عبير حمودي تروي حكاية العراق بريشتها بقلم وعدسة: زياد جيوسي
في معرض تشكيلي ضم عدد كبير من فنانين عرب وفنانين من الاردن في زهرة الشمال مدينة اربد كان لقائي الأول مع ابداعات وفن الفنانة العراقية عبير حمودي، حيث وقفت امام لوحتها وبدأت الحديث عنها مع الفنانة رنا حتاملة التي التقيتها صدفة في المعرض، قلت لها هامسا: هذه اللوحة بالتأكيد لفنانة من العراق، فأنا اشعر أن اللوحة اعادتني لأيام دراستي هناك وجولاتي فيه، وأشعر أني اجول تاريخ العراق من سومر وحمورابي مرورا ببابل وبني العباس حتى العراق قبل الحرب والدمار، وحين عرفتني الفنانة على نفسها هنأتها وواصلت تجوالي، وبقيت الرغبة كامنة في صدري أن أرى ابداعات الفنانة وأجول فيها عبر رحلاتي المتتالية بين رام الله وعمَّان وأماكن أخرى، حتى تحققت هذه الرغبة منذ فترة قصيرة زمنيا قبل أن أعود لرام الله بعد غياب شعرت أنه قد طال في السفر.
التجوال في فضاءات الفنانة عبير حمودي هو عبارة عن رحلة سفر على مركب الزمان تعود بمتأمل اللوحات الى بدايات الحضارة في سومر، لتنقله من هناك عبر الحضارات المختلفة التي مرت على العراق، وصولا للعراق الفن والوعي والثقافة قبل سلسلة الحروب التي تعرض لها، فتم تخريب العراق وثقافته ومتاحفه وأثاره وفنه، وتشتت المبدعون في أصقاع الارض، ولكن الحنين الذي يسكن روح الفنانة لم يتوقف فتحول الى براكين من اشتعال واشتياق للوطن وأرض الوطن والحلم بوطن أجمل، وهذا انعكس بوضوح في لوحاتها المختلفة التي تناولت العراق بجماله وأحلامه وتاريخه والجمال.
حين نتناول ابداعات الفنانة عبير لا بد من تقسيم لوحاتها الى عدة مجموعات حسب الموضوعات التي تناولتها، رغم أن الفواصل بين المجموعات متداخلة بالفكرة ورمزية اللون واستخداماته، فالفكرة المشتركة في لوحات الفنانة هي العراق بتاريخه وتراثه، وإن تناولنا المجموعة الأولى فهي تدور حول لوحات التاريخ والتراث، وهي من ست لوحات، ويلاحظ ان اللوحات جميعها تناولت تراث وتاريخ العراق وروته من خلال الريشة واللون، ففي لوحة اعتمدت مساحة عرضية كبيرة أشبه بالجداريات نجد الفنانة رسمت حيا تراثيا مثلت فيه المساجد من خلال القباب والمآذن، ويلاحظ باللوحة أنها جعلت مسجدا في البداية وفي منتصف اللوحة لتتحرك بريشتها وتجعله وكأنه رأس مثلث للحي، منطلقة ببعد وعمق بصري في يمين ويسار اللوحة، وفي هذه اللوحة ركزت على تمثيل المساجد بأنماط بنائها التراثية واستخدام اللون للقباب من الأخضر الى الذهبي إلى الأخضر مع التركيز على اللون الأزرق الفيروزي، وهذا اللون تميزت به أعمال السيراميك الفنية في العراق، وهو لون يعود استخدامه من الفترة السومرية مرورا بكل الحضارات التي عرفها العراق، وصولا لمرحلة النهوض المعماري قبل الحرب ضد العراق وتدميره واعادته لمرحلة الفقر والخراب، ويلاحظ في هذه اللوحة أن الفنانة لجأت لاستخدام المباني التراثية التاريخية، فالشرفات الخشبية والشناشيل والأبواب المرتفعة القوسية من الأعلى والنوافذ الضيقة والقوسية من الأعلى بعض من تراث العراق المعماري، اضافة لتناسبه مع المناخ الحار صيفا والبارد شتاءًا، فطبيعة المناخ وقبل استخدام المكيفات لاحقا، لم تكن تسمح باستخدام النوافذ العرضية والمتسعة، ولم تترك الفنانة رمز العراق الأساسي وهو النخيل خارج الاطار، فكانت أشجار النخيل منتشرة بين الأبنية.
