هيام الشرع. الشناشيل ... تراث جميل
هيام الشرع.
الشناشيل ... تراث جميل
كنت احب كثيرا التواجد والمبيت ، عند جدتي لوالدتي ، وكثيرا ما كنت احاول تقليدها ومساعدتها ، في انجاز اعمال البيت ، واتقصد دوما إتقان ما افعله ، لجذب انتباهها وكسب رضاها ..
لم اكن اعي تماما سبب تعلقي بدار جدتي ، فهو لم يكن كبيرا ، ولم تكن به حديقة الهو بها ، كما في بيتنا ، ولم يكن لديها اطفال من عمري ..
كل الذي كنت افقهه حينها ، اني كنت اشعر ، بالراحة والالفة والحنين عندها ، واستمتع كثيرا باللمة ، وخاصة عندما يجتمع اخوالي وخالاتي ، حول سفرة الطعام وهم يتبادلون احاديثهم المتنوعة ، واصواتهم وضحكاتهم تكاد تملأ جو الغرفة وانا استمع لهم بكل حب واهتمام .
فضلا عن ذلك كله ، كان يجذبني بشغف طقس جدتي اليومي ، في شرب الشاي المخدر ، على البابور (البريموس) ، وشوقي لسماع زقزقة صوت الملاعق الصغيرة ، وهي ترتطم بجدران الاستكانات ، كم كان لذاك الصوت صدى جميلا في داخلي .. كنا نجتمع جميعا في صالة وسط الدار نسيمها "الصالون" .. اجمل ما كان يميزها ، شبابيكها المبنية من الخشب ، بشكل هندسي جميل ومميز ، كنت اتلهف دوما للجلوس والنظر من خلالها ، للمارة والاطفال وهم يتراكضون ويلعبون ، والباعة المتجولين بعرباتهم ، وهم ينادون باعلى صوتهم .. شلغم حامض .. لبلبي .. دوندرمة .. شامية ...
يا الله .. كم كانت تلك المشاهد تشعرني بالألفة وكأني اعرف كل من كان يمر بالشارع ، او كل من كان يجلس في المقهى الذي كان بناصية الشارع ..
حقيقة ،تلك الشبابيك كانت ، مبعث سعادة لي ، كان ينبعث منها عطر بنكهة غامضة ، يجذبني اليها بقوة ، كلما بعدت عنها ..!
اوعزت حينها اختلافها عن شبابيك بيتنا ، كونها في بيت جدتي التي اشتاقها في كل حين ، لكن عندما كبرت علمت السبب ، فهو اضافة لما كنت اظنه في صغري ، فان تلك الشبابيك الغريبة كانت كمسرح ، اتفرج من خلاله على ما يدور خارج الدار ، اذ كانت تمثل لساكني الدار ، وسيلة اتصال بالعالم الخارجي !
شأنها شأن المنازل التي كان يسودها الجو المحافظ في ذلك الوقت .. كان سكان الدار ، يرون من في الخارج ، ولكن من في الخارج ، لا يستطيعون رؤية اهل الدار او ما بداخلها ، رغم ان بعض هذه الشبابيك يكون قريب جدا من ارض الشارع .
السبب في حجبها للرؤية من الخارج للداخل ، كونها مصممة على شكل نتوءات هندسية مختلفة ، مزخرفة للخارج ، وهذه النتوءات مغطاة بمشبكات مصنوعة من خشب الصاج او الجاوي خفيف الوزن ، تحمل على روافع خشبية مزوقة بمسامير كبيرة .
كانت تعرف تلك الشبابيك ( بالشناشيل ) .
تتميز الشناشيل بقيمة جمالية وفنية واجتماعية عالية في عراقنا ، لانها تعتبر من التراث الحضاري والمعماري القديم ، ومن الظواهر المألوفة ، في البيوت البغدادية التراثية، ومن معالمها الاسلامية المميزة . .
اكبر انتشار لها كان في العصر العثماني ، حيث وصلت الى ابهى صورها ، خاصة في العراق والشام ومصر وشبه الجزيرة العربية .
الغرب كعادته تستهويه العمارة الشرقية ، لذا كان للشناشيل دور كبير خاصة في القرون الوسطى في تزيين ابنيتهم وبعض قلاعهم .
اول من استخدم الشناشيل بكثرة كانوا اهل البصرة ، لذا تلقب البصرة بام الشناشيل .
وقد احتلت الشناشيل مساحات كبيرة في لوحات الرسامين العراقيين كذلك وردت في قصائد الشعراء كما في قصائد الشاعر العراقي بدر شاكر السياب مثل قصيدة
"شناشيل ابنة الجلبي " وغيرها .
كان يعرف ثراء اصحاب البيوت من شناشيلها لما تتطلبه من مال وكلفة عالية ، اليوم اصبحت ارثا مهملا يقتضي من المهتمين والمسؤولين العناية والاهتمام به لنحافظ عليه من التلف والخراب والزحف العمراني الحديث .
