هيام الشرع اُبارك لأسرة مجلة سطور الأدبية الرائعة والمميزة صدور عددها التاسع الذي تتجلى فيه روائع، خطتها أقلام المبدعين وعطاء المثقفين بتصميم فني جميل وراقي
هيام الشرع
اُبارك لأسرة مجلة سطور الأدبية الرائعة والمميزة صدور عددها التاسع الذي تتجلى فيه روائع، خطتها أقلام المبدعين وعطاء المثقفين بتصميم فني جميل وراقي
كما اقدم خالص شكري لأسرة التحرير الأكارم لتكرمهم بتوثيق اول تجربة لي في كتابة القصة القصيرة، راجية المولى للجميع مزيدا من العطاء والتوفيق والنجاح..
......... .............. .......
جريمة في حرم العشق
لم يدري وسام الكاتب الشاب كيف قادته قدماه الى دير قديم عند احد الأحياء القريبة من بيته، جلس على مقعد خشبي وضع عند الباب الخارجي بعد أن شعر بالتعب والإرهاق، فقد قطع مسافة طويلة مشياً على أقدامه هائماً شارد الذهن يفكر بلا جدوى عن أية فكرة تكون محوراً لكتابة قصة جديدة، لكن جميع الأفكار طارت من رأسه والحيرة سيطرت عليه كأنها سحابة قاتمة اعترضت الأفق امام افكاره.. اغمض عينيه وهو بعد جالس على الكرسي ثم غط في سبات عميق.
لمحه كاهن كبير في السن كان عائداً من السوق الى الدير، ورأى الشاب الذي كان مستغرقاً في نومه على الكرسي الخشبي، فجلس بالقرب منه يتأمل بقلبه الحنون الممتلئ بالرحمة علامات التعب التي كانت بادية على وجه هذا الغريب.
استفاق سامر فجأة وشعر بالخجل وصار يبرر سبب تواجده وغفوته، لكن الكاهن ربت على كتفه ودعاه ليدخل معه الى حجرته المتواضعة قدم له شراب الرمان ثم سأله عن الذي يقلقه فروى له سامر قصته باختصار أنه كاتب روايات وقصص نالت استحسان القراء وشغفهم، وهو مطالب الآن بكتابة قصة اخرى، لكنه لم يعد قادرا على الكتابة يحاول البحث عن موضوع لقصة جديدة لكنه يشعر بالعجز وخواء الذهن
ضحك الكاهن وقال له:
يا بني كل انسان تمتلأ جيوب حياته بمئات من الأحداث المحزنة والنكبات والمواقف
التي تصلح كل واحدة منها لتكون رواية. لكن لا عليك ثم اتجه نحو خزانة صغيرة وأخرج منها دفتر سميك بادٍ عليه القدم دفعه لسامر قائلا: هذه مذكراتي كنت اكتبها عندما كنت شابا في مثل سنك اِطلع عليها لعلك تجد بين طياتها ما يشفي غليلك ويثير فيك الإلهام للكتابة من جديد...
شكره سامر وودعه ثم عاد لبيته.
أثارت المذكرات فضول سامر فقد كان يعتقد أن الكهنة محرم عليهم الإحساس بمشاعر الحب تجاه الجنس الآخر او البوح به..!
بدت الصفحة الاولى مهترئة بعض الشيء صفراء اللون لكن الكتابة كانت واضحة ابتدأها الكاهن بعنوان "هذه مأساتي " كتب يقول :
عندما كنت في عنفوان الربيع، اخطو اولى سنوات العشرين، كنت ساذجا تطغى البراءة والقداسة على محياي والإخلاص والوفاء ينبعان من اعماق قلبي، لا أعرف عن الحياة شيئا سوى القيام بعملي على أتم وجه ارضاء لضميري.
