×

اضغط هنا إن لم يقم المتصفح بتحويلك آليًا.

وقفة مع باهرة عبد اللطيف في العربي الجديد

وقفة مع باهرة عبد اللطيف  في العربي الجديد
 تقف هذه الزاوية مع شخصية ثقافية عربية في أسئلة سريعة حول انشغالاتها الإبداعية. "هاجسي كان وما زال الشعور بمسؤولية الكتابة، والحرص على عدم إضاعة وقت القارئ وجهده، وهذه مهمّة أخلاقية"، تقول الكاتبة العراقية في حديثها إلى "العربي الجديد".


■ ما الذي يشغلكِ هذه الأيام؟
أنا مشغولة على الدوام بعملي الجامعي في التدريس ومتابعة شؤون الطلبة، وأواصل كتابة البحوث والشعر والمقالة، إلى جانب عملي في الترجمة الفورية، وترجمة الأعمال الأدبية من الإسبانية وإليها. كما أنّي أحرص على تقديم المحاضرات بالعربية والإسبانية في موضوعات تخصُّ الثقافة العربية والأدبين الإسباني واللاتيني. كما أني أنشط في مجال حقوق النساء وأكتب فيه أيضاً، وهذا هو دأبي منذ ثلاثين عاماً.



■ ما هو آخر عمل صدر لكِ وما هو عملكِ القادم؟
صدر لي في العام الفائت كتابان مترجمان من الإسبانية إلى العربية: رواية موريسكية حديثة بعنوان "سماء متشظّية" للروائي فرناندو باريخون، و"رحلة عمر بطون، من آبله إلى مكة 1491 - 1495"، وهو ترجمة عربية لمخطوطٍ موريسكي مكتوب بلغة الألخميادو (أي العجمية أو الأعجمية)، مع دراسة قام بها مجموعة من الباحثين الإسبان. ولغة الألخميادو تعني اللغات الرومانسية كالإسبانية والبرتغالية وغيرها المكتوبة بالحروف العربية، وقد ظهرت في الأندلس أثناء العصور الوسطى، ثم لجأ إليها بعد ذلك المُسلمون الذين دعُوا بـ"المُدجّنين" في المناطق الخاضعة للحكم المسيحي، تحديداً في مملكتَي قشتالة وأراغون، في الفترة ما بين القرن الرابع عشر والقرن السادس عشر.

يتغيّر العالم بوقفِ المذبحة في فلسطين منذ سبعين عاماً

أما عن عملي القادم فلدي أكثر من مشروع، إلّا أنني حالياً أُعدُّ لإصدار ديوان شعري جديد محورُه المرأة، فقد شغلتني منذ عمر مبكّر قضية النساء وحقوقهنّ ومعاناتهن في معظم المجتمعات ومنها العربية. وقد عملت وكتبت وحاضرت كثيراً في العقود الثلاثة الأخيرة في هذا المجال. ونشرتُ دراساتٍ وكتباً باللغة الإسبانية حول أوضاع النساء العربيات والمُسلمات في الغرب، وتوجّه اهتمامي منذ أعوام نحو علاقة المرأة بالرجل، خاصة في شرقنا العزيز، هذه العلاقة المحكومة بهيمنة طرف على آخر. إذ نادراً ما نشهد علاقات متوازنة بين الرجال والنساء، وذلك لأسباب اجتماعية تتعلّق بالعادات والأعراف أكثر ممّا هي بفعل سلطة الدين -كما قد يُخيّل لكثيرين- فهي نتاج مباشر لعقلية ذكورية متحكّمة في مجتمعاتنا العربية.


■ هل أimage

نتِ راضية عن إنتاجك ولماذا؟
من الصعب على الكاتب، أو المُبدع عموماً في أي حقل من حقول الإبداع، أن يشعرَ بالرضا عن مُنجزه، بل أكاد أقول إن عدم الرضا هذا هو الضمانة للإبقاء على جذوة الحماس لمواصلة العمل وبلوغ الأفضل. ثمّة صوتٌ في داخلي يذكّرني على الدوام بعامل الزمن، فقد بتُّ أشعر بأن عملي في مجال التدريس الجامعي، والترجمة الفورية والتحريرية، كان على حساب الجانب الإبداعي لدي. ولعلّ هذا كان بتواطؤ مني، فأنا من النوع الذي يتردّد كثيراً قبل النشر، برغم وجود عدد من المخطوطات شعراً ونثراً وترجمة في حاسوبي. فقد كان هاجسي وما زال هو الشعور بمسؤولية الكتابة، والحرص على عدم إضاعة وقت القارئ الثمين وجهده، وهي مهمّة أخلاقية أحرص عليها ولا أتهاون فيها. إذ لا بدّ لأي كاتب أن يسأل نفسه مراراً قبل النشر، ما الذي سيجنيه القارئ من كتابتي: المتعة، الفائدة، السلوى، الرفقة الجميلة، الارتقاء بفكره، الدهشة... إلخ؟ فهذه جميعاً أسباب تبرِّر فعل الكتابة، وتسوّغ إلى حدٍّ ما جريمة قطْع الأشجار في العالم، والإساءة للطبيعة لتوفير ورق الطباعة.


