أخبار قناة الشمس

×

اضغط هنا إن لم يقم المتصفح بتحويلك آليًا.
المخرج محمد فرحان

الكاتب أحمــد منصور .. لـــوحة تجريدية

[SIZE=5][B]image
]لوحة تجريدية .

غريبٌ هذا الرجل ، الذي تدحرج عمره ، فوصل الثمانين . دائمًا يسبل للبحر واضعًا يد ذكرياته اليمنى على خد التأمل و العظمة . لا شىء يحتل صخرته الشاهقة التي يجلس عليها طوال يومه بعيدًا عن عيون الناس ، و التي تحتل أطراف الساحل لمدينته ، سوى الأيام التي تركض صيفًا و شتاءً و هو على حاله . ما هذه الفتوة ؟! لماذا لم ينحت البحر صبره ؟! أهو شاعر ، كاتب . عاشق ؟ لم أرهُ يوما يمسكُ بيده قلمًا أو كرّاسًا . إذا اقتربتُ تركَ المكان قبل أن إلقاء التحية ، و كأنه يقول أريدُ المكوث وحدي تراقص الفضول على أوتار روحي؛ فرغبتُ في الجلوس مكانه وقت غيابه . كنتُ أشعر بحرارة بيض أفكارهِ و أنا أرقد على حيرتي . سيقتُلني فضولي ، ليتني أستطيع أن أقبل قدميهِ ، حتى تفيض علىَّ مبرراته من نهر عمره الطويل . لكن هيهات . لا حدود لديه للبشر . راقبته دون أن يشعر . يذهب لمكتب البريد باليوم العاشر من كل شهر يستلم معاشه . يخرج منه لمحل بيع أغذية ، الذي يكلف أحد عامليه بتزويد الرجل بكل ما يريد ، يبدو أنه كان يشغل وظيفه عليا . كل من يتحدث إليه لا يناديه سوى سيادة الباشا من هنا نفضَ الخوف من فوق كتفي فضولي ؛ فتهشم . كما تهشمَت بيضات أفكاري التي فسدت أمام برودة ضعفي . فأنا طول عمري وأنا أسير داخل حائط السلامة ، لا أحبُ السياسة و لا السياسين . ابتعدتُ قصدا عن صخرته لعامين ، بعدها نسيت الأمر ، لم أتذكره ألا عندما أصبحنا أنا و هو وجهًا لوجه أمام الصخرة ، كنتُ أسير برفقة صديق حميم . ألقينا عليه التحية ؛ فردها مبتسمًا ، و هو يقترب منا مصافحًا لي : واحشني يا ناداني باسمي ؟ غادر كما عادته ... يبدو أن الصدمة قد نحتت ملامحي و أدراكي ، و جرف دوران الدهشة البحر لداخلي ؛ فصار اِعصار الرعب يحطمُ قلوع جسدي . لم أدرِ بنفسي إلا و أمواج العرق تغطي سريري ، و إلى جواري صديقي و معه شيخ يرتل بعض آيات القرآن . كان احساسي بأن القدر يخبىء لي الكثير قويًا . لم تمض سوى شهور و اِلتفت أصابع الاتهام حول عنق حاضري . أشكال غريبة من ألوان العذاب و كأني لوحة تجريدية رسمها كفيف و علقت بأكبر المعارض العالمية ، المطلوب مني فكُ طلاسمها . اعترفتُ بكل الذنوب التي يتخيل الشيطان فعلها . كنتُ ابحثُ عن الموتِ بكل مرة تتوقف فيها الكهرباء عن إنارة عقلي . تبلد احساسي بكل ما حولي . فقدتُ أدوات الزمن و المكان ، حتى سوءتي لم أعد أشعر أنها مكشوفة ، لا أرى مسجونًا سواي . عندما حضر ضابط التحقيق الذي كان يبدو عليه أنه يراقبني عبر كاميرات . فهمت أن الرجل قتل . و أنه كان شخصية مرموقة للغاية بأحد الجهات السيادية . بدأ معي من جريمتي الأولي . سبب مراقبتي للرجل . أضحكته كثيرا تفاهتي و أنا أروي حكاية فضولي ، و زادت ضحكاته عندما بدأتُ أمثل جريمتي الثانية ، بأنني طعنته فوق الصخرة بسكين مطبخ كي أسرقه . كل ما يحيرُ الضابط أنه لا يوجد متهم غيري . كان نقير قلمه على المكتب أثناء التحقيق معي ؛ كأنه صوت مقصلة الاعدام تهرول من تحت قدماي ، و عبارته المتكرره بكل مرة تعطي بصيص أمل من قاع محيط حب الحياة : أما أن تكون تافها و أما أن تكون مدربا على درجة لا مثيل لها . وصلت إلى مكانة الشاةِ التي ذبحت و لا يعنيها مهارة من يسلخها . غربت أيام لا أدري أهي كثيرة أم قليلة ، بعدها سمعتُ صوت صراخٍ و عويلٍ ليس لشخص واحد ، بل لأثنين أو ثلاثة كنتُ أميز ذلك من أصواتهم . طالت علىَّ جرعة العذاب ؛ فأنا لم أتذوقها منذ ساعات . لا ... أعتقد أنها أيام ، و طال الأمر ليصل شهورا . بعدها عصبت عيناي كما كل مرة ، و سمعت نقير القلم يزغرد بضحكات الضابط ، و هو يقول للمرةِ الأخيرة : كيف قتلته ؟ أحسستُ بالأمان فقلت : لم أفعل ؟ قال لكنكَ معترف و محكوم عليكَ بالأعدام يا تافه . ابتلعت ريقي و هو يكمل قائلا : لقد مات بطلق ناري من قناص محترف عن مسافة لا تقل عن ألف متر . سأهديكَ نسخة من السيرة الذاتية للرجل مكتوبة بخط يده ،و الغريب أنه ذكركَ فيها بالاسم آخر صفحاتها ، بعدما وصل له تقرير ضابط الحراسة المسؤول عن تأمينه ،و بمجرد اِنهاء كلامه غبتُ عن الوعي . وجدتني ملقى فوق الصخرة ، نزعت عصابة عيناي ، و إذ بالشمس تنفض بقايا الظلام ، و فوق صدري أوراق الرجل تحاكي فضولي .
[/COLOR]

]
 0  0  838