وفي لوحة متميزة أخرى نجد الفنانة رسمت على شكل معين هندسي يمتد بين منتصف الأربعة أضلاع للوحة، رمزيات تشير للحضارات المختلفة وهي اللوحة الأولى التي رأيتها للفنانة وأشرت اليها في بداية المقال، وفي هذه اللوحة نجد الفنانة وضعت مجموعة من الرموز التي ترمز لحضارات العراق عبر تاريخها، فنجد مسلة حمورابي سادس ملوك مملكة بابل القديمة والقيثارة البابلية التي تعود بأصولها لمرحلة الحضارة السومرية، ورمز الحرف المسماري، ومئذنة الملوية التي تعود لمرحلة العباسيين في عهد الخليفة المتوكل، إضافة لبوابة بابل والعديد من الأبنية والمساجد التي تمثل مراحل مختلفة من تاريخ العمران في العراق، اضافة لرف من الحمام المحلق وغالبيته من اللون الأبيض، وهي اشارة للسلام الذي كان يسود العراق قبل الغزو الامريكي والحصار الذي عم العراق قبل الغزو لسنوات طويلة، وقد اعتمدت خارج الشكل المعيني الألوان الأزرق الفيروزي بدرجتين بإشارة لمرحلتين من استخدام هذا اللون بالزخرفة، مرحلة التاريخ القديم والمرحلة الأسلامية، اضافة لاستخدام اللون الارجواني وكأنه نيران تشتعل في السماء، اشارة لما حل بالعراق من خراب في المرحلة الأخيرة، ولعل رمزية استخدام المعين كشكل هندسي له علاقة بشكل تقارب التقاء نهري دجلة والفرات في منتصف العراق حتى توحدهما في شط العرب، وهو شكل أقرب للمعين الهندسي، اضافة أن شكل المعين الهندسي من الأشكال التي استخدمت في تاريخ الأختام العراقية عبر العصور المختلفة.
ويلاحظ في لوحات التاريخ والتراث أن الفنانة تمازج الماضي بالحاضر عبر الحضارات المختلفة بشكل أو آخر، اضافة لاستخدام الرمزيات مثل النهر اشارة للر افدين أو النخلة رمزا للعراق، باستثناء لوحة واحدة كانت تمثل أحد أبناء الحضارة السومرية وهو يكتب (بالحفر) باللغة السومرية المسمارية على جدار طيني، ولعلها رمزت من خلال هذه اللوحة الى أقدم حضارة عرفت بالعراق وتعود لستة الآف عام قبل الميلاد.
حين نمر بالمجموعة الثانية وهي حول التراث الشعبي نجد أن الفنانة مثلت التراث الشعبي وخاصة الموسيقى التراثية فنجدها رسمت اربعة لوحات تمثل أدوات العزف والعازفين، فنجد ثلاثة عازفين كل يعزف على آلة موسيقية وهي القانون والطبلة (الدنبك) باللهجة العراقية وهي تختلف عن الطبل الاعتيادي، وآلة وترية اسمها "الجوزة" وهي تشابه الربابة، وامرأة تعزف على العود، ولوحة تراثية أخرى تصور امرأة تقف أمام محل مختص ببيع النحاسيات (سوق الصفافير) وتحمل صينية نحاسية بيدها، وهي بهذه المجموعة من خمسة لوحات صورت بعض من التراث العراقي فنحن نجد الموسيقين يرتدون الكوفية العراقية على رؤوسهم باللفة التراثية مع الأزياء الشعبية الخاصة بالرجال، والفتاة ترتدي ايضا الفستان التراثي والذي كانت نساء العراق يلبسنه تحت العباءة، بينما المرأة أمام محل النحاسيات ترتدي العباءة العراقية المعروفة.
