أخبار قناة الشمس

×

اضغط هنا إن لم يقم المتصفح بتحويلك آليًا.
المخرج محمد فرحان

قراءة نقدية قصيدة الشباب الشعبية .. بين الانفصام والتجديد .

قصيدة الشباب الشعبية .. بين الانفصام والتجديد ..
قصيدة (الدمعة رب) للشاعر (أدهم عادل) مثلا

د. سعد خليل الجبوري/ كاتب عراقي
saadaljubbory@yahoo.com

image

ان مشهد القصيدة الشعبية والشعر الشعبي في العراق مفعم بالكثير من الالوان . سيما وانها اصبحت تزاحم القصيدة الفصحى لتستحوذ على امزجة الجمهور حتى تلك الفئة التي كانت تعتبرها دعوى شعوبية لاجهاض اللغة العربية ولا شك انها عبرت بكل وضوح وبساطة عن هموم جيل ومعاناة وطن ونقلتها بصورها المختلفة .
وتأتي اهمية القصيدة بشقيها الفصيح والشعبي في العراق بالمرتبة الاولى دوما، مزيحة باقي الالوان او الاجناس الكتابية بل وحتى الابداعية من الفنون . اذا وكما اردد دائما: (( ان في العراق هناك من كل عشرة اشخاص ثمانية يكتبون الشعر بطريقة ما والاثنان الباقيان هما ذائقة لا يستهان بها)).
ويضاف الى عراقة الشعرية او شعرية العراق التوجه الانفجاري الجديد نحو كتابة الشعر الذي يعزى لاسباب القبول الاجتماعي Social acceptance والاستساغة Palatability وسهولة النظم simplicity of Versification. كأنه كرة قدم الادب لو اردنا التشبيه .
ولهذه الحالة ما لها وما عليها من سلبيات وايجابيات .. الا انها وبالمحصلة النهائية ادت الى اتساع قاعدة الهرم الثقافي برغم بعض التحفظات على موقع القاعدة بالنسبة الى سطح الشعر - لتنتج قمة اعلى واكثف على مستوى الفكرة theme والبناء اللغوي Linguistic structure والهيكلي formal structure للقصيدة.
ولعل من ابرز المعوقات التي تقف في درب التطور الشعري لحالات تمر كالسهام وتخترق جسد الشعر ثم تنصرف بسرعة يمكن ان تلخص بالتالي :
1- غياب الريادة والتبعية الانتمائية لتيار سابق . بغض النظر عن القاء اللوم على احد او فئة فان اسباب هذا الغياب تعزى الى الاخفاقات الوطنية التي مرت على الساحة الاجتماعية العراقية ضمن مراحل مختلفة ادت الى تكوين اجيال ثقافية غير مترابطة مع بعضها البعض لا تخلو من حالات نادرة مبدعة وارهاصات رائعة تعزف منفردة.
2- غياب القراءة والاطلاع . برغم تطور الاليات والوسائل والوسائط التي تسهل نقل القصيدة الا ان اغلب قراءات الجيل تأتي بدون هضم. لقصور شديد وحاد في عنصر القراءة المهم، وعليه غياب الادوات التحليلية النقدية ويبقى الاعجاب او الاستهجان المبهم او خاطئ الاسباب - في حال وجود الذائقة الجيدة.
3- اختلاف مقاصد الشعر وغاياته . بسبب الانفتاح الفضائي والاعلامي وكثرة الفعاليات الثقافية التي تقام بدون رقابة ثقافية والتي ادت في غالبيتها الى تحويل المسار الشعري من ابداعي creative الى انفعالي emotional يتأثر باللحظة والموقف ويختفي باختفاء المؤثر، وهنا ينتفي عنصر الوعي لتشكيل دورة الابداع المكونة من العاطفة والوعي.
