره الخاصة أو ميوله السياسية أو العقائدية)، بحيث يؤدي حذف بعض أبياتها إلى التأثير على البناء الكلي للقصيدة من الناحية الفنية وكذلك الشكلية، وتفقد في كثير من الأحيان ذوقها الجمالي والقدرة على فهمها وتفسيرها. فإن لم نقرأ المقطع الأخير لنص “بكاء النوارس” (وهو على شكل قفلة)، لن يفيدنا ما سبق من مقاطع النص في شيء:
نقرأ:
“آه…
كم استجديت طرقاتي أن تنتهي إليه
لكنها وجدته دربا طويلا
لن يأتي…” (ص.13).
ـ لغة الشعر في مجموعة سعاد العتابي:
نقرأ هذا المقطع من نص
كتب الباحث الناقد السيد عبد الرزاق:
“ما يلاحظ على لغة الشعر الحر التعقيد، ولعله آت من كون اللغة المستخدمة فيه بسيطة في دلالاتها الأصلية، عميقة في معانيها النصية، ولأنها من جهة أخرى ترتبط بعلاقات سياقية وتاريخية وشعورية لا بد من فهم مراميها أولا، ثم الغوص في دلالات البناء الشعري الحديث، والحقيقة أن الغموض أو الإبهام أصبح ظاهرة تغلف أروقة القصيدة، وقد تنبه غير دارس لهذا الملمح في هذا الشعر…”
على أن الشعر الحديث (الحر) ليس كله غامضا، يسبح في أوهام الإبهام والغموض، فهناك تجارب شعرية، كما المجموعة الشعرية “تراتيل قمر” للشاعرة سعاد العتابي، لم تتنازل عن رسالتها التربوية والنهضوية، وظلت على يقين بأن الشعر ذو رسالة، من ذلك ما قدمه مظفر النواب وأحمد مطر وصلاح عبد الصبور وشعراء المقاومة الفلسطينية في جيلها الأول…
نقرأ من قصيدة “كحلاء” (ص.30)
” كحلاء..
أيقظت الغيمات على فمي
تموج نغما في لحن السواقي
ترمم شقوق الأمنيات بتظرة”…
و “كحلاء” هنا قد تحيل على محافظة (العمارة ـ لواء الكحلاء) جنوب العراق… الشيء الذي يجعلنا نتساءل كما فعل جودت نور الدين ـ في سياق آخر ـ على هذا المقطع بقوله:
” إني أسأل الشاعرة: كم قارئ لهذا المقطع في العالم العربي الواسع من غير منطقة الجنوب الصغيرة في العراق {العمارة ـ لواء الكحلاء } يمكنه الإحاطة بأبعاد الصورة التي نقلتها على رغم وضوح عباراتها”.
ـ بناء الصورة في مجموعة “تراتيل قمر”:
كما أشرنا إلى ذلك سابقا، لا يشكل البيت الشعري كما في مفهومه التقليدي “وحدة مستقلة” شكلا ومضمونا، فإضافة لاختيار المفردات معنى وموسيقى، وتركيبها على شكل صور بلاغية مشفرة وحاملة لثقافة العصر وهمومه وانشغالاته وقضاياه الكبرى، وإضافة لكون النص في نصوص “تراتيل قمر” نص/ صورة/ كل لا يتجزأ، فلقد استطاعت الشاعرة بتجربتها وموهبتها ذائقتها تجاوز توظيف الأسطورة، والرمز، والغموض…، كـ “مودا العصر” عند بعض كتاب الشعر الحديث، بل توفقت في توظيف الحواس الخمس كلها، والفنون الجميلة المرتبطة بها، في أكثر من قصيدة: (التشكيل: “يتوشح البحر برداء السماء”)، الكتابة (“خطتها أناملك بقلم الروح”)، الموسيقى (إيقاع القصيدة/ الأنشودة)، الحلم والذكرى (أتذكر أول حلم أهديتني؟)، الحياة (“أزهر تحت كل هدب وردة … كلما ذرفت دمعة يفوح عطرك)… ندع القارئ الكريم يكتشف هذه الجمالية المتفردة بذائقته، ونقرأ أخرا وليس آخرا هذا المقطع من:
“رسالة على لوح طيني” ص. 6):
“كما يتوشح البحر برداء السماء
أسدلت عيوني أهدابها
أزهر تحت كل هدب وردة
كلما ذرفت دمعة يفوح عطرك
أتذكر أول حلم أهديتني؟
ثلاث كلمات…
منذ بدء الخلق هن
حروف بلون الخلود
خطتها أناملك بقلم الروح”..
ولنا لقاءات أخرى مع الشاعرة سعاد العتابي، والمجموعة تستحق أكثر من قراءة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
د. بوزيان موساوي كاتب من المغرب
2018- 2- 12