في نصوص مسابقة رؤية نقدية صورة تنطق وقلم يحكي محمد خالدي --مسؤولة المسابقه مريم الحسن
مسؤولة المسابقه مريم الحسن
دراسة
في نصوص مسابقة رؤية نقدية
صورة تنطق وقلم يحكي
محمد خالدي
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة:
القصة القصيرة جداً كسائر الأنماط الأدبية خاصة السردية منها ، تتخذ من الصورة منبع إلهام لنسج احداثها ، ولا تميز بين الصور سواء كانت منبثقة من المجتمع أو الموروث الديني أوالثقافي أو حتى الاسطوري ، فما يهمها و يهم كاتبها من خلالها ، نقل الثيمة ومناقشتها بفنية وحنكة، مستعيناً بالمتخيل السردي ، الذي يختلف من مجال معرفي إلى آخر ( سياسة - دين -علوم - ..... ) ، إضافة إلى كون هذا المتخيل قد يكون جماعي أو فردي ، ما يجعل نطاق الابداع أرحب عند السارد وذلك لغنى مخيلته .
1- الصورة و الإسقاط الدلالي :
ثنائية الصورة و القصة القصيرة جداً .، لطالما خلقت جدلا واسعا بين المبدعين والنقاد على حد السواء ، باعتبار أن القصة القصيرة جداً تأتي محاكية لما تحمله الصور و المشاهد بجمالية و فنية تفتح مجال نقاش الدلالة والرهان ، فالصورة في بعدها البصري تجسد مشهدا قد يكون مألوفاً ( واقعي ) أو غير مألوف ( تخيلي ) ، تعالج من خلاله موضوعا واحدا بشكل صريح ، إلا أن عنان الخيال الذي يطلقه المبدع من خلال اسقاطات ايحائية يجد نفسه حينها أمام مشروع ولادة قصص قصيرة جداً تنبثق من ذات رمزية الصورة ، رمزية قد تكون مباشرة أو غير مباشرة حسب الصياغة و الأليات الفنية المعتمدة ، فإن أسقط المشهد إسقاطاً وصفياً في القصة القصيرة جداً كان مباشراً ، وإن تم التملص من الاطار الوصفي للصورة ، منكبين على نقل الرمزية الدلالية تحقق النمط الغير مباشر ، وهنا أجد نفسي أمام ضرورة نقل وجهة نظر الأخ العزيز الاستاذ الميلودي الوريدي إذ قال :
"أيها السادة لا تدعوا الصورة تحجب خيالكم..فهي فقط صورة جامدة ...اهتموا بما أغفلته عدسة المصور...خالفوا مألوفها إلى غريبها ...وشخوصها إلى نقائضهم ...وإطارها الضيق والمحدود زمنيا ,إلى فضاء مرجعياتكم الرحبة ...وترجموا كل هذا بألفاظ بليغة ...ولا بأس إن ضاق النص الظاهر ورحب الفضاء الدلالي ......واعلموا أنكم إن فعلتم كل هذا ستحصلون قطعا على نصوص غاية في الجمال والدلال ....تروق كل الأطياف والأجناس والأفراد ..."
صورة و قصص قصيرة جداً 2-
حكاياتنا العريية
الغائز الاول
عرائس // عزة هوارى
رنا لأُذني نداء القبطان ،أن غادروا السفينة، لحين إصلاحها، هممت بخطى متسارعة، لم انتبه لأحد ، تجولت في المكان ذي المبانى العريقة، تملكنى الفضول، فإذا بزقاق يحوم بثناياه الصمت ، ويأكله السكون، بيوتٍ تتخلل الصخر بشموخ ، وجوار حِسان، عيونهن الموج بزرقته، وشعورهن كُثب الرمال، يلتحفن العفاف، وتغشاهن السكينة، عرائس بكل بابٍ يتكئن، وكأنهن القطار، تملقتُهن حتى وطئت قدمي السفينة، انتبهت من غفوتى، لأتعجب من حلمي !.