4- غياب النقد . فمنذ كاظم غيلان لم نشهد سوى محاولات فردية لكتابة نقد علمي رصين للشعر الشعبي العراقي. وهنا يحق للكاتب التباهي بانه كان السمة الابرز للاستمرار في كتابة النقد للشعر الشعبي العراقي وان كان بشحة.
هذه الاسباب ادت الى خلق جيل بدون ريادة ولا قاعدة ثقافية ولا جهة ناقدة او رقابية في زمن متغيراته كثيرة ادت بنا الى الوصول الى قصيدة انفعالية قصيرة النفس والعمر.
وهو ما انجب لنا فنون لم ندركها بعد ولم نضع لها تعاريفا ولم نسمها وما زالت مثار الجدل في تجنيسها الادبي او الابداعي ، مثل : الومضة و القفشة والشطر . وبتنا نخشى في ظل ثقافة (الله عليك ) والتصفيق (الصداقوي) ان نصل لمستوى قصيدة الكلمة الواحدة التي ستحظى بحصتها من (التألل بتفخيم اللامين) ان لم تعالج اشكايات الجيل. لذلك نجد طفو اسماء على الساحة محكومة بالقرب او البعد من الاعلام المتلقف لاي مادة تملأ ساعات بثه. واصبح الادب الشعبي العراقي يقاس بالجميلات اللاتي يدرن البرامج (المستشعرة). وبروز اصوات لها رصيد جرئ ومواظب من (الانصار والمؤيدين). والتسميات والالقاب المختلفة. علما ان المرحوم (محمود البريكان) لم يمنح نفسه صفة الشاعر لايمانه ان الشعر تجربة مستمرة. كما لا يخفى على الجميع دور اليات التواصل الاجتماعي في نشر الشعر وفي انخفاض الشاعرية.
ولنمنح القراء بعض الاساسيات والتعريفات قبل الاسترسال:
القصيدة poem : وهي الوحدة المنفردة المتكاملة بذاتها من الشعر . وفي الشعر العربي وحسب مناهج النقد والتصنيف الادبي القديم اعتبر ما دون سبعة ابيات من الشعر العمودي (نتفة) او (مقطوعة) ولم يطلق عليه تسمية القصيدة.
وحسب المناهج الحديثة كان ما دون العشرة اسطر لا يعد ضمن القصيدة ولا يعتد به كشعر بل كمقولات (quotes ).
ومن مقومات القصيدة الاحتواء على جرس او ايقاع داخلي internal rhythm (باخراج النص النثري والمسمى سهوا بقصيدة النثر من دائرة النقاش) ووحدة موضوع subject unity وشكل بنيوي formal structure وفكري Intellectual form معين. قد ينطبق او لا ينطبق على التجنيس الجديد (الومضة) gleam او glance.
الومضة : دفق خيالي fictional stream بسيط معبر عن فكرة متكاملة ضمن حدود البناء . غير محدد بشكل او بنية بذاتها . سمته القصر.
وهنا تبرز اشكالية قصائد الومضات التي كما يقول ابي (ضيعت المشيتين) فهي لا تنتمى الى جنس القصيدة الواحدة الطويلة ولا الى جنس الومضة التي ينبغي ان تؤدي فكرتها ضمن حدودها البنيوية وحسب . لا ان تلصق باخوات اخريات .
