صورة بشعة.. قصة قصيرة لـ مختار أمين.
انسلتت الطرحة السوداء، وهي تصرخ بأعلى صوتها في وجهه، وخيطان بيضاوان رفيعان أنارا شعرها الفحمي، شبّ العزم في جسدها المنهك، واحتل الغول طاقتها، ألصقت يدا خشبية على ظهر الطفل المحمول على كتفها حتى لا يعوقها وهي تتأهّب للهجوم، صغر الرجل وتضاءل.
ـ الراجل الوسخ سايب طابور الرجالة وجاي يلزق فيا شوبة بشوية.
تبرع الكل لمساعدتها حتى صاحب الفرن، وحصلت على حصتها عشرين رغيفا لأربع أفراد، ونال المتحرش عقابه وطرد.
كان وجهها محمرا وهي تجلس على الرصيف تترك خبزها للهواء ليبرد وتلتقط أنفاسها، ونار فرن حجرها يجبر الطفل الغارق فيه على السكون.
بحثت عن بطاقة التموين، ظنت أنها نسيتها هناك، تبدل وجهها بعلامات الفزع مع شهقة رعشت الطفل الذي كان يراوده النعاس، لقد فقدت كيس النقود، عادت تولول في ضعف واستكانة وهي تذرف الدموع، طارت تنحني تحت الأرجل وتبعثر الطابورين للبحث، وهي تضغط بيدها على بطن طفلها، وبالأخرى تزيح الأقدام الكثيرة، ويعلو صراخها بآهة تستفز الواقفين.
ـ في ايه يا ست تاني؟.
ـ الفلوس.. 42 جنيه بقية الشهر يا عالم يا اللي ماعندكوش رحمة.
ـ يعوض عليكي ربنا.
ـ ازاي يا خلق؟ نشحت؟ ده الراجل راقد مريض على السرير بقاله سنتين مش عارفة أصرفله معاش ولا أجيبله علاج.. طب أعمل ايه يا ربي في العيلين دول؟ يا ربي غيتني.. رحمتك يا رب. في القسم كان الخوف يثنيها عن تكملة المشوار.
ـ في ايه يا ست؟
ـ في حرامي سرقني يا ياشا.
نظر إليها باشمئزاز، وأشاح بوجهه بعيدا وهو يضحك:
ـ أما حرامي ماعندهوش نظر صحيح.. وسرق منك ايه بقى إن
شاء الله؟.
ـ كيـ .. كيـس الفلوس.. ورقتين بعشرين واتنين جنيه.
ـ فين الواقعة حصلت؟.. حصلت فين السرقة؟.
ـ لامؤاخذة يا باشا بعيد عنكم هنا بكتير.. ده أنا بقالي نص ساعة ماشية على بال موصلتلكم.
صرخ فيها:
ـ انتي هتحكيلي حكاية.. فين بالظبط؟.
ـ ما تآخذنيش يا باشا.
ـ انطقي خلصيني.
ـ بص يا باشا.. احنا بعد ما نخرج من القسم نمشي على طول لحد الميدان وبعدين نعدي الشارع الأسفلت وندخل عزبة الصفيح.. هناك بقى جوا شوية يا باشا عند فرن العيش.
في استخفاف:
ـ آه طيب.. مش تبعنا روحي قسم تاني.
في بلاهة:
ـ هو ايه اللي مش تبعكم؟ ما تآخذنيس يا باشا.
في عصبية:
ـ الواقعة.. الواقعة مش تبعنا روحي قسم تاني ورا الترعة القديمة.
ـ نعم.
ـ ايه طرشتي؟.
ـ فين يا باشا ما أنا ما أعرفش؟.
ـ خلصينا يا ستي ورانا شغل.. يا سيّد خد الست دي بره.. وبعدين ما تدخليش أي حد غير لما تعرف موضوعه.
زقها الأمين من كتفها.. تفاجأ بأنه طري دافئ.
ـ يلا يا ست.
هزت كتفها مبتعدة كأنها لدغت:
ـ حاسب ايدك.
نظر إليها وابتسم:
ـ معلش.. تعالي أقولك.
ـ ولا تقولي ولا أقولك أوصفلي القسم وخلاص.