هو من النصوص المخاتلة التي و أنت تقرأها تجبرك على الانسياق خلفها و أنت تعتقد أنك ممسك بمفاتيحها متمكن من إدراك رهاناتها لكنك على مشارف النص تباغتك قفلة تعيدك إلى نقطة الصفر
القاصة عزة هوارى في نصها " عرائس " إعتمدت على تقنية الاستدراج السردي في القصة القصيرة جداً ، وهي إحدى الأنماط الأسلوبية في كتابة الققج حيث يكون فيها العنوان مرتبطا بشكل مباشر مع متن يصب في إغراء القارئ بشكل تدريجي ومنتظم ، السارد في قصتنا هذه راح ينير المشهد بعناية دون أن يحرقه ، من خلال إسترسال يحفز القارئ على المتابعة مستثيرا ذائقته مشوقاً إياه إلى النهاية ، وغلب على هذه الحياكة إعتماد اللغة السهلة والوصف الدقيق و التشبيهات الدقيقة، بمزج جمالية الجسد و جمالية الطبيعة مزجاً تناغميا بديعاً ، وحيث يكون القارئ على اعتاب النهاية ، يتفاجأ بالقفلة الصادمة المباغتة ، موضحا السارد بان ما سبق لايعدو أن يكون حلما له ، وبالرغم من أن البعض قد يرى في ذلك قطعاً لخيط سرد الأحداث ، دون الخروج من النفق المبهم برهان واحد ، إلا أن لفظة " حلمي " وطبيعة حلمه الجميل تشير بالإبهام إلى أن مايعيشه بطلنا نقيض ما تم سرده وما تعجبه إلا نتيجة حتمية للتناقض بين واقعه وحلمه، في المتن وصف للمكان بالسكون والعراقة وللجسد الأنثوي بالعفة و الجمال و السكينة ، لذا يمكننا الجزم أن واقع بطلنا ماهو إلا مكان يعمه الصخب و نساء تفتقدن للجمال والعفة ( قد يكون المقصود هنا بالجمال جمال الروح أو الجمال الطبيعي دون مساحيق )، وبين الحلم والواقع يبرز بعد الزمن ، فما أتى بالحلم كان بالامس القريب واقع حاراتنا وأزقتنا العربية ، و نساءنا العربيات الممتلئات بالأنوثة والنخوة والجمال الطبيعي ، وما ذكر " الجواري " إلا إحالة على الزمن حيث عششت هذه الظاهرة ، نص جميل يضمر أكثر مما يفشي ....
الغائز الثاني
نشوة ذابلة // حسن بو حسن
جاورت صديقات عمرها المحبوسات فوق المقاعد العارية، واتكأت إلى جانبهن داخل الطريق المخنوق بقبضات الجدران الرفيعة، كانت تحاول أن تقترب إلى أنفاسهن المذابة وعيونهن المشدوهة على أشدها، ابتعدت معهن إلى الزمن الذي ألبسهن شهقات الحلم الذابلة. امتلأت بالنشوة وهام الفرح في صدرها، بدأت توزع نظراتها عليهن بالتساوي كالمجنونة وتحاول أن تظهر مفاتنها للمارة كلما ابتلعها الضوء المتسلل إلى المكان واستسلمت معهن لسطوة رحلة الانتظار
القاص حسن بو حسن في نصه" نشوة ذابلة " ، بأسلوب سردي جميل ببساطته نسج الأحداث ، فكان فيها الإضمار والتكثيف طاغيا مما غطى على الاستعمال المفرط للجمل الفعلية ( جاورت / اتكأت / ابتعدت / امتلأت / بدأت .. ) الذي حال دون التنويع الشكلي للصياغة، النص ناقش من خلال متنه قضية الجسد المتماهي بين الزواج و العنوسة ، فبطلتنا وجدت نفسها تعتلي كرسي الانتظار إلى جوار قريناتها المخنوقات بجدران المجتمع والأعراف داخل زقاق العمر الضيق و الحرية الضيقة ، رسم السارد في هذه القصة شخصيات انثوية بلغن سن الزواج ، بين النشوة الداخلية و هاجس العنوسة ؛ ذبلت الحياة في أعينهن ، كل واحدة منهن كما بطلتنا ، تظهر للمارة مفاتنها عساها تحظى بالزوج ، يتكرر المشهد مع كل ضوء أمل ، ما ينفتئ أن يخفت فيعيدها إلى سطوة الانتظار من جديد ، وفي قراءة أخرى قد يكون الرهان يروم مشكل الدعارة ، حيث تكون البطلة جسداً بلا نشوة ( نشوة ذابلة ) تمتهن البغاء ، يتلقفها ضوء سيارة الزبون بعد أن تظهر له مفاتنها ، ما إن يبتلعها الضوء حتى يلفظها من جديد على قارعة الانتظار ، إنتظار زبون آخر ... وفي كلتا القراءتين تبدو لغة الجسد طافحة ، نص جميل غير أن القفلة بدت خافتة لكونها جاءت استرسالاً للمتن ما قلل من وهجها وصدمتها ، لكن إجمالا وفق الكاتب في طرح موضوعه