المجموعة الثالثة وهي لوحات المكان وتتكون من أحد عشر لوحة، مع ملاحظة أن الفنانة لجأت في 3 لوحات لطريقة انها رسمتها منفردة، ولكنها تعرض بإطار واحد مع ترك مسافة قصيرة بين اللوحة والأخرى، فيمكن ان تكون كل لوحة مستقلة، ولكن الجمالية بوحدتها معا حيث تمثل وحدة لحي تراثي وكل لوحة طغى عليها لون يظهرها وكأنها منفصلة، فلوحة طغى عليها اللون الأخضر وهي يمين اللوحة وكأنها ترمز للخصب في العراق بمرحلة معينة، والوسطى وهي تمثل المسجد طغى عليها اللون الأحمر وكأنها لون رمزي لاشتعال حرب طائفية في العراق غمرت المساجد بالدم، والثالثة طغى عليها اللون الأصفر الصحراوي وكأنها شارة لمرحلة الجدب التي بدأ العراق يعيشها بعد الاحتلال والصراع المذهبي، وفي لوحتين أخريين لجأت لنفس الطريقة حيث لجأت لوحدة وانفراد اللوحة، ولكنها تميزت باستخدام الخط العربي بأسفل اللوحة وكونها لا تجيد الخط أعتقد انها لجأت لفنان في الخط لوضع الاشارات والأحرف، لكن اللوحة رمزت بوضوح لفترة الازدهار العمراني والثقافي، مرحلة كادت الأمية أن تصبح شيئا من الماضي في العراق، بينما في 3 لوحات منفصلة مثلت الأحياء الشعبية بأزقتها "الدرابين" في اللهجة العراقية، وتقارب أبنيتها مع ظهور أشخاص بالأزياء التراثية للرجل والمرأة، ولم تغفل حتى قنوات تصريف الماء في هذه الأحياء بين البيوت، وهذه مشاهد أذكرها اثناء دراستي في العراق، وفي لوحة أخرى لجأت للزخرفة المرتبطة بالمساجد المتميزة باستخدام السراميك فيها ونمط البناء، فظهرت عبارات التوحيد اضافة لرمزية الديك الذي يقف على مكان مرتفع وكأنه يستعد للصياح مشيرا لاستقبال الفجر القادم، بينما اختلفت اللوحتان الباقيتين عن السابقات، فواحدة مثلت أهوار العراق وامرأة تحرك القارب بالمجداف، ففي الأهوار كانت القوارب وسيلة الحركة بين البيوت المبنية من القصب والخشب على جزر منعزلة بين المياه، واللوحة الأخيرة خرجت بها عن العراق الى الاردن تاريخا وحضارة، ولعل هذه اللوحة ناتجة عن اقامتها الطويلة بالاردن او بعض من وفاء لوطن احتضنها في ظل الموت الذي يجتاح واجتاح وطنها الأصلي.
المجموعة الرابعة وهي لوحة واحدة حملت اسم: امرأة التذكر، وفي هذه اللوحة حاولت الفنانة أن تخرج عن تأثير العراق بتراثه وتاريخه وحضارته والذي يأسرها، ولكن من يقرأ اللوحة جيدا سيجد أن لم تتمكن من ذلك تماما، فاللوحة عبارة عن امرأة تغمض عينيها وتعيش في حالة من الغياب عن الواقع الملموس لبعض من الوقت، ومن خلال اسم اللوحة نكتشف فورا أن المرأة (الفكرة) في اللوحة تغمض عينيها وتفكر فيما مضى وتستعيد الذاكرة، وواضح من ملامح المرأة وتفاصيل جسدها أنها امرأة شابة في مرحلة النضوج وليست شابة صغيرة، وفي نفس الوقت ليست بسيدة بلغت من العمر الكثير فتستعيد الذكرى والذاكرة، ومن خلال تدقيق خلفية اللوحة نجد ابنية حديثة مرتفعة ونجد القمر هلالا مما يشير أن انعكاسات اللوحة حديثة من خلال الابنية، وأن الوقت ليلا من خلال ظهور القمر هلالي الشكل وأن السماء صافية، وهذا يعطينا فكرة أن الشابة في اللوحة تمثل المرأة أو تمثل الفكرة من خلال المرأة المعاصرة وليست امرأة الماضي، وأن الذاكرة تجول في الجانب الجميل فيما مضى من حياتها، فسكنات الليل وصفاء السماء مع انارة القمر اشارة للحظات هدوء وسكينة، وايضا حين نتأمل الألوان المستخدمة نجدها ألوان فرحة في المباني، ومازجت الألوان الحارة مع الباردة فكان البرتقالي والأزرق والأبيض والبني الداكن والأحمر، مع ملاحظة أن الألوان كانت واضحة بقوة رغم أن الوقت ليلا، وهي كما رأيتها اشارة رمزية أن الذكرى فرحة وسعيدة للمرأة.