القفشة : شيء ما ... غالبا غير موزون .. يعتمد المفارقة لا اكثر دون الافصاح عن فكرة واضحة او بنية طبيعية تمت باقتراب للقصيدة او القصيدة القصيرة او القصيرة جدا.
الشطر: وهو ..... الله اعلم
ان هذا القصور الابداعي الملحوظ في غالبية المشهد الشعري يرجع للأسباب اعلاه فكيف تطالب عقول لم تحركها القراءات المتعددة والمتنوعة ولا تملك الذخيرة اللغوية الكافية ولا توجهها جهة ريادية ولا تخشى رقيبا او ناقدا ان تقوم بهذا التكثيف او الاختزال البنيوي لاداء معان كبيرة بوضوح وجمالية مما يمكن ان يطلق عليه ابداع.
نقاط مضيئة :
الاسلوبية الشعرية stylistic poetic هي ما يمجد الشاعر ويطبعه في الاذهان وهي التي تمنحه فيما بعد الهوية الشعرية poetic I.D ليؤهل بعد عمر طويل ان يشار اليه كمدرسة شعرية او ظاهرة . ولعل ابرز عناصر الاسلوب هي :
1- البنية structure أو الصياغة اللفظية من حيث استعمال ادواتها من ايجاز او اطناب او سهولة او غرابة او تعقيد او تنافر .
2- الافكار idea/ theme اختيارها وترتيبها وطرحها طرحا منطقيا او مضطربا، واضحا او غامضا. كما ان الافكار تقيم من حيث الصحة والخطأ و الاستقراء او الاستنباط . برغم نسبية الجملة الاخيرة.
3- العاطفة emotion وطريقة طرحها وشروط الدقة والايحاء والفرادة والوضوح .
4- التخيل fiction والتصوير باستخدام الاستعارة او التشبيه او الكنيات المبتكرة او المطروقة.
اعترف اني لست ملما ولا مطلعا على كل ما يكتب الجيل الشاب ، لكن من خلال استقراءاتي البسيطة لمست اسماء حفرت في ذاكرتي اماكنها التي تربعت بها نتيجة الابداع الذي وصلني منهم بطريقة او باخرى، فمن النفس الطويل المترابط الذي ينم عن قراءات لسنين عدة لدى (بلال العطار)، الى اللمسة التي كان للنشأة في بيت شاعر والى امتلاك مقومات الابداع الفطرية لدى (سرمد الماسة) انتقالا الى القدرة على نسج العالم الخاص والمتفرد العصي على التقليد لدى (رائد ابو فتيان) الى القدرة على تطويع المفردة وليّها والشغل على البنية التفكيكية للنص الشعري لدى (عمر القرةغولي) وصولا الى الوعي الشعري الحقيقي القادم من التراكمات القرائية مع القدرة على التشكيل والجرأة التي منحت خصوصية الشاعر واحالتنا الى امجاد القصيدة الواعية الحقيقية لدى (ادهم عادل) .
والنص موضع الاختيار للمناقشة والعرض اليوم هو (الدمعة رب) للشاعر (ادهم عادل):
ان عنوان القصيدة هو الذي فتح ابواب البوح والوجد من خلال الاختيار الذكي الذي تكاملت فيه عناصر الاسلوبية الادبية فبرغم جرأة العنوان الا انه حمل الكثير من المعاني من خلال استخدام مفردة الدمعة ليصبغ القصيدة بجو من الحنين الذي يتفرع منه الحزن والفرح والشوق والخشوع . وكأنه ارادها مفتتحا ودلالة على القلب فبقدر غزارة الدمعة ونقاوتها يكون القلب كبيرا وطاهرا.