الفائز الثالث
تنويم // رائد الحسن
جلَسْنَ على كراسي مُذهّبة، يَتسربَلْنَ بملابسِ الحشمةِ، صامتات، متوترات، كأنهنَ مسيّرات، وَهُنَّ ينظرنَ بأعينِهنَ الكبيرة لافقٍ، يمتدُّ عِبرَ طريق ينتهي الى شاطِئ؛ ليتحول بعضهنَ الى عرائس، يقفزنَ الى بحرٍ هادِئ، بعد أن يتحرَرْنَ مِن عبوديةِ طقوس الجسد.
القاص رائد الحسن في نصه " تنويم " سلط الضوء على الجسد خاصة بالنسبة للاتي لا يخلو ماضيهن من الطقوس الحميمية ، بالإعتماد على أسلوب سردي سلس لا يربك القارئ في استنطاقه للنص ، ليأتي تدرج الأحداث منطقيا يصب في إتجاه كشف الرهان ، مع الاحتفاظ ببريق القفلة ضماناً للدهشة ، وقد كان الكاتب موفقاً جداً في إختيار القفلة والعتبة وصياغة المتن مما يؤكد تمكنه من أدوات صياغة الققج ، من إضمار و تكثيف و تشبيه ... ، بل حتى الكلمات المفتاحية جاءت دقيقة و مركزة ف " الكراسي المذهبة " مثلاً دلالة على المكانة الرفيعة وما أرها هنا إلا إيحاءً للزواج وهيبته ، فالنص جاء ليصف حالة فئة من النساء اللاتي ما إن يكن على اعتاب الزواج ( الكراسي الذهبية ) حتى تخترن لباس الحشمة سربالا لهن والصمت لغتهن وذاك ما يجعلهن فريسة للتوتر ، هي حالة مستحدثة تقتضيها المناسبة ، آملات بلوغ شاطئ الأمان تتوجن فيه عرائس في جو يكسوه الهدوء التام ، فالجلوس والصمت و لبس المحتشم كلها طقوس لتنويم عقول الأزواج أو بالاحرى المرشحين للزواج و كل المحيطين بهن ، ما يجعل الأمر يبدو كدر الرماد في العيون ، كل هاته التخمينات تجعل القارئ يسبح في فلك الرهان إلى أن تأتي القفلة المدهشة لتحسم كل شيء وتأكد ما سبق ، فتلك الفئة من النساء كان لهن ما لهن من طقوس في عبودية الجسد تتجلى في علاقات حميمية تشبعن من خلالها غرائز الجسد العطش ، تكون الشهوة في حياتهن مبتداها ومنتهاها ، كهذا تبدو طلاسم النص أكثر وضوحا ... نستطيع القول أن النص جاء لمعالجة النفاق الاجتماعي الذي تعانيه جل مجتمعاتنا العربية حين تتخذ بعض نسائها من الحريات الجسدية حقاً غير مشروط ، ما إن تصطدم مع الأعراف و الموروث الفكري لها حتى تذوب كالملح ، تلك الفئة من النساء في سعيها نحو الزواج والاستقرار ( الكراسي المذهبة ) لم تجد بدا غير التحرر من الممارسات الشاذة للجسد عبر التمويه والتنويم ودر الرماد في العيون وهذا ما زكى إختيار الكاتب للعنوان ....نص جميل للغاية
الفائز الثالث مكرر
نساء من ملح // زكية الحداد
استعرن من الليل سواده في عز النهار؛ و من الشمس خيوطها الذهبية علها ترشد المراكب التي غادرت ذات صباح محملة بالأماني لطريق العودة..! تكفل البحر الأهوج بما تبقى من أنوثتهن و عمرهن، و جاد عليهن بعروش مثقلة بالهم؛ و بركام حطام خشبي؛ توسعت لمرآه أحداق أعينهن الحالمة التي لم تبرح أبواب الغرف المهجورة الباردة.