لونظرنا الى يمين اللوحة بالنسبة للمشاهد سنجد الوانا منسكبة وكأنها شلال قاعدته داكنة ومن ثم تصعد بانارة قوية، والقاعدة تشير لأشكال يمكن ان تكون أشكال لأشخاص مرسومة بشكل تعبيري والنور في اعلاهم وفي الأفق امامهم وكأنهم يسيرون نحو الفرح واشراقة الشمس التي بدأت تغمرهم، وهذا النور عكس نفسه على اللوحة فأضائها لذا نجد الفنانة لجأت للتباين اللوني بين الوضوح والظلال من خلال هذه الاضاءة، وهذا ما نراه على يمين وجه المرأة بالنسبة للمشاهد ويمين الأبنية.
المرأة في اللوحة اسقطت عليها الفنانة مجموعة من اللمسات التي تثير الانتباه، فلون الشعر اشقر والمرأة تميل لهذا اللون في وجهها، وهذا اختلف عن المعتاد بشكل عام في رسم النساء في منطقتنا عامة وفي العراق خاصة (بلد الفنانة) حيث يميل اعتماد السمرة بتدرجاتها على وجوه النساء بحكم الطبيعة العامة بسبب المناخ والجو، وربما ان اسلوب الفنانة هنا وكما اشرت في البداية اشارة للمعاصرة وليس الماضي، وفي نفس الوقت اعطت جماليات خاصة للمرأة في الرقبة، فكانت طويلة نسبيا مقارنة بالنسب التشرحية للجسد، وهنا يمكن الاستنتاج أنها لجأت للرمزية في مسألتين: الأولى الجماليات في المنطقة العربية للمرأة تشير للرقبة الطويلة، وأيضا حين تشرئب الأعناق وهي تنظر او تحلم بفكرة الماضي او الغد.
ثوب المرأة باللون الأحمر وهو من الألوان الحارة والتي تحمل أكثر من رمز حسب الاستخدام وموقعه، ولكنه هنا ارتبط بالمرحلة العمرية والأناقة لهذا السن، القلادة على الثوب مرتبطة بالتراث والتاريخ فهي مستمدة من القلائد التي استخدمت في الحضارت التي مرت على العراق عبر التاريخ، ويوجد منها في المتاحف وفي الرسومات والمنحوتات القديمة، وهي بطرفيها كنصف دائرة تقع على جوانب النهدين العارمين للمرأة وكأنها رمزية للعطاء في المرأة عبر التاريخ، بينما انعكاس النور على وجهها يشير الى مرحلتين بين الانارة القوية والأقل، ويأتي الانعكاس اللوني وكأنه خصلة شعر تقسم الوجه لقسمين، فاللوحة فيها الكثير من الاشارات التي تلفت نظر القارئ للوحة، وتؤكد أن الفنانة خرجت بالأسلوب والشكل من تأثر العراق على روحها، لكنها لم تخرج من تأثير الفكرة.