لم تشغل المرأة حيزا في تفكيري ولا في اهتماماتي
ولم أكن مؤمناً بالحبّ وقصص الغرام والهيام، اذ اعتبرتها من اعمال الشيطان، وفيها الكثير من الخزعبلات والجنون وكنت اهزأ من أصدقائي حين يشكون لي معاناة عشقهم وأشواقهم لحبيباتهم، لعنت كيوبيد اله الحب وكفرت به بسبب طيشه وجنون لهوه في سجن وتعذيب من يرميهم بسهمامه المسمومة.
لم تؤثر في قصص الحب الخالدة..! كنت اضرب قصة روميو وجولييت وقصة قيس وليلى وقصة النبي يوسف مع زليخة بعرض الحائط، بل وأدوس عليها بأقدامي.
فالمرأة بنظري اشبه ما تكون بالقردة الهاربة من حديقة الحيوانات وقد خُلقت فقط للترفيه عن النفس، يلهو بها الرجل لقتل الوقت.
اطلق علي اصدقائي لقب "هتلر" لشدة تعصبي وكرهي للمرأة والبعض منهم اطلق علي لقب" ذو القلب الصخري" لكني لم اهتم ولم اعبأ بسخريتهم.
لا أدري إن كان هو قدري أم أن الدنيا أرادت أن تسخر مني والأيام تثأر وتنتقم كي لا أتمرد على قدري ولا اكفر بالحب والمرأة لأنهما سر الوجود ومصدر السعادة.
ذات يوم حدث مالم يكن في الحسبان، رأيتها ولأول مرة في حياتي ارفع عيني الى أعلى بطريق الصدفة، كانت تنظر من شرفة غرفتها، وهنا حدثت المعجزة التي قلبت حياتي رأسا على عقب، فقد انتفضت كالعصفور الذي بلله القطر وقفز قلبي الصغير من بين أضلعي وأخذ يدق بسرعة غريبة وبصوت مسموع، وتسمرت قدماي فلم استطع التحرك من مكاني.
حدقت في دهشة وعجب في وجه هذه المخلوقة الساحرة وأنا احدث نفسي دون وعي مني، ما أروع هذا الوجه الفاتن الجذاب، وهاتان العينان العسليتان الناعستان، وهذا الثغر الدقيق قرمزي الشفاه الذي يغري المرء بتقبيله، وشعرها الأصفر المتموج كأنه خيوط من ذهب. مسكين أنا لم اتذوق الجمال قبل اليوم..!
كانت في ثوبها الزهري الفاتن اشبه باحدى ملكات الأغريق اللواتي سمعت عن جمالهن الشىء الكثير، وحده الله يعلم كم من الوقت وقفت حتى ارخى الليل سدوله، وأوصدت الفتاة شرفتها وخلا المكان من المارة فلم يبقى في الطريق سواي أهيم كالمجنون افكر فيما أبصرت عيناي.
عدت الى داري الكائنة في الكرادة وقد غدوت شخصا آخر .. حاولت أن انسى وازيل صورتها من ذاكرتي بقراءة بعض الكتب العلمية التي شغفت بها منذ صغري لكن هيهات، كنت ارى صورتها في كل صفحة وفي كل سطر وفي كل حرف.
لم تذق عيناي النوم في تلك الليلة، صرت في الأيام التي تلت اكلم نفسي كثيرا، واستغرب كيف تحول عدائي للمرأة وكرهي لها الى اعجاب وحب ومناصرة، وكيف تحول قلبي المقفر بلحظة، الى جنة غناء تترنم فيها الطيور بأناشيد الغرام!
دهش اصدقائي وجيراني وكل من كان يعرفي وعجبوا عندما رأوا انقلاب حالي، كيف صار من كان يهزأ ويسخر من ضحايا القلوب اكبر داعية للحب والهوى ويبارك لكل عاشق وعاشقة وينشر دعوة كيوبيد في كل مكان يذهب اليه؛ أن لا دين للناس سوى الحب.. والحب وحده.!