القاصة زكية حداد في نصها " نساء من ملح " حاولت من خلال ادواتها المتمكنة في فن صياغة القصة القصيرة جدا، تسليط الضوء على معاناة بعض النساء في مرحلة من مراحل حياتهن ، و هن تحت وطئة العنوسة، فيضمحل امل الحصول على الشريك شيئا فشيء، لتسود الحياة في اعينهن ، ما حذا بصاحبة النص الى دس سواد الليل في واضحة النهار للتعبير عن الحالة النفسية التي تعتريهن، حالة جعلتهن تسلمن بان مراكب الاحلام و الأماني ربما لن ترسو على مرافئهن، فبحر الحياة الاهوج قد طال اجسادهن و انوثتهن، لطول الانتظار و الترقب.
قوة النص تكمن في التمويه والاستدراج الذي طعم به، استباقا لفجائية القفلة، فجملة " جاد عليهن بعروش مثقلة بالهم و بركام خشبي " تاخذ القارئ الى اسقاط دلالة العروش على الزواج، ما يعني انهن قد حضين بزواج منكسر و غير مستقر، والمعاناة فيه قد لا تختلف عن معاناة العنوسة، وهنا انتقال من معاناة الى معاناة اخرى، فانتظارهن الطويل لم يشفع لهن بحياة كريمة بعد معاناة طالت، وهذه مفارقة جميلة بحد ذاتها، اما القفلة فجاءت لتتكفل بادهاش القارئ بشكل صادم، مسقطة التمويه السالف ذكره، و مصرحة بانهن لازلن قابعات في غرف الانتظار تحت وطئة اللازواج و برودة المشاعر و الأحاسيس.
قوة النص أيضاً تمخضت من وصف المعاناة بشكل صادم ثم تعميق الصدمة بقفلة أقوى ، ولعل ما وجب الهمس به ، أن صيغة الجمع التي أثثت النص أثقلته و حدت من انسيابيته ، كما أن الجمع غالباً يشي بان الأمر يتعلق بظاهرة مجتمعاتية و ليست بحالة فردية ،و إستعمال الضمير المفرد كان سيخدم النص أكثر ، أما من الناحية التركيبية فيمكن تقسيم النص إلى فقرتين الأولى ((( استعرن من الليل سواده في عز النهار؛ و من الشمس خيوطها الذهبية علها ترشد المراكب التي غادرت ذات صباح محملة بالأماني لطريق العودة..! )))) عبارة عن وصف محشو يمكن الاستغناء عنه ، تطبيقاً لتقنيتي الحذف و التكثيف ، إلا إذا كان ذلك لحاجة في نفس الكاتبة،كما أن هذه الفقرة بحد ذاتها قصة قصيرة جداً مكتملة العناصر .
رهان النص جميل أنصف إلى حد كبير النساء العوانس باظهار معاناتهن ، أما العتبة " نساء من ملح فجاءت تركيبية و وصفية تستمد قوتها من لفظة ملح لما تحمله من دلالات ، كسرعة ذوبانه وما تحيلنا إلى ذوبان الجسد الانثوي أمام سطوة أمواج بحر العمر الأهوج ، و باعتبار أن الملح كان يستخدم في تحنيط الأجساد وغسلها قديماً ، دلالة على ثنائية العنوسة / الموت و التحنيط / الانتظار
نص جميل في مجمله
خاتمة
من خلال النصوص الأربعة المنبثقة من نفس الصورة ، يمكن الجزم بان الصورة الواحدة يمكن أن تنتج لنا العديد من النصوص القصصية القصيرة جدا ، ولو أن ثيمة الجسد كانت طاغية في جل النصوص إلا أن المواضيع كانت شتى ، وتماهت من خلال الطرح بين الزواج والعنوسة و البغاء و النفاق الاجتماعي و الشهوة ، كلها شكلت متخيلاً سرديا فرديا لكل قاص في ما ظل الجسد متخيلاً سرديا جماعياً لهم .