الدمعه رب لكل فقير

الرب هو الملاذ والملتجأ والرب من الربوبة لا الربوبية ولذلك هي موئل الفقير - لا الفقر المادي وحسب لكن المعنوي والعاطفي والانساني ايضا -.

واليموت بلايه بيت ما يشرفه تشيعه جفوف الامير

مباشرة يحسد عليها الشاعر طرحت فكرته الاولى والاوضح . وهو الصراع الازلي بين بني البشر منذ هبوطنا من الجنة (دائمة الموارد) الى الارض (محدودة الموارد) لنبدأ السعي الحثيث نحو الخطيئة الثالثة من الخطايا المميتة .

ابد ما سميه رسول الما ينام اعلى الرصيف
ابد ما سميه امام الما يموت اعلى الرغيف

وهنا يخرج بنا الشاعر عن النطاق المألوف، هو لم يهاجم الرسل ولا الائمة لكن هاجم الانظمة السلطوية التي اغتصبت حق النطق باسمهم لا لتحقيق الطوباوية التي جاءوا ها بل لتنزاح الى المصالح والمكتسبات الشخصية .

العمامه النامت بفي المكاتب والمظلل هاي من ملة يزيد

الملة التي تدوس على كل شي لتحظى بحصتها من السلطة، فيزيد وباجماع المذاهب الاسلامية كان يمثل تيار الاستحواذ على السلطات وقمع الانتفاضات على طول الطريق. من هذه النقطة وخشية ان لا يتهم بالمهاجمة والاستهداف لرموز انتزعت منها روحها وبقيت هيمنة من يدعون تمثيلها ، يلتف الشاعر على النص لينزل الى الشارع يمارس (صعلكته) المعتادة ليرى :

المخبل

الذي يحبه لانه

صاحب اكبر ثوره في هاي الحياة
ضد ملايين الطغاة
من يمر يمه وزير بقاط يلمع يشكك هدومه
احتجاج ونصره لدموع الفقير اليبدي من الضيم يومه

التلاعب بالبنية والانسحاب الى قافية ثانية كان رائعا جدا هنا وتدريجيا بطريقة لا تؤذي الجرس ولا تسئ الى المحتوى مع الاحتفاظ بروح الفكرة والقضية المطروحة في القصيدة. ليلفت نظرنا الى التفكك الاجتماعي الذي سببه الواقع الذي يعانيه بلد ما ان يحاول التعافي حتى يمر بنازلة اخرى.

البنيه العره ضيم الله جسدهه وفرشت العذريه عل الشارع جريده

كسلعة عز مشتروها وازدروها برغم قيمتها العليا .. العذرية كالجريدة ..

هاي اشرف من دساتير الحكومه
وهذا اني بيه الاف اليتامه الجوه صدري تصرخ بكل لحظه بيكم كافي موت
كافي موت
وابد متسكتون صوتي

هنا تصعد الحبكة الى اعلى مستوياتها ويتدخل الوضوح على حساب التغريب لترسيخ الفكرة ويعلن (انويته) المتحدة مع عناصر الوطن ( الشجرة والشمس والكمره والريح والطفلة والموت العنصر الاثقل وطأة- )، ليثبت بسلاسة توحده والوطن ، بكل اماكنه وازمنته. فهو حي خالد متوحد ذاك الوطن/ادهم

واني ميت منذ الاف السنين

سودواوية قد تحسب على سياق النص التفائلي الملئ بلغة التحدي والمكابرة. مع العلم ان الحضارة العالمية الوحيدة التي استمرت من قبل فيضان (نوح) هي الحضارة العراقية بشقيها السومري / قبل الطوفان والاشوري / بعد الطوفان. وان كان قد حاول التعويض عنها بالتفاؤلية من خلال فكرة النهوض مجددا.

لكن اليعشك بغيره بكل شرف ذيج الصرايف يخرمش وجوه المكابر لو عصف بيه الحنين
وهذا اني اشك كبري واطلع اركض
الم دمعي من الشوارع
والم عمري الضيعته جفوف المواضع
وارد جفي العفته وي جف المجادي بكل تقاطع

تصوير جميل. ليؤكد : انا الوطن الذي

ارجع بهيئة انسان وامشي لدروب الحبيبه بكل خجل وبكل تواضع

لابد من العودة الى الحبيبة وثيمة الرومانسية لتخفيف حدة التوتر والضغط النفسي الذي اجتاح المتلقي . ليتركه بهدوء راسما على وجهه ابتسامة وفي باله تحديات وامال .
لا يمكن تحديد اسلوب الشاعر بدقة من خلال نص واحد لكن هناك سمات عامة ومميزة تزج نفسها بوضوح لتعرف عن صاحبها.
منها على سبيل المثال لا الحصر: الشفافية Transparency والقصصية التصاعدية narrative progression التي تنقل المتلقي الى عوالم متعددة كمن يرى مشهدا والواقعية realism والوضوح clearanceبالاضافة الى تماسك البنية The cohesion of the structure وجزالتها richness .
 0  0  1288