■ لو قيض لكِ البدء من جديد، أي مسار كنت ستختارين؟
ربّما كنتُ سأختار دراسة الموسيقى أو السينما، فأنا أعشقُ الغناء والموسيقى، وقد حاولتُ في صباي أن أتعلّم أكثر من آلة موسيقية، وآخرها كانت آلة العود الشرقي. فالموسيقى كانت وما زالت خلفية حياتي، والغناء نعمة في أوقات البهجة، وعزاء كبير في لحظات الحزن والوحشة.

عملي في التدريس الجامعي كان على حساب الجانب الإبداعي

كنت أحلم، أيضاً، بدراسة الآثار، ربما لأني من أرض الرافدين التي شهدت أقدم حضارات الإنسانية. أذكر في صغري عندما كانوا يأخذوننا في رحلات مدرسية إلى مدينة بابل الأثرية، كنت أتجوّل في شارع الموكب، بحثاً عن ختم أسطواني بابلي أو أي حجر يُلهم خيالي الطفولي. ثم رافقني هذا الهاجس عندما كبرت، لذا كنتُ أقضي ساعات الفراغ ما بين محاضراتي في الجامعة، طالبة ثم أستاذة، بزيارة "المتحف العراقي" وأمضي ساعات جالسة في "القاعة الآشورية" أتأمّل منحوتاتها المهيبة. ثم باتت زيارة المتاحف عادة متأصلة فيّ حيثما ذهبتُ، لوَلعٍ كبير استبدّ بي، بتاريخنا القديم، وتاريخ الشعوب الأُخرى.


■ ما التغيير الذي تنتظرينه أو تريدينه في العالم؟
منذ سنوات طويلة، وأنا أحلم بمعجزة تعيد لبلدي العراق الأمان والعافية والهوية الوطنية العراقية والعربية، التي تشظّت بفعل الاحتلال الأنكلو - أميركي. فالعراق دُمّر تدميراً منظّماً على مرأى ومسمع العالمين الغربي والعربي أيضاً، من خلال احتلال أميركي لم ينته بعد، قادَ إلى احتلالٍ آخر لا يقلُّ سوءاً عنه، هو الاحتلال الإيراني الذي جعل من العراق، البلد العربي العريق، باحة خلفية له، لنشر أفكاره الطائفية وتمويل مليشياته واستنزاف اقتصادِه، عبر منظومة سياسية رثّة نخرها الفساد والمحاصصة الطائفية والعِرقية.

أما أمنياتي للعالم فأنا أحلم بمعجزة أُخرى، تُنهي الظلم والاستبداد والفقر والمجاعة، وقوى الهيمنة المتسلّطة على مقدّرات شعوب كثيرة، وأوّلها الشعب الفلسطيني الذي يعاني، منذ أكثر من سبعين عاماً، شتّى أنواع الظُّلم وانتهاكات حقوق الإنسان على يدِ الصهاينة الغاصبين، والعالم يتفرّج ببلادة وازدواجية معايير. وتبقى قضية السلام في العالم أولوية لا غنًى عنها، وكذلك التعامُل بروحٍ أقلّ نفعية وضراوة على مستوى العلاقات الدولية، واحترامِ المعايير الإنسانية وعدم اعتمادِ مبدأ ازدواجية المعايير الذي بات سمة زمننا الظالم هذا.


■ شخصية من الماضي تودّين لقاءها، ولماذا هي بالذات؟
الشخصيات كثيرة لا يسعني أن أحصيها من نساء ورجال أثّروا في حياتي وأغنَوها. أمّا على مستوى الأدب والفكر فالقائمة طويلة، ولا أملك أن أشير إلى إحداها وأغفل الأُخرى. لكنّ لقاءً مُفترضاً مع بورخيس حتماً سيكون مدعاة سعادة روحية هائلة لي، فأنا مشبعة بأفكاره وأعماله حتى أني أحاوره في منامي من حين لآخر.

