×

اضغط هنا إن لم يقم المتصفح بتحويلك آليًا.
مديرة التخرير سعاد العتابي

المسرحية الومضة.. ابتكار أم تأصيل؟ بقلم: حيدر السلامي

[LEFT]
image


المسرحية الومضة.. ابتكار أم تأصيل؟
بقلم: حيدر السلامي
الكلام على اللحظة الممسرحة أو ما أطلق عليه محمد الميالي "المسرحية الومضة" تأسيساً لها، يدعو للوقوف أولًا لمعرفة أسرار هذا التجنيس ومقتضيات ظهوره في المشهد الثقافي والأدبي المعاصر.
ومثلما هو معلوم فإن لكل جنس أدبي سماته العامة وخصائصه الذاتية التي تميزه عن سائر الأجناس الأخرى، لذا فإن اقتران مفردة "ومضة" بمفردة "مسرحية" وصف دلّ بما لا يقبل الشك على أهم سمات الوليد الجديد وأعني التكثيف والاختزال سواء على صعيد البنية النصية أو التمثيل على الخشبة مع الإبقاء ـ طبعاً ـ على العناصر المكونة للمسرحية كالنص والمناظر والمؤثرات الفنية إلى جانب الأداء الحركي والصوتي.
فالمسرحية نص قصصي حواري مكتوب ينقل إلى الجمهور حياً بمصاحبة مناظر ومؤثرات سينوغرافية مختلفة. وهذا معناه وجود فكرة وحدث وشخوص وزمان ومكان وبالتالي وجود بناء وحوار وصراع.
لذلك نجد كل تطور يطرأ على القصة سيلقي بظلاله حتماً على المسرحية فهما من رحم واحد. وبسبب اتصاف عصرنا بالسرعة والتشابك بين الواقعي والافتراضي، بين الخاص والعام، بين المحلي والعالمي، خاصة مع ظهور وسائل التواصل الاجتماعي وشيوع النزعة الترميزية وسيادة اللغة الإشارية الايحائية والميل باتجاه الاقتضاب والاختصار والتلخيص، فضلًا عن الانفتاح والتأثر بالأدب العالمي والتعرف على بعض الاجناس الوافدة كالهايكو والتانكا والهايبون وغيرها وظهور الومضة القصصية والشعرية، كان من الطبيعي التمهيد لمسرح وامض.
والسؤال الآن عن الفارقة الأساسية بين المسرحية الأم والمسرحية المحدثة. ويجيب الميالي عن ذلك في معرض التعريف بابتكاره قائلا: " إن المسرحية الومضة هي ثيمة مكثفة تأتي بما يريد الكاتب بزمن مختزل قصير جداً لا يتجاوز الدقيقتين كحد أقصى".
إذن فأهم مميزاتها الاختزال والتكثيف وهو واضح من عنوانها. ويعود ليشدد أن ومضته "تجتمع فيها كل عناصر المسرح من موسيقى وإضاءة ومؤثرات وديكور وأزياء وحدث وممثلين، كون هذه العناصر لها لغتها الخاصة".
لكنه يشير في موضع آخر من كلامه عن المسرحية الومضة إلى أن الحوار ليس ركناً أساسياً وإنما يلجأ إليه الكاتب عند الحاجة الملحة وينبغي أن يكون مقتضباً. ربما قصد هنا الحوار اللفظي المسموع لا الإشاري أو الإيحائي.
وينوه بضرورة الابتعاد عن الديكور المكلف إنتاجيا فهو يفترض لمسرحيته الجديدة خشبة شبه صماء خالية من المبالغة في الديكورات والاستعاضة عنها بتقنيات الإضاءة مثلاً كما لا يحتاج الممثلون إلى إجراء بروفات.
هذا الوصف برأيي يستبطن معالجة للمشكلة الكبرى التي يعاني منها الانتاج المسرحي في العراق وعموم الوطن العربي وهي التمويل. ففي تجربة المسرح الوامض يمكن الاستغناء عن الممول المتحكم بكل شيء والعمل بالميسور بل العمل بالمجان غالباً.
فهي والحال هذه مسرح تجريبي يتسم بالسهولة وتذليل جميع العقبات أمام الإبداع البشري ويمنح جمهور المتلقين فرصة التواصل ومتعة المشاهدة وصولًا إلى مرحلة التطهير بلا كلفة.
ثم يعود الميالي مرة أخرى للحديث عن بنية النص المسرحي المبتكر فيشترط فيه الترميز والهروب من الكلام المباشر والإسهاب إلى الاستعارة والإنزياح أي من الحقيقة إلى المجاز وبصورة كلية.