الفنانة عبير لم تدرس الفن أكاديميا باستثناء دورة فنية في الأردن، وإن تملكها اللون وتمتلكتها الريشة منذ الطفولة، وتأثرت روحها بما شهده العراق من أهوال واحتلالات عبر المرحلة التي عاشتها، اضافة لانشدادها لوطنها العراق بعد مرحلة طويلة من الغياب القسري الذي فرض عليها كما فرض على الكثير من أبناء العراق، فكان العراق بتراثه وتاريخه وفرحه وألمه هو من يحكم لوحاتها وروحها، ومع هذا نجدها تتقن استخدام التقنية الفنية جيدا في لوحاتها، ولكن بعض اللوحات لم تخلوا من بعض الهنات ونقاط الضعف، لكن هذه الملاحظات تبقى قليلة أمام روعة الفكرة وابداع روح الفنانة وهي تروي حكاية العراق بريشتها.
(رام الله 2/1/2017)
التجوال في فضاءات الفنانة عبير حمودي هو عبارة عن رحلة سفر على مركب الزمان تعود بمتأمل اللوحات الى بدايات الحضارة في سومر، لتنقله من هناك عبر الحضارات المختلفة التي مرت على العراق، وصولا للعراق الفن والوعي والثقافة قبل سلسلة الحروب التي تعرض لها، فتم تخريب العراق وثقافته ومتاحفه وأثاره وفنه، وتشتت المبدعون في أصقاع الارض، ولكن الحنين الذي يسكن روح الفنانة لم يتوقف فتحول الى براكين من اشتعال واشتياق للوطن وأرض الوطن والحلم بوطن أجمل، وهذا انعكس بوضوح في لوحاتها المختلفة التي تناولت العراق بجماله وأحلامه وتاريخه والجمال.
حين نتناول ابداعات الفنانة عبير لا بد من تقسيم لوحاتها الى عدة مجموعات حسب الموضوعات التي تناولتها، رغم أن الفواصل بين المجموعات متداخلة بالفكرة ورمزية اللون واستخداماته، فالفكرة المشتركة في لوحات الفنانة هي العراق بتاريخه وتراثه، وإن تناولنا المجموعة الأولى فهي تدور حول لوحات التاريخ والتراث، وهي من ست لوحات، ويلاحظ ان اللوحات جميعها تناولت تراث وتاريخ العراق وروته من خلال الريشة واللون، ففي لوحة اعتمدت مساحة عرضية كبيرة أشبه بالجداريات نجد الفنانة رسمت حيا تراثيا مثلت فيه المساجد من خلال القباب والمآذن، ويلاحظ باللوحة أنها جعلت مسجدا في البداية وفي منتصف اللوحة لتتحرك بريشتها وتجعله وكأنه رأس مثلث للحي، منطلقة ببعد وعمق بصري في يمين ويسار اللوحة، وفي هذه اللوحة ركزت على تمثيل المساجد بأنماط بنائها التراثية واستخدام اللون للقباب من الأخضر الى الذهبي إلى الأخضر مع التركيز على اللون الأزرق الفيروزي، وهذا اللون تميزت به أعمال السيراميك الفنية في العراق، وهو لون يعود استخدامه من الفترة السومرية مرورا بكل الحضارات التي عرفها العراق، وصولا لمرحلة النهوض المعماري قبل الحرب ضد العراق وتدميره واعادته لمرحلة الفقر والخراب، ويلاحظ في هذه اللوحة أن الفنانة لجأت لاستخدام المباني التراثية التاريخية، فالشرفات الخشبية والشناشيل والأبواب المرتفعة القوسية من الأعلى والنوافذ الضيقة والقوسية من الأعلى بعض من تراث العراق المعماري، اضافة لتناسبه مع المناخ الحار صيفا والبارد شتاءًا، فطبيعة المناخ وقبل استخدام المكيفات لاحقا، لم تكن تسمح باستخدام النوافذ العرضية والمتسعة، ولم تترك الفنانة رمز العراق الأساسي وهو النخيل خارج الاطار، فكانت أشجار النخيل منتشرة بين الأبنية.