دراسة
في نصوص مسابقة رؤية نقدية
صورة تنطق وقلم يحكي
محمد خالدي
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة:
القصة القصيرة جداً كسائر الأنماط الأدبية خاصة السردية منها ، تتخذ من الصورة منبع إلهام لنسج احداثها ، ولا تميز بين الصور سواء كانت منبثقة من المجتمع أو الموروث الديني أوالثقافي أو حتى الاسطوري ، فما يهمها و يهم كاتبها من خلالها ، نقل الثيمة ومناقشتها بفنية وحنكة، مستعيناً بالمتخيل السردي ، الذي يختلف من مجال معرفي إلى آخر ( سياسة - دين -علوم - ..... ) ، إضافة إلى كون هذا المتخيل قد يكون جماعي أو فردي ، ما يجعل نطاق الابداع أرحب عند السارد وذلك لغنى مخيلته .
1- الصورة و الإسقاط الدلالي :
ثنائية الصورة و القصة القصيرة جداً .، لطالما خلقت جدلا واسعا بين المبدعين والنقاد على حد السواء ، باعتبار أن القصة القصيرة جداً تأتي محاكية لما تحمله الصور و المشاهد بجمالية و فنية تفتح مجال نقاش الدلالة والرهان ، فالصورة في بعدها البصري تجسد مشهدا قد يكون مألوفاً ( واقعي ) أو غير مألوف ( تخيلي ) ، تعالج من خلاله موضوعا واحدا بشكل صريح ، إلا أن عنان الخيال الذي يطلقه المبدع من خلال اسقاطات ايحائية يجد نفسه حينها أمام مشروع ولادة قصص قصيرة جداً تنبثق من ذات رمزية الصورة ، رمزية قد تكون مباشرة أو غير مباشرة حسب الصياغة و الأليات الفنية المعتمدة ، فإن أسقط المشهد إسقاطاً وصفياً في القصة القصيرة جداً كان مباشراً ، وإن تم التملص من الاطار الوصفي للصورة ، منكبين على نقل الرمزية الدلالية تحقق النمط الغير مباشر ، وهنا أجد نفسي أمام ضرورة نقل وجهة نظر الأخ العزيز الاستاذ الميلودي الوريدي إذ قال :
"أيها السادة لا تدعوا الصورة تحجب خيالكم..فهي فقط صورة جامدة ...اهتموا بما أغفلته عدسة المصور...خالفوا مألوفها إلى غريبها ...وشخوصها إلى نقائضهم ...وإطارها الضيق والمحدود زمنيا ,إلى فضاء مرجعياتكم الرحبة ...وترجموا كل هذا بألفاظ بليغة ...ولا بأس إن ضاق النص الظاهر ورحب الفضاء الدلالي ......واعلموا أنكم إن فعلتم كل هذا ستحصلون قطعا على نصوص غاية في الجمال والدلال ....تروق كل الأطياف والأجناس والأفراد ..."
صورة و قصص قصيرة جداً 2-
حكاياتنا العريية
الغائز الاول
عرائس // عزة هوارى
رنا لأُذني نداء القبطان ،أن غادروا السفينة، لحين إصلاحها، هممت بخطى متسارعة، لم انتبه لأحد ، تجولت في المكان ذي المبانى العريقة، تملكنى الفضول، فإذا بزقاق يحوم بثناياه الصمت ، ويأكله السكون، بيوتٍ تتخلل الصخر بشموخ ، وجوار حِسان، عيونهن الموج بزرقته، وشعورهن كُثب الرمال، يلتحفن العفاف، وتغشاهن السكينة، عرائس بكل بابٍ يتكئن، وكأنهن القطار، تملقتُهن حتى وطئت قدمي السفينة، انتبهت من غفوتى، لأتعجب من حلمي !.