لكن لو قُدّر لي فعلاً هذا اللقاء فلن أتردّد لحظة في القول بأني سأفضل لقاء أمّي، إذ ما من شخص في الكون يعدُل الأمّ في حياة أي منّا، واليُتم الحقيقي في الحياة هو غيابها. أنا أشعر بغصّة رحيلها على الدوام، لأني أمضيت الخمسة عشر عاماً الأخيرة من حياتي بعيدة عنها في الغربة.


■ صديق/ة يخطر على بالك أو كتاب تعودين إليه دائماً؟
الصديقات والأصدقاء الذين نشتاق إليهم كثُر، والراحلون منهم خلّفوا غصة مقيمة في القلب، وعبقاً يضوع في أرجاء الروح. أما الكتب التي أعود إليها فهي كثيرة ومتنوعة، ولا يُمكن حصرها في هذه الوقفة السريعة. نعم ثمة كتُب تمنحنا صحبة حقيقية نحتاج إلى العودة إليها من حين لآخر، وهذا ما كنت أفعله في مقتبل العُمر. لكن للأسف مع كثرة الالتزامات العملية، وتدفّق المعلومات والإصدارات التي أُلاحقها في شتّى المجالات، بات من الصعب العودة لقراءات حميمة سابقة.


■ ماذا تقرئين الآن؟
اعتدتُ القراءة في كتُب عدّة في آنٍ واحد معاً، في مجملها دراساتٌ وبحوثٌ لأني لم أعُد أملك الجَلَد لقراءة رواية من مئات الصفحات. فمن الطبيعي أننا كلّما تقدّم بنا العمر أصبحنا أكثر تشدّداً وانتقائية في خياراتنا للقراءة، كما أني بتُّ أقرأ بحثاً عن المعلومة لا لتزجية الوقت. من هنا فأنا أقرأ النصوص الإبداعية المنتقاة بعناية، وأحرص على مواكبة التطوّر الحاصل في المجالات الأدبية والفكرية التي أحبّها.


■ ماذا تسمعين الآن وهل تقترحين علينا تجربة غنائية أو موسيقية يمكننا أن نشاركك سماعها؟
أسمع موسيقى من شتى الثقافات، وأحتفظ في منزلي بمختلف أنواع الموسيقى العالمية، لكن الموسيقى الإسبانية، إلى جانب العربية طبعاً، لها مكانة خاصة في نفسي. على أية حال كنتُ وما زلت عاشقة للموسيقى والغناء، حتى أن أهلي وأصدقائي يعرفون أنّ لي حافظة تختزن ضروب الغناء، لذا تجدني أنتقل من مقطع لأم كلثوم وعبد الوهاب إلى مقطع ريفي من أقصى جنوب العراق بانسجام وطرب، لي أذنٌ تتذوّق الموسيقى والغناء بكلّ تنويعاته. لذا، أُهدي الصديقات والأصدقاء القرّاء هذه الأغنية الإسبانية، لمغنية أحبُّ صوتها وإحساسها العميق، اسمها باستورا سولير.


بطاقة
كاتبة ومترجمة وأكاديمية عراقية، من مواليد بغداد عام 1957، وتقيم في إسبانيا. لها في الترجمة عن الإسبانية أكثر من عشرين كتاباً، منها: "سماء متشظّية" لفرناندو بارّيخون (الغلاف)، و"رحلة عمر بطون من آبله إلى مكة: 1491 - 1495"، صدرا هذا العام، و"تأملات حول قرطبة في القرن الحادي والعشرين" لإدواردو بوسكيتس (2006)، و"كتالوج ذخائر المؤلّفات القديمة بالحروف الطباعية العربية في المكتبة الإسلامية بمدريد" (2016)، و"الغابة الضائعة" مذكرات الشاعر رافائيل ألبرتي (1993). كما لها في الشعر، أيضاً، مجموعات، مثل: "حرب تتعرّى أمام نافذتي" (2019)، "لي منزل هناك" (2021)، "تأملات بوذية على رصيف الموت" (2001). كذلك قدّمت عشرات الأوراق البحثية والمحاضرات عن الثقافتين العربية والإسلامية في الجامعات والهيئات العِلمية والثقافية الإسبانية والعربية، خلال أكثر من خمسة وعشرين عاماً من مسيرتها.