وفي لوحة متميزة أخرى نجد الفنانة رسمت على شكل معين هندسي يمتد بين منتصف الأربعة أضلاع للوحة، رمزيات تشير للحضارات المختلفة وهي اللوحة الأولى التي رأيتها للفنانة وأشرت اليها في بداية المقال، وفي هذه اللوحة نجد الفنانة وضعت مجموعة من الرموز التي ترمز لحضارات العراق عبر تاريخها، فنجد مسلة حمورابي سادس ملوك مملكة بابل القديمة والقيثارة البابلية التي تعود بأصولها لمرحلة الحضارة السومرية، ورمز الحرف المسماري، ومئذنة الملوية التي تعود لمرحلة العباسيين في عهد الخليفة المتوكل، إضافة لبوابة بابل والعديد من الأبنية والمساجد التي تمثل مراحل مختلفة من تاريخ العمران في العراق، اضافة لرف من الحمام المحلق وغالبيته من اللون الأبيض، وهي اشارة للسلام الذي كان يسود العراق قبل الغزو الامريكي والحصار الذي عم العراق قبل الغزو لسنوات طويلة، وقد اعتمدت خارج الشكل المعيني الألوان الأزرق الفيروزي بدرجتين بإشارة لمرحلتين من استخدام هذا اللون بالزخرفة، مرحلة التاريخ القديم والمرحلة الأسلامية، اضافة لاستخدام اللون الارجواني وكأنه نيران تشتعل في السماء، اشارة لما حل بالعراق من خراب في المرحلة الأخيرة، ولعل رمزية استخدام المعين كشكل هندسي له علاقة بشكل تقارب التقاء نهري دجلة والفرات في منتصف العراق حتى توحدهما في شط العرب، وهو شكل أقرب للمعين الهندسي، اضافة أن شكل المعين الهندسي من الأشكال التي استخدمت في تاريخ الأختام العراقية عبر العصور المختلفة.
ويلاحظ في لوحات التاريخ والتراث أن الفنانة تمازج الماضي بالحاضر عبر الحضارات المختلفة بشكل أو آخر، اضافة لاستخدام الرمزيات مثل النهر اشارة للر افدين أو النخلة رمزا للعراق، باستثناء لوحة واحدة كانت تمثل أحد أبناء الحضارة السومرية وهو يكتب (بالحفر) باللغة السومرية المسمارية على جدار طيني، ولعلها رمزت من خلال هذه اللوحة الى أقدم حضارة عرفت بالعراق وتعود لستة الآف عام قبل الميلاد.
حين نمر بالمجموعة الثانية وهي حول التراث الشعبي نجد أن الفنانة مثلت التراث الشعبي وخاصة الموسيقى التراثية فنجدها رسمت اربعة لوحات تمثل أدوات العزف والعازفين، فنجد ثلاثة عازفين كل يعزف على آلة موسيقية وهي القانون والطبلة (الدنبك) باللهجة العراقية وهي تختلف عن الطبل الاعتيادي، وآلة وترية اسمها "الجوزة" وهي تشابه الربابة، وامرأة تعزف على العود، ولوحة تراثية أخرى تصور امرأة تقف أمام محل مختص ببيع النحاسيات (سوق الصفافير) وتحمل صينية نحاسية بيدها، وهي بهذه المجموعة من خمسة لوحات صورت بعض من التراث العراقي فنحن نجد الموسيقين يرتدون الكوفية العراقية على رؤوسهم باللفة التراثية مع الأزياء الشعبية الخاصة بالرجال، والفتاة ترتدي ايضا الفستان التراثي والذي كانت نساء العراق يلبسنه تحت العباءة، بينما المرأة أمام محل النحاسيات ترتدي العباءة العراقية المعروفة.