شخط فيها حفاظا على مركزه:
ـ اتكلمي بأدب.
ـ حاضر يا باشا.. أصل ما تآخذنيش.
انهمرت الدموع وزادت من احمرار وجنتيها:
ـ أنا بجري على أسرة بحالها العيال وأبوهم.. بشتغل فراشة في مدرسة بقبض كام ملطوش مابيكملوش نص الشهر واحنا في 12 منه وباقي معايا 42 جنيه هما اللي حِلتي يقوم ابن الحرام يسرقهم بكيس الفلوس وبطاقة التموين.
جلس على مكتبه يسمعها باهتمام:
ـ قعدي ياست.. استريحي.
ـ الله يخليك يا باشا.. أنا من طلعة النهار وأنا واقفة على رجلي.
جلست، وانهارت باكية:
ـ بقى مكتوب علينا يا ربي الشحططة والبهدلة وقلة الحيلة
وآخرتها تتسرق الفلوس اللي حِلتي.. دا أنا صرّها في المنديل في قلب البوك.. كنت حاسة انها هتضيع.. قلبي واكلني ع العيال لوحدهم مع ابوهم.. صغار يا ياشا وأبوهم مرمي ع السرير مابيتحركش أديله سنتين.
ارتاحت أساريره وهو بنظر إليها في إمعان، وكاد عود الكبريت يلسع إصبعه وهو يشعل سيجارته:
ـ تتعوض.. ماتزعليش نفسك.
مال عليها:
ـ أنا حعملك محضر.. ولما يمشي الباشا هاروح معاكي وهاجيبهولك من قفا أمه.
اقترب يربت على يدها وهو ينظر في عينيها:
ـ ما تزعليش نفسك.. أنا هريّحك وهديكي فلوس كمان.
سحبت يدها بسرعة، وفزت واقفة أطلقت في وجهه طلقة رصاص من عينيها، وهي تكفكف دموعها:
ـ متشكرين يا بيه.
وهي تجرّ ساقيها الثقيلة دون أن تلتفت إليه:
ـ ربنا يستر على ولاياك.
خرج من مكتبه يجري خلفها:
ـ خدي هنا رايحة فين؟.
نظرت إليه في اشمئزاز بنظرة صاعدة هابطة تستعرض طوله:
ـ خلاص يا باشا موضوعي مش عندك.. عوضي على ربنا بقى.
ـ اسمعي بس ما تبقيش عبيطة.
في غولها الشرس أطلّت عليه:
ـ مش هاسمع يا باشا.. والظاهر عليا مش خارجة من هنا وهشق هدومي عليك ويا أنا يا انت.. اسجني بقى.
اقترب منها يشدها من ذراعها يعيدها إلى مجلسها. وقفت الحركة في المكان على صوتها الذي خرج من فمها كالبوق:
ـ احترم نفسك بقولك.. عشان ما انت حكومة هخاف منك ولا ايه؟.
انتبه الجميع ناحية صراخها، نظر حوله في ارتباك؛ فصاح بقوة:
ـ غوري يا ست امشي من هنا.. ايه البلاوي اللي بتتحدف علينا دي.
ـ ماشية يا باشا.. ماشية بشرفي.. يا ريتك يكون عندك منه ما كانش ده بقى حالنا.
جلست على الرصيف المقابل للقسم، تنظر للسيارات العابرة في سرعة وجنون لا تبالي بمن يجلسون على الرصيف في أعداد تتزايد.. تبكي بنهنهة، وتقتلها الحسرة على عيالها بالذنب والعجز..
ماذا تقول لهم؟ وكيف تقضي حاجاتهم وهي لا تملك جنيها واحدا؟
أخذت تهذي:
ـ الواد الكبير كان عايز يشتري كاوتش من باتا بـ 28 جنيه.. والراجل بتاع ماكنة الخياطة عايز 20 وعلاج بـ 36 وطبخة تقضي اليوم بـ 15 جنيه.
عدّت على أصابعها عدد الجنيهات المطلوبة حتى آخر الشهر التي
تجاوزت الألف، قامت من على الرصيف وخطت خطوات تقصد نهر الشارع في تيه وشرود، والسيارات مارقة لا تعرف الهدى.
