قراءة نقدية بقلم: الناقد مختار أمين في قصيدة (هباء) للشاعرة: سعاد العتابي
سعاد العتابي
هبـاء
يحدث أن
أذهب هناك..
وأنسى ملامحي هنا
أتوه بين الوجوه
تتركني الذكريات.. ظلّا متحجرا
تأخذه معاول السنين
تكوّنه مزارا للغابرين
لاصوت للريح
والبحر يشكو الملح
تجافي النوارس شواطئها
فالغيم يدمع مزنا من سجيل
تتخلى المواسم عن الفصول
فيتدثر الربيع بأوراق الخريف
ويذوب الصقيع بأحضان الصّيف
يحدث أن هناك
أبكي.. وأبكي
فلا يواسيني غير صدى..
تحجّر على جدران منسية
أمدّ سيري..
تتشقق الأرض..
مابين شهقة وزفرة..
أموت ألف موت وموت..
ينفض التاريخ أوراقه
فيأتي من يجمع شتاتي؛ فتأخذه الرجفة
تتركه الذكريات.. ظلّا متحجرا
يقصّ حكايا الغابرين
وهو يبكي.. ويبكي
القراءة
للإبداع ألف صورة وصورة، ومحرابك الذي أدمنت المكوث فيه لساعات ـ كلما لحقني لهيب شمس الخواء والعار الفكري، وطاردتني رياح الخماسين مصرة على تعريتي ـ أجدني ألجأ إليه لأتنسّم بنسيم شفافية لوحاته ورمزية نقوش شعرك على جدرانه، وبلاغة الأدب وروعته، وأطوف بين أروقته لأتسمّع تراتيل دين جديد في اللغة تنساب صوره الشعرية المبتكرة إلى روحي تغسلها من رجس قبيح القول، وكفر الآذان وصممها من كل مسموع يحط من سمو الأرواح، وكلمات الأقلام المدنسة المنحطة كخمر التيه وطمس العقول المستنيرة...
عندما قرأت قصيدتك "في اللا مكان" ظننت أنها فلتة لشاعر يتحسس خطاه، وأجدني بلا وعي أكتب عنها ومعايشا لكل حرف فيها وكلمة ومقصد؛ فبهرت من الصور البلاغية الرمزية المبتكرة، وعندما جاءني ديوانك الأول "تراتيل قمر" لأطبعه في دار المختار، وتناولته بالقراءة المبدئية لأقوم بما إلتزمت به في الإعلان المخصص للدار بعمل دراسة نقدية لكل كتاب يأتي عن طريق هذا الإعلان، وكان ديوانك وكانت قصائدك للمرة الثانية، وفي لذّة ودهشة أجدني أكتب دراسة نقدية من أربعين صفحة، وكانت كل قصيدة أكتب عنها في شغف وحنين وكأني أكتب عن أجمل قصيدة في الديوان لأنتقل للتي تليها فأجدها أجمل وأوعر، وبحق شعرت بعجز كناقد أمام مبدع، كأنه يستفز علمي وملكاتي لمحاولة السير بجوار قصائدك المبدعة لأنتج إبداعا موازيا، وكأنها مباراة بيننا انتهت لصالحك كمبدعة ومعلمة وشاعرة وناقدة حياة ووجود وفلسفة ورؤية..
وفي قصيدة "هبـــاء" خشية من الهزيمة سأحاول اللعب كلاعب من ضمن فريقها لأحظى بلعبة حلوة أمام المرمى لأحرز هدفا ينشي المتلقي المتابع في شغف..
"هبــاء" لم يكن عنوانا لمدخل محراب قصيدتك، ولكنه باب نجاة بعد جلسة هادية شافية لمهدي منتظر في الأدب والشعر في صومعته ومحرابه في اللا مكان واللا زمان يلجأ إليه الغابرين والتائهين عن البغية والمقصد، وهباء ما نعيشه ونتوهّمه..