عرفت فيما بعد أنها توأم مع أخ لها يعمل كبائع في محل ملابس نسائية مقابل لدارهم
تقربت اليه حتى صار اقرب صديق لي.
دعاني ذات يوم ليعرفني على عائلته لم اصدق كاد أن يغمى علي من شدة الفرح..! قضيت ذلك النهار وانا اجرب كل ما املك من ثياب لاختيار أجملها، واحدث نفسي في المرآة لا ادري ماذا اصابني كانت مشاعر مختلطة تنتابني
هل انا خائف..؟
نعم أنا اشعر بالخوف والقلق وشوق عظيم لها يأسر روحي. لا ادري كيف سيكون لقائي بها، هل ستشعر بقلبي الذي صار ملكا لها؟ وهل ستقرأ كل رسائلي التي كتبتها بحبر قلب المعذب والتي كنت ارسلها لها كل يوم من عيني المتوقدتين شوقا لها..؟؟؟
وجاءت اللحظة لتشهد توقيع اتحاد قلبينا.. لم اكن اعلم انها فطنت لعشقي وشغفي بها، وأنها كانت تنتظر رؤيتي بلهفة كل يوم على أحر من الجمر.. بادلتني الحبّ رغم أنها لم تبدي أية اشارات توحي بذلك، كان حبنا صامتا متأججا واشبه ما يكون بالقصص الخرافية.
كانت سعاد من عائلة مسلمة محافظة على العادات والتقاليد، لم تحظى هذه العائلة سوى بهذا التوأم سعاد وأخيها سعيد، والدها كان قاضياً معروفاً يشهد له عمله بالنزاهة والعدل، وأنا مسيحي لكني لم افكر ابداً بهذا العائق الديني.. فالحب لا دين له، والدين لله وحده.
أخذت علاقتنا أنا وسعاد تتطور تبادلنا رسائل غرام ونمت العاطفة وترعرع الحب تحت مظلة الوفاء والإخلاص والرجاء.
صرنا ندعوا الله في صلواتنا أن يعجل باليوم الذي يجمعنا سوياً لنعيش الحب بجماله وروعته.
علم سعيد بعلاقتنا ثار بادىء الأمر وغضب لكنه بعد ذلك هدأ وتفهم الأمر ووعدنا أنه سيبذل جهده لإقناع والده بالموافقة على زواجي من ابنته بعد اعلان اسلامي.
كنت قد انهيت خدمتي العسكرية بعد تخرجي من كلية العلوم في جامعة بغداد بدرجة ممتاز، ولم يخطر في بالي أنني سأكون في الوجبة الثانية التي اُستدعيت للذهاب الى جبهة القتال أبان الحرب العراقية - الايرانية.. كنت اصلي كثيراً وادعو الله أن يحميني ويبقي على حياتي من اجل سعاد.
كانت آخر رسالة وصلتني منها وأنا في جبهة الموت أنها مشتاقة لرؤيتي وأن قلبها الصغير لم يعد يطيق فراقي عنها، وأنها تخشى أن يفرق بيننا الموت لهذا ترجوني أن احافظ على حياتي لأنها تحبني اكثر من حبها لنفسها ومن أجل ذلك ستبقي رسالتها بدون نهاية حتى لا يكون هناك اي وداع.
مضت اسابيع ولم تصلني اية رسالة منها كانت تنتابني مشاعر قلق وتساؤلات لكنها سرعان ما كانت تختفي بسبب المواجهات المستمرة بين الجيشين واصوات الرصاص والقنابل التي لا تهدأ والتي لم تكن تسمح لي بالخلوة مع نفسي لأفكر واحلم بها.
واخيرا استطعت أن أحصل على اجازة قصيرة المدة كانت فرحتي كبيرة جدا لا يمكن أن تقاس بأي مقياس هأنذا سأعود للحبيبة وهذه المرة سأحتضنها لن افارقها حتى اتمم زواجي منها..