الصوت دوى أجبر الحركة المتعجلة على السكون والانتباه، وهي تنظر إلى السماء متطايرة في الهواء.. أغلقت عينبها وهي ممددة على الإسفلت قبل أن تسمع صراخ الأولاد.
ـ الراجل الوسخ سايب طابور الرجالة وجاي يلزق فيا شوبة بشوية.
تبرع الكل لمساعدتها حتى صاحب الفرن، وحصلت على حصتها عشرين رغيفا لأربع أفراد، ونال المتحرش عقابه وطرد.
كان وجهها محمرا وهي تجلس على الرصيف تترك خبزها للهواء ليبرد وتلتقط أنفاسها، ونار فرن حجرها يجبر الطفل الغارق فيه على السكون.
بحثت عن بطاقة التموين، ظنت أنها نسيتها هناك، تبدل وجهها بعلامات الفزع مع شهقة رعشت الطفل الذي كان يراوده النعاس، لقد فقدت كيس النقود، عادت تولول في ضعف واستكانة وهي تذرف الدموع، طارت تنحني تحت الأرجل وتبعثر الطابورين للبحث، وهي تضغط بيدها على بطن طفلها، وبالأخرى تزيح الأقدام الكثيرة، ويعلو صراخها بآهة تستفز الواقفين.
ـ في ايه يا ست تاني؟.
ـ الفلوس.. 42 جنيه بقية الشهر يا عالم يا اللي ماعندكوش رحمة.
ـ يعوض عليكي ربنا.
ـ ازاي يا خلق؟ نشحت؟ ده الراجل راقد مريض على السرير بقاله سنتين مش عارفة أصرفله معاش ولا أجيبله علاج.. طب أعمل ايه يا ربي في العيلين دول؟ يا ربي غيتني.. رحمتك يا رب. في القسم كان الخوف يثنيها عن تكملة المشوار.
ـ في ايه يا ست؟
ـ في حرامي سرقني يا ياشا.
نظر إليها باشمئزاز، وأشاح بوجهه بعيدا وهو يضحك:
ـ أما حرامي ماعندهوش نظر صحيح.. وسرق منك ايه بقى إن
شاء الله؟.
ـ كيـ .. كيـس الفلوس.. ورقتين بعشرين واتنين جنيه.
ـ فين الواقعة حصلت؟.. حصلت فين السرقة؟.
ـ لامؤاخذة يا باشا بعيد عنكم هنا بكتير.. ده أنا بقالي نص ساعة ماشية على بال موصلتلكم.
صرخ فيها:
ـ انتي هتحكيلي حكاية.. فين بالظبط؟.
ـ ما تآخذنيش يا باشا.
ـ انطقي خلصيني.
ـ بص يا باشا.. احنا بعد ما نخرج من القسم نمشي على طول لحد الميدان وبعدين نعدي الشارع الأسفلت وندخل عزبة الصفيح.. هناك بقى جوا شوية يا باشا عند فرن العيش.
في استخفاف:
ـ آه طيب.. مش تبعنا روحي قسم تاني.
في بلاهة:
ـ هو ايه اللي مش تبعكم؟ ما تآخذنيس يا باشا.
في عصبية:
ـ الواقعة.. الواقعة مش تبعنا روحي قسم تاني ورا الترعة القديمة.
ـ نعم.
ـ ايه طرشتي؟.
ـ فين يا باشا ما أنا ما أعرفش؟.
ـ خلصينا يا ستي ورانا شغل.. يا سيّد خد الست دي بره.. وبعدين ما تدخليش أي حد غير لما تعرف موضوعه.
زقها الأمين من كتفها.. تفاجأ بأنه طري دافئ.
ـ يلا يا ست.
هزت كتفها مبتعدة كأنها لدغت:
ـ حاسب ايدك.
نظر إليها وابتسم:
ـ معلش.. تعالي أقولك.
ـ ولا تقولي ولا أقولك أوصفلي القسم وخلاص.
شخط فيها حفاظا على مركزه:
ـ اتكلمي بأدب.
ـ حاضر يا باشا.. أصل ما تآخذنيش.