هو من النصوص المخاتلة التي و أنت تقرأها تجبرك على الانسياق خلفها و أنت تعتقد أنك ممسك بمفاتيحها متمكن من إدراك رهاناتها لكنك على مشارف النص تباغتك قفلة تعيدك إلى نقطة الصفر
القاصة عزة هوارى في نصها " عرائس " إعتمدت على تقنية الاستدراج السردي في القصة القصيرة جداً ، وهي إحدى الأنماط الأسلوبية في كتابة الققج حيث يكون فيها العنوان مرتبطا بشكل مباشر مع متن يصب في إغراء القارئ بشكل تدريجي ومنتظم ، السارد في قصتنا هذه راح ينير المشهد بعناية دون أن يحرقه ، من خلال إسترسال يحفز القارئ على المتابعة مستثيرا ذائقته مشوقاً إياه إلى النهاية ، وغلب على هذه الحياكة إعتماد اللغة السهلة والوصف الدقيق و التشبيهات الدقيقة، بمزج جمالية الجسد و جمالية الطبيعة مزجاً تناغميا بديعاً ، وحيث يكون القارئ على اعتاب النهاية ، يتفاجأ بالقفلة الصادمة المباغتة ، موضحا السارد بان ما سبق لايعدو أن يكون حلما له ، وبالرغم من أن البعض قد يرى في ذلك قطعاً لخيط سرد الأحداث ، دون الخروج من النفق المبهم برهان واحد ، إلا أن لفظة " حلمي " وطبيعة حلمه الجميل تشير بالإبهام إلى أن مايعيشه بطلنا نقيض ما تم سرده وما تعجبه إلا نتيجة حتمية للتناقض بين واقعه وحلمه، في المتن وصف للمكان بالسكون والعراقة وللجسد الأنثوي بالعفة و الجمال و السكينة ، لذا يمكننا الجزم أن واقع بطلنا ماهو إلا مكان يعمه الصخب و نساء تفتقدن للجمال والعفة ( قد يكون المقصود هنا بالجمال جمال الروح أو الجمال الطبيعي دون مساحيق )، وبين الحلم والواقع يبرز بعد الزمن ، فما أتى بالحلم كان بالامس القريب واقع حاراتنا وأزقتنا العربية ، و نساءنا العربيات الممتلئات بالأنوثة والنخوة والجمال الطبيعي ، وما ذكر " الجواري " إلا إحالة على الزمن حيث عششت هذه الظاهرة ، نص جميل يضمر أكثر مما يفشي ....
الغائز الثاني
نشوة ذابلة // حسن بو حسن
جاورت صديقات عمرها المحبوسات فوق المقاعد العارية، واتكأت إلى جانبهن داخل الطريق المخنوق بقبضات الجدران الرفيعة، كانت تحاول أن تقترب إلى أنفاسهن المذابة وعيونهن المشدوهة على أشدها، ابتعدت معهن إلى الزمن الذي ألبسهن شهقات الحلم الذابلة. امتلأت بالنشوة وهام الفرح في صدرها، بدأت توزع نظراتها عليهن بالتساوي كالمجنونة وتحاول أن تظهر مفاتنها للمارة كلما ابتلعها الضوء المتسلل إلى المكان واستسلمت معهن لسطوة رحلة الانتظار
القاص حسن بو حسن في نصه" نشوة ذابلة " ، بأسلوب سردي جميل ببساطته نسج الأحداث ، فكان فيها الإضمار والتكثيف طاغيا مما غطى على الاستعمال المفرط للجمل الفعلية ( جاورت / اتكأت / ابتعدت / امتلأت / بدأت .. ) الذي حال دون التنويع الشكلي للصياغة، النص ناقش من خلال متنه قضية الجسد المتماهي بين الزواج و العنوسة ، فبطلتنا وجدت نفسها تعتلي كرسي الانتظار إلى جوار قريناتها المخنوقات بجدران المجتمع والأعراف داخل زقاق العمر الضيق و الحرية الضيقة ، رسم السارد في هذه القصة شخصيات انثوية بلغن سن الزواج ، بين النشوة الداخلية و هاجس العنوسة ؛ ذبلت الحياة في أعينهن ، كل واحدة منهن كما بطلتنا ، تظهر للمارة مفاتنها عساها تحظى بالزوج ، يتكرر المشهد مع كل ضوء أمل ، ما ينفتئ أن يخفت فيعيدها إلى سطوة الانتظار من جديد ، وفي قراءة أخرى قد يكون الرهان يروم مشكل الدعارة ، حيث تكون البطلة جسداً بلا نشوة ( نشوة ذابلة ) تمتهن البغاء ، يتلقفها ضوء سيارة الزبون بعد أن تظهر له مفاتنها ، ما إن يبتلعها الضوء حتى يلفظها من جديد على قارعة الانتظار ، إنتظار زبون آخر ... وفي كلتا القراءتين تبدو لغة الجسد طافحة ، نص جميل غير أن القفلة بدت خافتة لكونها جاءت استرسالاً للمتن ما قلل من وهجها وصدمتها ، لكن إجمالا وفق الكاتب في طرح موضوعه
الفائز الثالث
تنويم // رائد الحسن
جلَسْنَ على كراسي مُذهّبة، يَتسربَلْنَ بملابسِ الحشمةِ، صامتات، متوترات، كأنهنَ مسيّرات، وَهُنَّ ينظرنَ بأعينِهنَ الكبيرة لافقٍ، يمتدُّ عِبرَ طريق ينتهي الى شاطِئ؛ ليتحول بعضهنَ الى عرائس، يقفزنَ الى بحرٍ هادِئ، بعد أن يتحرَرْنَ مِن عبوديةِ طقوس الجسد.