وصلت متأخرا لبيتي ورغم التعب ومشقة السفر إلا انني أسرعت في اخذ دوش وغيرت ملابسي حتى انني لم افكر بتناول أي طعام واتجهت مسرعاً نحو منزل الحبيبة سعاد.
وصلت ولم اصدق ما رأيت وخشيت لأول وهلة أنني ربما قد أضعت الدرب.. لكن انا اعرف طريق بيتهم أصل اليه حتى لو كنت اعمى.!
يا الله ماذا حدث؟!!
اين بيتهم ؟ فأنا لا ارى سوى انقاض منزل..!
لم اشعر بنفسي هويت على الأرض مغميا علي ولا ادري كم من الدقائق بقيت مغمى علي قبل ان استفيق وأعرف من احد الساكنين في منطقتهم أن صاروخا ايرانيا قد وقع على دارهم فأحالها والمنازل المجاورة لها الى انقاض ولم ينجو احد من الساكنين.
عدت للجبهة وأنا لا الوي إلا على الموت لم اعد أهابه بل صرت اطلبه وهو يبعدني عنه متعمدا وكأنه يريد أن يزيد في عذابي.
انتهت الحرب ولم ينتهي حزني، عدت لبيتي والتحقت كراهب في الدير راضيا بقدري قانعا بالعزلة بعيدا عن انظار الفضوليين والمتطفلين
وكل مساء عندما ينتصف الليل وينشر السكون جناحيه في كل مكان، اخلو بنفسي اناجي هواجسي وأحلامي وأسبح في تخيلاتي وأوهامي أتجرع كؤوس البؤس حتى الثمالة فأنغمس في بحار لا قعر لها من الذكريات العذبة المريرة، الباسمة والعابسة، السارة والدامية في ذات الوقت، وأستعرض شريطا طويلا من حياتي،، من ماضيّ البعيد الحافل بالمآسي والمغامرات، الذي تركني بعد أن سلبني أجمل قبس من أمل كنت متعلقا به، أنقاضا محطما لا أملك سوى الدموع والكبرياء.
اُبارك لأسرة مجلة سطور الأدبية الرائعة والمميزة صدور عددها التاسع الذي تتجلى فيه روائع، خطتها أقلام المبدعين وعطاء المثقفين بتصميم فني جميل وراقي
كما اقدم خالص شكري لأسرة التحرير الأكارم لتكرمهم بتوثيق اول تجربة لي في كتابة القصة القصيرة، راجية المولى للجميع مزيدا من العطاء والتوفيق والنجاح..
......... .............. .......
جريمة في حرم العشق
لم يدري وسام الكاتب الشاب كيف قادته قدماه الى دير قديم عند احد الأحياء القريبة من بيته، جلس على مقعد خشبي وضع عند الباب الخارجي بعد أن شعر بالتعب والإرهاق، فقد قطع مسافة طويلة مشياً على أقدامه هائماً شارد الذهن يفكر بلا جدوى عن أية فكرة تكون محوراً لكتابة قصة جديدة، لكن جميع الأفكار طارت من رأسه والحيرة سيطرت عليه كأنها سحابة قاتمة اعترضت الأفق امام افكاره.. اغمض عينيه وهو بعد جالس على الكرسي ثم غط في سبات عميق.
لمحه كاهن كبير في السن كان عائداً من السوق الى الدير، ورأى الشاب الذي كان مستغرقاً في نومه على الكرسي الخشبي، فجلس بالقرب منه يتأمل بقلبه الحنون الممتلئ بالرحمة علامات التعب التي كانت بادية على وجه هذا الغريب.