المجموعة الثالثة وهي لوحات المكان وتتكون من أحد عشر لوحة، مع ملاحظة أن الفنانة لجأت في 3 لوحات لطريقة انها رسمتها منفردة، ولكنها تعرض بإطار واحد مع ترك مسافة قصيرة بين اللوحة والأخرى، فيمكن ان تكون كل لوحة مستقلة، ولكن الجمالية بوحدتها معا حيث تمثل وحدة لحي تراثي وكل لوحة طغى عليها لون يظهرها وكأنها منفصلة، فلوحة طغى عليها اللون الأخضر وهي يمين اللوحة وكأنها ترمز للخصب في العراق بمرحلة معينة، والوسطى وهي تمثل المسجد طغى عليها اللون الأحمر وكأنها لون رمزي لاشتعال حرب طائفية في العراق غمرت المساجد بالدم، والثالثة طغى عليها اللون الأصفر الصحراوي وكأنها شارة لمرحلة الجدب التي بدأ العراق يعيشها بعد الاحتلال والصراع المذهبي، وفي لوحتين أخريين لجأت لنفس الطريقة حيث لجأت لوحدة وانفراد اللوحة، ولكنها تميزت باستخدام الخط العربي بأسفل اللوحة وكونها لا تجيد الخط أعتقد انها لجأت لفنان في الخط لوضع الاشارات والأحرف، لكن اللوحة رمزت بوضوح لفترة الازدهار العمراني والثقافي، مرحلة كادت الأمية أن تصبح شيئا من الماضي في العراق، بينما في 3 لوحات منفصلة مثلت الأحياء الشعبية بأزقتها "الدرابين" في اللهجة العراقية، وتقارب أبنيتها مع ظهور أشخاص بالأزياء التراثية للرجل والمرأة، ولم تغفل حتى قنوات تصريف الماء في هذه الأحياء بين البيوت، وهذه مشاهد أذكرها اثناء دراستي في العراق، وفي لوحة أخرى لجأت للزخرفة المرتبطة بالمساجد المتميزة باستخدام السراميك فيها ونمط البناء، فظهرت عبارات التوحيد اضافة لرمزية الديك الذي يقف على مكان مرتفع وكأنه يستعد للصياح مشيرا لاستقبال الفجر القادم، بينما اختلفت اللوحتان الباقيتين عن السابقات، فواحدة مثلت أهوار العراق وامرأة تحرك القارب بالمجداف، ففي الأهوار كانت القوارب وسيلة الحركة بين البيوت المبنية من القصب والخشب على جزر منعزلة بين المياه، واللوحة الأخيرة خرجت بها عن العراق الى الاردن تاريخا وحضارة، ولعل هذه اللوحة ناتجة عن اقامتها الطويلة بالاردن او بعض من وفاء لوطن احتضنها في ظل الموت الذي يجتاح واجتاح وطنها الأصلي.
المجموعة الرابعة وهي لوحة واحدة حملت اسم: امرأة التذكر، وفي هذه اللوحة حاولت الفنانة أن تخرج عن تأثير العراق بتراثه وتاريخه وحضارته والذي يأسرها، ولكن من يقرأ اللوحة جيدا سيجد أن لم تتمكن من ذلك تماما، فاللوحة عبارة عن امرأة تغمض عينيها وتعيش في حالة من الغياب عن الواقع الملموس لبعض من الوقت، ومن خلال اسم اللوحة نكتشف فورا أن المرأة (الفكرة) في اللوحة تغمض عينيها وتفكر فيما مضى وتستعيد الذاكرة، وواضح من ملامح المرأة وتفاصيل جسدها أنها امرأة شابة في مرحلة النضوج وليست شابة صغيرة، وفي نفس الوقت ليست بسيدة بلغت من العمر الكثير فتستعيد الذكرى والذاكرة، ومن خلال تدقيق خلفية اللوحة نجد ابنية حديثة مرتفعة ونجد القمر هلالا مما يشير أن انعكاسات اللوحة حديثة من خلال الابنية، وأن الوقت ليلا من خلال ظهور القمر هلالي الشكل وأن السماء صافية، وهذا يعطينا فكرة أن الشابة في اللوحة تمثل المرأة أو تمثل الفكرة من خلال المرأة المعاصرة وليست امرأة الماضي، وأن الذاكرة تجول في الجانب الجميل فيما مضى من حياتها، فسكنات الليل وصفاء السماء مع انارة القمر اشارة للحظات هدوء وسكينة، وايضا حين نتأمل الألوان المستخدمة نجدها ألوان فرحة في المباني، ومازجت الألوان الحارة مع الباردة فكان البرتقالي والأزرق والأبيض والبني الداكن والأحمر، مع ملاحظة أن الألوان كانت واضحة بقوة رغم أن الوقت ليلا، وهي كما رأيتها اشارة رمزية أن الذكرى فرحة وسعيدة للمرأة.