هيام الشرع[/B][/SIZE]
الشناشيل ... تراث جميل
كنت احب كثيرا التواجد والمبيت ، عند جدتي لوالدتي ، وكثيرا ما كنت احاول تقليدها ومساعدتها ، في انجاز اعمال البيت ، واتقصد دوما إتقان ما افعله ، لجذب انتباهها وكسب رضاها ..
لم اكن اعي تماما سبب تعلقي بدار جدتي ، فهو لم يكن كبيرا ، ولم تكن به حديقة الهو بها ، كما في بيتنا ، ولم يكن لديها اطفال من عمري ..
كل الذي كنت افقهه حينها ، اني كنت اشعر ، بالراحة والالفة والحنين عندها ، واستمتع كثيرا باللمة ، وخاصة عندما يجتمع اخوالي وخالاتي ، حول سفرة الطعام وهم يتبادلون احاديثهم المتنوعة ، واصواتهم وضحكاتهم تكاد تملأ جو الغرفة وانا استمع لهم بكل حب واهتمام .
فضلا عن ذلك كله ، كان يجذبني بشغف طقس جدتي اليومي ، في شرب الشاي المخدر ، على البابور (البريموس) ، وشوقي لسماع زقزقة صوت الملاعق الصغيرة ، وهي ترتطم بجدران الاستكانات ، كم كان لذاك الصوت صدى جميلا في داخلي .. كنا نجتمع جميعا في صالة وسط الدار نسيمها "الصالون" .. اجمل ما كان يميزها ، شبابيكها المبنية من الخشب ، بشكل هندسي جميل ومميز ، كنت اتلهف دوما للجلوس والنظر من خلالها ، للمارة والاطفال وهم يتراكضون ويلعبون ، والباعة المتجولين بعرباتهم ، وهم ينادون باعلى صوتهم .. شلغم حامض .. لبلبي .. دوندرمة .. شامية ...
يا الله .. كم كانت تلك المشاهد تشعرني بالألفة وكأني اعرف كل من كان يمر بالشارع ، او كل من كان يجلس في المقهى الذي كان بناصية الشارع ..
حقيقة ،تلك الشبابيك كانت ، مبعث سعادة لي ، كان ينبعث منها عطر بنكهة غامضة ، يجذبني اليها بقوة ، كلما بعدت عنها ..!
اوعزت حينها اختلافها عن شبابيك بيتنا ، كونها في بيت جدتي التي اشتاقها في كل حين ، لكن عندما كبرت علمت السبب ، فهو اضافة لما كنت اظنه في صغري ، فان تلك الشبابيك الغريبة كانت كمسرح ، اتفرج من خلاله على ما يدور خارج الدار ، اذ كانت تمثل لساكني الدار ، وسيلة اتصال بالعالم الخارجي !
شأنها شأن المنازل التي كان يسودها الجو المحافظ في ذلك الوقت .. كان سكان الدار ، يرون من في الخارج ، ولكن من في الخارج ، لا يستطيعون رؤية اهل الدار او ما بداخلها ، رغم ان بعض هذه الشبابيك يكون قريب جدا من ارض الشارع .
السبب في حجبها للرؤية من الخارج للداخل ، كونها مصممة على شكل نتوءات هندسية مختلفة ، مزخرفة للخارج ، وهذه النتوءات مغطاة بمشبكات مصنوعة من خشب الصاج او الجاوي خفيف الوزن ، تحمل على روافع خشبية مزوقة بمسامير كبيرة .
كانت تعرف تلك الشبابيك ( بالشناشيل ) .
تتميز الشناشيل بقيمة جمالية وفنية واجتماعية عالية في عراقنا ، لانها تعتبر من التراث الحضاري والمعماري القديم ، ومن الظواهر المألوفة ، في البيوت البغدادية التراثية، ومن معالمها الاسلامية المميزة . .
اكبر انتشار لها كان في العصر العثماني ، حيث وصلت الى ابهى صورها ، خاصة في العراق والشام ومصر وشبه الجزيرة العربية .
الغرب كعادته تستهويه العمارة الشرقية ، لذا كان للشناشيل دور كبير خاصة في القرون الوسطى في تزيين ابنيتهم وبعض قلاعهم .
اول من استخدم الشناشيل بكثرة كانوا اهل البصرة ، لذا تلقب البصرة بام الشناشيل .
وقد احتلت الشناشيل مساحات كبيرة في لوحات الرسامين العراقيين كذلك وردت في قصائد الشعراء كما في قصائد الشاعر العراقي بدر شاكر السياب مثل قصيدة
"شناشيل ابنة الجلبي " وغيرها .
كان يعرف ثراء اصحاب البيوت من شناشيلها لما تتطلبه من مال وكلفة عالية ، اليوم اصبحت ارثا مهملا يقتضي من المهتمين والمسؤولين العناية والاهتمام به لنحافظ عليه من التلف والخراب والزحف العمراني الحديث .
هيام الشرع[/B][/SIZE]