استفاق سامر فجأة وشعر بالخجل وصار يبرر سبب تواجده وغفوته، لكن الكاهن ربت على كتفه ودعاه ليدخل معه الى حجرته المتواضعة قدم له شراب الرمان ثم سأله عن الذي يقلقه فروى له سامر قصته باختصار أنه كاتب روايات وقصص نالت استحسان القراء وشغفهم، وهو مطالب الآن بكتابة قصة اخرى، لكنه لم يعد قادرا على الكتابة يحاول البحث عن موضوع لقصة جديدة لكنه يشعر بالعجز وخواء الذهن
ضحك الكاهن وقال له:
يا بني كل انسان تمتلأ جيوب حياته بمئات من الأحداث المحزنة والنكبات والمواقف
التي تصلح كل واحدة منها لتكون رواية. لكن لا عليك ثم اتجه نحو خزانة صغيرة وأخرج منها دفتر سميك بادٍ عليه القدم دفعه لسامر قائلا: هذه مذكراتي كنت اكتبها عندما كنت شابا في مثل سنك اِطلع عليها لعلك تجد بين طياتها ما يشفي غليلك ويثير فيك الإلهام للكتابة من جديد...
شكره سامر وودعه ثم عاد لبيته.
أثارت المذكرات فضول سامر فقد كان يعتقد أن الكهنة محرم عليهم الإحساس بمشاعر الحب تجاه الجنس الآخر او البوح به..!
بدت الصفحة الاولى مهترئة بعض الشيء صفراء اللون لكن الكتابة كانت واضحة ابتدأها الكاهن بعنوان "هذه مأساتي " كتب يقول :
عندما كنت في عنفوان الربيع، اخطو اولى سنوات العشرين، كنت ساذجا تطغى البراءة والقداسة على محياي والإخلاص والوفاء ينبعان من اعماق قلبي، لا أعرف عن الحياة شيئا سوى القيام بعملي على أتم وجه ارضاء لضميري.
لم تشغل المرأة حيزا في تفكيري ولا في اهتماماتي
ولم أكن مؤمناً بالحبّ وقصص الغرام والهيام، اذ اعتبرتها من اعمال الشيطان، وفيها الكثير من الخزعبلات والجنون وكنت اهزأ من أصدقائي حين يشكون لي معاناة عشقهم وأشواقهم لحبيباتهم، لعنت كيوبيد اله الحب وكفرت به بسبب طيشه وجنون لهوه في سجن وتعذيب من يرميهم بسهمامه المسمومة.
لم تؤثر في قصص الحب الخالدة..! كنت اضرب قصة روميو وجولييت وقصة قيس وليلى وقصة النبي يوسف مع زليخة بعرض الحائط، بل وأدوس عليها بأقدامي.
فالمرأة بنظري اشبه ما تكون بالقردة الهاربة من حديقة الحيوانات وقد خُلقت فقط للترفيه عن النفس، يلهو بها الرجل لقتل الوقت.
اطلق علي اصدقائي لقب "هتلر" لشدة تعصبي وكرهي للمرأة والبعض منهم اطلق علي لقب" ذو القلب الصخري" لكني لم اهتم ولم اعبأ بسخريتهم.
لا أدري إن كان هو قدري أم أن الدنيا أرادت أن تسخر مني والأيام تثأر وتنتقم كي لا أتمرد على قدري ولا اكفر بالحب والمرأة لأنهما سر الوجود ومصدر السعادة.
ذات يوم حدث مالم يكن في الحسبان، رأيتها ولأول مرة في حياتي ارفع عيني الى أعلى بطريق الصدفة، كانت تنظر من شرفة غرفتها، وهنا حدثت المعجزة التي قلبت حياتي رأسا على عقب، فقد انتفضت كالعصفور الذي بلله القطر وقفز قلبي الصغير من بين أضلعي وأخذ يدق بسرعة غريبة وبصوت مسموع، وتسمرت قدماي فلم استطع التحرك من مكاني.