القاص رائد الحسن في نصه " تنويم " سلط الضوء على الجسد خاصة بالنسبة للاتي لا يخلو ماضيهن من الطقوس الحميمية ، بالإعتماد على أسلوب سردي سلس لا يربك القارئ في استنطاقه للنص ، ليأتي تدرج الأحداث منطقيا يصب في إتجاه كشف الرهان ، مع الاحتفاظ ببريق القفلة ضماناً للدهشة ، وقد كان الكاتب موفقاً جداً في إختيار القفلة والعتبة وصياغة المتن مما يؤكد تمكنه من أدوات صياغة الققج ، من إضمار و تكثيف و تشبيه ... ، بل حتى الكلمات المفتاحية جاءت دقيقة و مركزة ف " الكراسي المذهبة " مثلاً دلالة على المكانة الرفيعة وما أرها هنا إلا إيحاءً للزواج وهيبته ، فالنص جاء ليصف حالة فئة من النساء اللاتي ما إن يكن على اعتاب الزواج ( الكراسي الذهبية ) حتى تخترن لباس الحشمة سربالا لهن والصمت لغتهن وذاك ما يجعلهن فريسة للتوتر ، هي حالة مستحدثة تقتضيها المناسبة ، آملات بلوغ شاطئ الأمان تتوجن فيه عرائس في جو يكسوه الهدوء التام ، فالجلوس والصمت و لبس المحتشم كلها طقوس لتنويم عقول الأزواج أو بالاحرى المرشحين للزواج و كل المحيطين بهن ، ما يجعل الأمر يبدو كدر الرماد في العيون ، كل هاته التخمينات تجعل القارئ يسبح في فلك الرهان إلى أن تأتي القفلة المدهشة لتحسم كل شيء وتأكد ما سبق ، فتلك الفئة من النساء كان لهن ما لهن من طقوس في عبودية الجسد تتجلى في علاقات حميمية تشبعن من خلالها غرائز الجسد العطش ، تكون الشهوة في حياتهن مبتداها ومنتهاها ، كهذا تبدو طلاسم النص أكثر وضوحا ... نستطيع القول أن النص جاء لمعالجة النفاق الاجتماعي الذي تعانيه جل مجتمعاتنا العربية حين تتخذ بعض نسائها من الحريات الجسدية حقاً غير مشروط ، ما إن تصطدم مع الأعراف و الموروث الفكري لها حتى تذوب كالملح ، تلك الفئة من النساء في سعيها نحو الزواج والاستقرار ( الكراسي المذهبة ) لم تجد بدا غير التحرر من الممارسات الشاذة للجسد عبر التمويه والتنويم ودر الرماد في العيون وهذا ما زكى إختيار الكاتب للعنوان ....نص جميل للغاية
الفائز الثالث مكرر
نساء من ملح // زكية الحداد
استعرن من الليل سواده في عز النهار؛ و من الشمس خيوطها الذهبية علها ترشد المراكب التي غادرت ذات صباح محملة بالأماني لطريق العودة..! تكفل البحر الأهوج بما تبقى من أنوثتهن و عمرهن، و جاد عليهن بعروش مثقلة بالهم؛ و بركام حطام خشبي؛ توسعت لمرآه أحداق أعينهن الحالمة التي لم تبرح أبواب الغرف المهجورة الباردة.