انهمرت الدموع وزادت من احمرار وجنتيها:
ـ أنا بجري على أسرة بحالها العيال وأبوهم.. بشتغل فراشة في مدرسة بقبض كام ملطوش مابيكملوش نص الشهر واحنا في 12 منه وباقي معايا 42 جنيه هما اللي حِلتي يقوم ابن الحرام يسرقهم بكيس الفلوس وبطاقة التموين.
جلس على مكتبه يسمعها باهتمام:
ـ قعدي ياست.. استريحي.
ـ الله يخليك يا باشا.. أنا من طلعة النهار وأنا واقفة على رجلي.
جلست، وانهارت باكية:
ـ بقى مكتوب علينا يا ربي الشحططة والبهدلة وقلة الحيلة
وآخرتها تتسرق الفلوس اللي حِلتي.. دا أنا صرّها في المنديل في قلب البوك.. كنت حاسة انها هتضيع.. قلبي واكلني ع العيال لوحدهم مع ابوهم.. صغار يا ياشا وأبوهم مرمي ع السرير مابيتحركش أديله سنتين.
ارتاحت أساريره وهو بنظر إليها في إمعان، وكاد عود الكبريت يلسع إصبعه وهو يشعل سيجارته:
ـ تتعوض.. ماتزعليش نفسك.
مال عليها:
ـ أنا حعملك محضر.. ولما يمشي الباشا هاروح معاكي وهاجيبهولك من قفا أمه.
اقترب يربت على يدها وهو ينظر في عينيها:
ـ ما تزعليش نفسك.. أنا هريّحك وهديكي فلوس كمان.
سحبت يدها بسرعة، وفزت واقفة أطلقت في وجهه طلقة رصاص من عينيها، وهي تكفكف دموعها:
ـ متشكرين يا بيه.
وهي تجرّ ساقيها الثقيلة دون أن تلتفت إليه:
ـ ربنا يستر على ولاياك.
خرج من مكتبه يجري خلفها:
ـ خدي هنا رايحة فين؟.
نظرت إليه في اشمئزاز بنظرة صاعدة هابطة تستعرض طوله:
ـ خلاص يا باشا موضوعي مش عندك.. عوضي على ربنا بقى.
ـ اسمعي بس ما تبقيش عبيطة.
في غولها الشرس أطلّت عليه:
ـ مش هاسمع يا باشا.. والظاهر عليا مش خارجة من هنا وهشق هدومي عليك ويا أنا يا انت.. اسجني بقى.
اقترب منها يشدها من ذراعها يعيدها إلى مجلسها. وقفت الحركة في المكان على صوتها الذي خرج من فمها كالبوق:
ـ احترم نفسك بقولك.. عشان ما انت حكومة هخاف منك ولا ايه؟.
انتبه الجميع ناحية صراخها، نظر حوله في ارتباك؛ فصاح بقوة:
ـ غوري يا ست امشي من هنا.. ايه البلاوي اللي بتتحدف علينا دي.
ـ ماشية يا باشا.. ماشية بشرفي.. يا ريتك يكون عندك منه ما كانش ده بقى حالنا.
جلست على الرصيف المقابل للقسم، تنظر للسيارات العابرة في سرعة وجنون لا تبالي بمن يجلسون على الرصيف في أعداد تتزايد.. تبكي بنهنهة، وتقتلها الحسرة على عيالها بالذنب والعجز..
ماذا تقول لهم؟ وكيف تقضي حاجاتهم وهي لا تملك جنيها واحدا؟
أخذت تهذي:
ـ الواد الكبير كان عايز يشتري كاوتش من باتا بـ 28 جنيه.. والراجل بتاع ماكنة الخياطة عايز 20 وعلاج بـ 36 وطبخة تقضي اليوم بـ 15 جنيه.
عدّت على أصابعها عدد الجنيهات المطلوبة حتى آخر الشهر التي
تجاوزت الألف، قامت من على الرصيف وخطت خطوات تقصد نهر الشارع في تيه وشرود، والسيارات مارقة لا تعرف الهدى.
الصوت دوى أجبر الحركة المتعجلة على السكون والانتباه، وهي تنظر إلى السماء متطايرة في الهواء.. أغلقت عينبها وهي ممددة على الإسفلت قبل أن تسمع صراخ الأولاد.