حدقت في دهشة وعجب في وجه هذه المخلوقة الساحرة وأنا احدث نفسي دون وعي مني، ما أروع هذا الوجه الفاتن الجذاب، وهاتان العينان العسليتان الناعستان، وهذا الثغر الدقيق قرمزي الشفاه الذي يغري المرء بتقبيله، وشعرها الأصفر المتموج كأنه خيوط من ذهب. مسكين أنا لم اتذوق الجمال قبل اليوم..!
كانت في ثوبها الزهري الفاتن اشبه باحدى ملكات الأغريق اللواتي سمعت عن جمالهن الشىء الكثير، وحده الله يعلم كم من الوقت وقفت حتى ارخى الليل سدوله، وأوصدت الفتاة شرفتها وخلا المكان من المارة فلم يبقى في الطريق سواي أهيم كالمجنون افكر فيما أبصرت عيناي.
عدت الى داري الكائنة في الكرادة وقد غدوت شخصا آخر .. حاولت أن انسى وازيل صورتها من ذاكرتي بقراءة بعض الكتب العلمية التي شغفت بها منذ صغري لكن هيهات، كنت ارى صورتها في كل صفحة وفي كل سطر وفي كل حرف.
لم تذق عيناي النوم في تلك الليلة، صرت في الأيام التي تلت اكلم نفسي كثيرا، واستغرب كيف تحول عدائي للمرأة وكرهي لها الى اعجاب وحب ومناصرة، وكيف تحول قلبي المقفر بلحظة، الى جنة غناء تترنم فيها الطيور بأناشيد الغرام!
دهش اصدقائي وجيراني وكل من كان يعرفي وعجبوا عندما رأوا انقلاب حالي، كيف صار من كان يهزأ ويسخر من ضحايا القلوب اكبر داعية للحب والهوى ويبارك لكل عاشق وعاشقة وينشر دعوة كيوبيد في كل مكان يذهب اليه؛ أن لا دين للناس سوى الحب.. والحب وحده.!
عرفت فيما بعد أنها توأم مع أخ لها يعمل كبائع في محل ملابس نسائية مقابل لدارهم
تقربت اليه حتى صار اقرب صديق لي.
دعاني ذات يوم ليعرفني على عائلته لم اصدق كاد أن يغمى علي من شدة الفرح..! قضيت ذلك النهار وانا اجرب كل ما املك من ثياب لاختيار أجملها، واحدث نفسي في المرآة لا ادري ماذا اصابني كانت مشاعر مختلطة تنتابني
هل انا خائف..؟
نعم أنا اشعر بالخوف والقلق وشوق عظيم لها يأسر روحي. لا ادري كيف سيكون لقائي بها، هل ستشعر بقلبي الذي صار ملكا لها؟ وهل ستقرأ كل رسائلي التي كتبتها بحبر قلب المعذب والتي كنت ارسلها لها كل يوم من عيني المتوقدتين شوقا لها..؟؟؟
وجاءت اللحظة لتشهد توقيع اتحاد قلبينا.. لم اكن اعلم انها فطنت لعشقي وشغفي بها، وأنها كانت تنتظر رؤيتي بلهفة كل يوم على أحر من الجمر.. بادلتني الحبّ رغم أنها لم تبدي أية اشارات توحي بذلك، كان حبنا صامتا متأججا واشبه ما يكون بالقصص الخرافية.
كانت سعاد من عائلة مسلمة محافظة على العادات والتقاليد، لم تحظى هذه العائلة سوى بهذا التوأم سعاد وأخيها سعيد، والدها كان قاضياً معروفاً يشهد له عمله بالنزاهة والعدل، وأنا مسيحي لكني لم افكر ابداً بهذا العائق الديني.. فالحب لا دين له، والدين لله وحده.
أخذت علاقتنا أنا وسعاد تتطور تبادلنا رسائل غرام ونمت العاطفة وترعرع الحب تحت مظلة الوفاء والإخلاص والرجاء.
صرنا ندعوا الله في صلواتنا أن يعجل باليوم الذي يجمعنا سوياً لنعيش الحب بجماله وروعته.