ويذهب إلى أبعد من ذلك فيفترض أو بالأحرى يشترط أن يتضمن عنوان المسرحية إشارة رمزية للحدث المرموز أيضاً. فالعنوان هنا يمثل جزءاً مهماً من العمل المسرحي وليس إضافة أو إطاراً عاماً للفعل الدرامي، بل ربما كان العنوان هو الأساس أو منطلق الفكرة أو لعله بنية الصراع ومادته.
كما يشترط لنجاح مسرحيته الوامضة أن تكون نهايتها مباغتة ومفتوحة أمام التأويل والقراءة المتكررة أو الاكتشاف المتجدد للفكرة(الثيمة). ويمتاز النص الومضي بأنه وبمجرد القراءة يدخل المتلقي في عرض مسرحي مكتمل مرسوم في خياله، ولكن لا يعني هذا بشكل من الأشكال الاكتفاء بالنص من دون تجسيده على الخشبة.
ويعلل محمد الميالي ابتكاره لهذا الجنس الأدبي بما طرأ على الأدب المعاصر من مستحدثات أضافت عناوين جديدة وأجناساً أدبية منها ما ولد من رحم الأدب العربي تحت مفهوم الأبيجراما كالومضة القصة والقصة القصيرة جدا(ققج). أو ما عُرّبَ الأبيجراما المقتبس من الأدب الياباني(تانكا، هايكو، سينريو، هايبون) ولكل جنس فن تشكيلي خاص وفق ضوابط معينة لا يمكن تغافلها.
ويضيف إن المتلقي المعاصر بدأ يبتعد عن النص السردي ويمل منه، وبما أن النص المسرحي هو جزء من المنظومة الأدبية تطلب إيجاد نص مسرحي مقتضب ومضغوط يقدم رسالته بوقت قياسي في مشهد واحد قصير جداً.
وهذه بالحقيقة سمة أخرى تضاف إلى السمات الخاصة بالمسرحية الومضة وهي أنها تتألف من مشهد واحد لا غير.
لقد حسم الميالي الأمر وقرر أن المسرحية الومضة جاءت استجابة لمتطلبات العصر ومن إفرازات العولمة والظاهرة الإعلامية الجديدة التي كان لها الأثر الأكبر في بروز ما بات يعرف بالأدب التغريدي.
ولم يكتف بالتنظير للمسرحية الوامضة حسب، بل قدم نماذج كتبها بنفسه ووضعها على دكة التشريح بين أيدي النقاد والأدباء وسنورد في نهاية المقال اثنين منها.
إننا الآن إزاء تجنيس لأسلوب جديد في الكتابة بل التجربة الإبداعية المسرحية بصورة خاصة، الأمر الذي دعا الميالي وعدد من زملائه في القروبات الإلكترونية التي أمست تمثل صالونات أدبية معاصرة إلى تثبيته بالاسم والهيأة ومن ثم الدفاع عنه بضراوة والبرهنة على ضرورة إيجاده رغم أن الميالي نفسه غير مقتنع تمام الاقتناع بنظرية الأجناس جملة وتفصيلًا ويدعو إلى تحري الإبداع كيفما كان وتحت أي عنوان.
وأخذ على عاتقه وفريق مؤيديه في تلك القروبات مهمة الرد على مناوئيه ومناقشة منافسيه ومن خالفه الرأي أو من ادعى أنه لم يأت بجديد في محاولة لسلب حقه في الحصول على شهادة اعتراف أو براءة اختراع.
وفي الأخير استقر لدى القراء المتابعين لكتاباته ولدى الميالي نفسه أن جنس المسرح الومضي إنما يتميز عن سائر الأجناس الحديثة بأنه مسرحية كاملة البناء يتألف نصها من بداية ووسط ونهاية، لكنه مقتضب جداً فلا يتجاوز الدقيقتين ويقوم على عنصر الدهشة والمفاجأة في نهايته خاصة ويستغرق في الرمزية.
ويشير إلى إمكانية اعتماده بمفرده كعرض مسرحي كامل أو كافتتاحية لمهرجان مسرحي أو مسابقة أدبية عامة أو خاصة أو عرض مسرحي تقليدي أو عرضه ضمن باقة من الأعمال الومضية متتالية لإشباع رغبة الجمهور وتكريس متعة المشاهدة لديهم، كما يمكن اعتباره رسالة أولية في بدايات المؤتمرات والمهرجانات ومحافل التكريم والتأبين والبرامج الثقافية المتلفزة وأمثالها.
وسواء شئنا أم أبينا فقد وضعنا الميالي بالمواجهة مع لون وذوق خاص وبشرنا بولادة جنس أدبي نشر منه لحد الآن أكثر من خمسين نصاً فضلًا عن عشرة نصوص بقلم صاحبه، ولا نستبعد أن نقرأ ونشاهد المزيد في قابل الأيام كما يقول وما علينا إلا تقبل هذه الفكرة والتعامل معها بجدية واهتمام ومن ثم الحكم لها أو عليها.
نورد هنا أنموذجين من الومضة المسرحية بقلم محمد الميالي:


image


(1) إيثار
موسيقى فلكلورية خاصة من عمق المسرح
ينفتح الستار على بقعة إضاءة في وسط المسرح ..
تكشف عن فتاة ترتدي زيا فلكلوريا تحمل على كتفها جرة ماء مزركشة ..
وخلفها ثلاثة فتيان وبينهم فتاة صغيرة ..
الكل كفاه تحت خرير الجرة ..
إلا هي واقفة ظامئة ..حتى ينفد ماء الجرة
ينسحب الجميع ..
وتبقى هي للحظات .. ثم تنزل الجرة لتشرب ..
فلا تجد قطرة واحدة ..
تنتقل لمقدمة المسرح مع بقعة الضوء ..
تجلس خلف الجرة محتضنة لها ساندة خدها عليها ..
فتعزف الوصلة الموسيقية الأخيرة.
صوت (تعليق)
آلهة الجمال
قيثارة عشق
تعرج اليها الحياة
تصلي في محراب
جرتها كل الكائنات
تقنت الأفواه
بين كفيها
وتظمأ هي.
يضيء المسرح..
ـ انتهت ـ

(2) مخالب
مدة العرض دقيقتان
يفتح الستار.. المسرح ( دم)
من زاوية المسرح تدخل فتاة تكشفها بقعة ضوء حمراء، مع مؤثر وقع أقدام تسير بحذر وموسيقى ترقب، مؤثر زئير يرعبها.
تلتفت يمينا تشاهد أنياباً ترتعب أكثر.. تقفز عنها مع صرخة .. مع موسيقى رعب
تتفاجأ بعيون حمر كالجمر تنظر لها.. ترتعب وتقفز مع صرخة شديدة..
ترتد وترتعب أكثر.. تقرر الهرب
تتراجع للخلف الى وسط المسرح.. تلتفت تجد مخالب
تقطع المسرح تحول دون هروبها..
تفكر قليلا ثم تقرر القفز فوق المخالب تسقط في الجهة الثانية..
تتفاجأ بقهقهة .. تلتفت بخوف..
تكشف لها بقعة ضوء رجل بهيئة ذئب جالس على كرسي
وعلى جانبيه مجموعة ثعالب ..
ترتد .. تدور حول نفسها تعود بالنظر لما اعترضها في الجهة الثانية.. ترى نفس الأنياب وذات الزئير..
تستخرج علم بلدها.. وتمتد وتغطي جسدها بالعلم.
دم للمسرح بالكامل..
تغلق الستار.. مع استمرار موسيقى الرعب ومؤثراته حتى يتم الغلق.
ـ انتهت ـ

لقد رسم لنا هذان الأنموذجان لوحة تشكيلية زاهية الألوان متناهية الأبعاد استدرجتنا رغم رمزيتها للقراءة من دون أن نشعر بأدنى عناء أو ملل وبالتالي فهي صورة قلمية من السهل الممتنع، وحدث متنامٍ وصراع متصاعد وشخوص وزمكانية تقودنا بالنتيجة للإذعان بوجود دلالة واضحة وتأكيد على إبداع كامن في أحشاء كل كلمة نطقت بها.
 0  0  552