القاصة زكية حداد في نصها " نساء من ملح " حاولت من خلال ادواتها المتمكنة في فن صياغة القصة القصيرة جدا، تسليط الضوء على معاناة بعض النساء في مرحلة من مراحل حياتهن ، و هن تحت وطئة العنوسة، فيضمحل امل الحصول على الشريك شيئا فشيء، لتسود الحياة في اعينهن ، ما حذا بصاحبة النص الى دس سواد الليل في واضحة النهار للتعبير عن الحالة النفسية التي تعتريهن، حالة جعلتهن تسلمن بان مراكب الاحلام و الأماني ربما لن ترسو على مرافئهن، فبحر الحياة الاهوج قد طال اجسادهن و انوثتهن، لطول الانتظار و الترقب.
قوة النص تكمن في التمويه والاستدراج الذي طعم به، استباقا لفجائية القفلة، فجملة " جاد عليهن بعروش مثقلة بالهم و بركام خشبي " تاخذ القارئ الى اسقاط دلالة العروش على الزواج، ما يعني انهن قد حضين بزواج منكسر و غير مستقر، والمعاناة فيه قد لا تختلف عن معاناة العنوسة، وهنا انتقال من معاناة الى معاناة اخرى، فانتظارهن الطويل لم يشفع لهن بحياة كريمة بعد معاناة طالت، وهذه مفارقة جميلة بحد ذاتها، اما القفلة فجاءت لتتكفل بادهاش القارئ بشكل صادم، مسقطة التمويه السالف ذكره، و مصرحة بانهن لازلن قابعات في غرف الانتظار تحت وطئة اللازواج و برودة المشاعر و الأحاسيس.
قوة النص أيضاً تمخضت من وصف المعاناة بشكل صادم ثم تعميق الصدمة بقفلة أقوى ، ولعل ما وجب الهمس به ، أن صيغة الجمع التي أثثت النص أثقلته و حدت من انسيابيته ، كما أن الجمع غالباً يشي بان الأمر يتعلق بظاهرة مجتمعاتية و ليست بحالة فردية ،و إستعمال الضمير المفرد كان سيخدم النص أكثر ، أما من الناحية التركيبية فيمكن تقسيم النص إلى فقرتين الأولى ((( استعرن من الليل سواده في عز النهار؛ و من الشمس خيوطها الذهبية علها ترشد المراكب التي غادرت ذات صباح محملة بالأماني لطريق العودة..! )))) عبارة عن وصف محشو يمكن الاستغناء عنه ، تطبيقاً لتقنيتي الحذف و التكثيف ، إلا إذا كان ذلك لحاجة في نفس الكاتبة،كما أن هذه الفقرة بحد ذاتها قصة قصيرة جداً مكتملة العناصر .
رهان النص جميل أنصف إلى حد كبير النساء العوانس باظهار معاناتهن ، أما العتبة " نساء من ملح فجاءت تركيبية و وصفية تستمد قوتها من لفظة ملح لما تحمله من دلالات ، كسرعة ذوبانه وما تحيلنا إلى ذوبان الجسد الانثوي أمام سطوة أمواج بحر العمر الأهوج ، و باعتبار أن الملح كان يستخدم في تحنيط الأجساد وغسلها قديماً ، دلالة على ثنائية العنوسة / الموت و التحنيط / الانتظار
نص جميل في مجمله
خاتمة
من خلال النصوص الأربعة المنبثقة من نفس الصورة ، يمكن الجزم بان الصورة الواحدة يمكن أن تنتج لنا العديد من النصوص القصصية القصيرة جدا ، ولو أن ثيمة الجسد كانت طاغية في جل النصوص إلا أن المواضيع كانت شتى ، وتماهت من خلال الطرح بين الزواج والعنوسة و البغاء و النفاق الاجتماعي و الشهوة ، كلها شكلت متخيلاً سرديا فرديا لكل قاص في ما ظل الجسد متخيلاً سرديا جماعياً لهم .