علم سعيد بعلاقتنا ثار بادىء الأمر وغضب لكنه بعد ذلك هدأ وتفهم الأمر ووعدنا أنه سيبذل جهده لإقناع والده بالموافقة على زواجي من ابنته بعد اعلان اسلامي.
كنت قد انهيت خدمتي العسكرية بعد تخرجي من كلية العلوم في جامعة بغداد بدرجة ممتاز، ولم يخطر في بالي أنني سأكون في الوجبة الثانية التي اُستدعيت للذهاب الى جبهة القتال أبان الحرب العراقية - الايرانية.. كنت اصلي كثيراً وادعو الله أن يحميني ويبقي على حياتي من اجل سعاد.
كانت آخر رسالة وصلتني منها وأنا في جبهة الموت أنها مشتاقة لرؤيتي وأن قلبها الصغير لم يعد يطيق فراقي عنها، وأنها تخشى أن يفرق بيننا الموت لهذا ترجوني أن احافظ على حياتي لأنها تحبني اكثر من حبها لنفسها ومن أجل ذلك ستبقي رسالتها بدون نهاية حتى لا يكون هناك اي وداع.
مضت اسابيع ولم تصلني اية رسالة منها كانت تنتابني مشاعر قلق وتساؤلات لكنها سرعان ما كانت تختفي بسبب المواجهات المستمرة بين الجيشين واصوات الرصاص والقنابل التي لا تهدأ والتي لم تكن تسمح لي بالخلوة مع نفسي لأفكر واحلم بها.
واخيرا استطعت أن أحصل على اجازة قصيرة المدة كانت فرحتي كبيرة جدا لا يمكن أن تقاس بأي مقياس هأنذا سأعود للحبيبة وهذه المرة سأحتضنها لن افارقها حتى اتمم زواجي منها..
وصلت متأخرا لبيتي ورغم التعب ومشقة السفر إلا انني أسرعت في اخذ دوش وغيرت ملابسي حتى انني لم افكر بتناول أي طعام واتجهت مسرعاً نحو منزل الحبيبة سعاد.
وصلت ولم اصدق ما رأيت وخشيت لأول وهلة أنني ربما قد أضعت الدرب.. لكن انا اعرف طريق بيتهم أصل اليه حتى لو كنت اعمى.!
يا الله ماذا حدث؟!!
اين بيتهم ؟ فأنا لا ارى سوى انقاض منزل..!
لم اشعر بنفسي هويت على الأرض مغميا علي ولا ادري كم من الدقائق بقيت مغمى علي قبل ان استفيق وأعرف من احد الساكنين في منطقتهم أن صاروخا ايرانيا قد وقع على دارهم فأحالها والمنازل المجاورة لها الى انقاض ولم ينجو احد من الساكنين.
عدت للجبهة وأنا لا الوي إلا على الموت لم اعد أهابه بل صرت اطلبه وهو يبعدني عنه متعمدا وكأنه يريد أن يزيد في عذابي.
انتهت الحرب ولم ينتهي حزني، عدت لبيتي والتحقت كراهب في الدير راضيا بقدري قانعا بالعزلة بعيدا عن انظار الفضوليين والمتطفلين
وكل مساء عندما ينتصف الليل وينشر السكون جناحيه في كل مكان، اخلو بنفسي اناجي هواجسي وأحلامي وأسبح في تخيلاتي وأوهامي أتجرع كؤوس البؤس حتى الثمالة فأنغمس في بحار لا قعر لها من الذكريات العذبة المريرة، الباسمة والعابسة، السارة والدامية في ذات الوقت، وأستعرض شريطا طويلا من حياتي،، من ماضيّ البعيد الحافل بالمآسي والمغامرات، الذي تركني بعد أن سلبني أجمل قبس من أمل كنت متعلقا به، أنقاضا محطما لا أملك سوى الدموع والكبرياء.