عن أيّ هباء كانت تحدثنا الشاعرة؟
وأيّ خبرة وميراث حياة ولسان تفسر به هباءها وهباءنا؟
في مطلع قصيدتها تقول: "يحدث أن ـ أذهب هناك.. وأنسى ملامحي هنا" "يحدث أن" أسلوب اخباري يفيد مقصد الفحو ومبتغى الكلام، فأول الأمر لابد أن نبيّن أن الشاعرة لها أسلوبها المميز وفلسفتها ورمزيتها اللتان يخرجان عن كل مألوف وموروث في ترتيب الكلام وجمله وعباراته لنكتشف جماليات اللغة وبلاغتها، فعندما تقدم وتؤخر في المبني من الجمل والمقاطع لم تنحُ إلى الاستعراضية وملء الحناجر بالتفخيم، ولكنها تدلل بالمثل من قولها في دروس علم البيان من البلاغة، فنراها أخّرت هنا وقدمت هناك لتدلل على بيان المقصد والغرض من التوهان والتغرّب والشوق للبعيد الكائن هناك، وكل هناك تدركه الحواس وتود البلوغ إليه ولم تنله "يحدث أن ـ أذهب هناك.. وأنسى ملامحي هنا" الطبيعي أن تقول: " أنسى ملامحي هنا وأذهب إلى هناك" لوضوح الحال أنها بالفعل هنا، ولكن أفاد التأخير والتقديم للكشف عن نفسية الراوي أنه يهفو إلى هناك المرجو المستحيل الذي هو هباء أن يحدث، وكشف عن مدى التفتت والدمار والضياع في هنا أو وما يحدث هنا، الهُنا الكلي الذي يحدث لنا جميعا، وأفاد الجمالية السريعة في الوصف العميق الفلسفي الرمزي، كما أنها أوضحت أن الترك والرحيل يحدث للملامح "وأنسى ملامحي هنا" والرحيل عن الملامح لأنها تتكسّر وتموت رويدا كالزرع العطش، ودلّ في معيار آخر عن التغريب الذي يحدث للذات التي تدل عليها الملامح، وفي آخر: الذهاب بالروح أو ما تبقى منها قبل أن يحاصرها الفناء، وفي هذا المقطع أيضا حذف وإزاحة وتقديم وتأخير، دل على ذلك فعل الاستمرار في المضارع "أذهب" الذهاب فعل يصوّر صورة المشي والسير، ويفيد الانتقال من مكان إلى مكان يعني بالشكل اليسير تقول: "أذهب أنا هناك" أو "أذهب إلى هناك" فدعونا نشاهد للاستدلال على قولي في الحذف والإزاحة والتقديم والتأخير بالمقارنة بين الثلاث جمل، الأولى اختارتها الشاعرة: "أذهب هناك" جاءت في تنكير معنوي وما أصابها من هذا التنكير نتيجة لحذف وإزاحة دلت على تأخير، وبما أنه هناك إزاحة وتأخير إذن هناك تقديم حتى ولو ضمني لغائب مستتر، فنجدها لم تقل الجملة الثانية: "أذهب أنا هناك" فحذفت "أنا" المعنية في الفعل ودلّ عليها المتكلّم لأنها إن قالتها تعنيها بكل مضامينها، وهي هنا لا تريد أن تعني أناها الكلي لأن الأنا الكلي لديها هو فحو المشكلة ومقصد البوح والقصيدة، الأنا غير كامل.. هناك إشكالية فيه، وهي لا تعني الشمول فيه أبدا لأن الأنا مقسّم إلى ملامح تنهار وتعبّر عن التيه والتشريد والتغرّب، وهي رافضة الكل بأنا بحواسها وملكاتها وإدراكها وحسّها وروحها وكمادة، فجاء حذف الفاعل لمفهوم وإيصال معنى ندركه عندما تنتهي من تركيب عبارتها وبنائها بناء خاص، وقدمت المأمول المرجو المكان "هناك" عن ما أزاحته وأرجأته من جملة كاملة كانت تسبق هذه الجملة وتتقدمها: "يحدث أن.. أنسى ملامحي هنا وأذهب إلى هناك" والجملة الثالثة من التلوين في البناء: "أذهب إلى هناك" فحذف "إلى" لطمس المسافة التي تدل على البعد أو لقرب الهناك التي تقصده.....