لونظرنا الى يمين اللوحة بالنسبة للمشاهد سنجد الوانا منسكبة وكأنها شلال قاعدته داكنة ومن ثم تصعد بانارة قوية، والقاعدة تشير لأشكال يمكن ان تكون أشكال لأشخاص مرسومة بشكل تعبيري والنور في اعلاهم وفي الأفق امامهم وكأنهم يسيرون نحو الفرح واشراقة الشمس التي بدأت تغمرهم، وهذا النور عكس نفسه على اللوحة فأضائها لذا نجد الفنانة لجأت للتباين اللوني بين الوضوح والظلال من خلال هذه الاضاءة، وهذا ما نراه على يمين وجه المرأة بالنسبة للمشاهد ويمين الأبنية.
المرأة في اللوحة اسقطت عليها الفنانة مجموعة من اللمسات التي تثير الانتباه، فلون الشعر اشقر والمرأة تميل لهذا اللون في وجهها، وهذا اختلف عن المعتاد بشكل عام في رسم النساء في منطقتنا عامة وفي العراق خاصة (بلد الفنانة) حيث يميل اعتماد السمرة بتدرجاتها على وجوه النساء بحكم الطبيعة العامة بسبب المناخ والجو، وربما ان اسلوب الفنانة هنا وكما اشرت في البداية اشارة للمعاصرة وليس الماضي، وفي نفس الوقت اعطت جماليات خاصة للمرأة في الرقبة، فكانت طويلة نسبيا مقارنة بالنسب التشرحية للجسد، وهنا يمكن الاستنتاج أنها لجأت للرمزية في مسألتين: الأولى الجماليات في المنطقة العربية للمرأة تشير للرقبة الطويلة، وأيضا حين تشرئب الأعناق وهي تنظر او تحلم بفكرة الماضي او الغد.
ثوب المرأة باللون الأحمر وهو من الألوان الحارة والتي تحمل أكثر من رمز حسب الاستخدام وموقعه، ولكنه هنا ارتبط بالمرحلة العمرية والأناقة لهذا السن، القلادة على الثوب مرتبطة بالتراث والتاريخ فهي مستمدة من القلائد التي استخدمت في الحضارت التي مرت على العراق عبر التاريخ، ويوجد منها في المتاحف وفي الرسومات والمنحوتات القديمة، وهي بطرفيها كنصف دائرة تقع على جوانب النهدين العارمين للمرأة وكأنها رمزية للعطاء في المرأة عبر التاريخ، بينما انعكاس النور على وجهها يشير الى مرحلتين بين الانارة القوية والأقل، ويأتي الانعكاس اللوني وكأنه خصلة شعر تقسم الوجه لقسمين، فاللوحة فيها الكثير من الاشارات التي تلفت نظر القارئ للوحة، وتؤكد أن الفنانة خرجت بالأسلوب والشكل من تأثر العراق على روحها، لكنها لم تخرج من تأثير الفكرة.
الفنانة عبير لم تدرس الفن أكاديميا باستثناء دورة فنية في الأردن، وإن تملكها اللون وتمتلكتها الريشة منذ الطفولة، وتأثرت روحها بما شهده العراق من أهوال واحتلالات عبر المرحلة التي عاشتها، اضافة لانشدادها لوطنها العراق بعد مرحلة طويلة من الغياب القسري الذي فرض عليها كما فرض على الكثير من أبناء العراق، فكان العراق بتراثه وتاريخه وفرحه وألمه هو من يحكم لوحاتها وروحها، ومع هذا نجدها تتقن استخدام التقنية الفنية جيدا في لوحاتها، ولكن بعض اللوحات لم تخلوا من بعض الهنات ونقاط الضعف، لكن هذه الملاحظات تبقى قليلة أمام روعة الفكرة وابداع روح الفنانة وهي تروي حكاية العراق بريشتها.
(رام الله 2/1/2017)