أخبار قناة الشمس

×

اضغط هنا إن لم يقم المتصفح بتحويلك آليًا.

الفرق بين (جاء) و (أتى) في كتاب الله .....

الفرق بين (جاء) و (أتى) في كتاب الله .....
 

الفرق بين (جاء) و (أتى) في كتاب الله .....

استخدم القرآن الكريم لفظة ( جاء ) ومشتقاتها في 278 موضعاً في القرآن الكريم كله ، كما في قوله تعالى :

( حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون ) الأنعام: ٦١ .

( حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا يحسرتنا على ما فرطنا فيها ) الأنعام : 31 .

( وجِاْىء يومئذ بجهنم يومئذ يتذكر الإنسن وأنى له الذكرى ) الفجر : 23 .

واستخدم القرآن الكريم لفظة ( أتى ) ومشتقاتها في 261 موضعاً في القرآن الكريم كله ، كما في قوله تعالى :

( أتى أمر الله فلا تستعجلوه ) النحل : 1 .

( ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه ) التوبة : 92 .

( لعلي ءاتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى ) طه : 10 .

ويظن كثير من الناس أن استخدام إحدى اللفظتين ( جاء ، أتى ) يغني عن استخدام الأخرى ، ولكننا بتدبر القرآن الكريم وقد استخدم اللفظتين في مواضع كثيرة متشابهة يمكننا أن نقف على الخيط الرفيع الذي يفصل بين المعنيين ، بخاصة وأن القرآن الكريم لا يختار اللفظة عشوائياً ، بل إن لكل لفظة منه معناها المستقل الذي ينسجم مع السياق العام للكلام .
ونستطيع أن نقول إن الفرق المعنوي بين ( جاء ) و ( أتى ) أن الأولى ( جاء ) تكون عادة مترافقة مع معاني ( المشقة ، وبعد المسافة ، والتعب ، وطول الزمن ) ، وأن الثانية ( أتى ) تكون عادة مع معاني ( السهولة واليسر ، وقصر المسافة ، وقصر الزمن ، والعمومية ) .

ولتقريب المعنى في اللفظتين ، نضرب مثلاً من التصوير السينمائي ، بخاصة الموضع الذي يختار المخرج أن يضع فيه الكاميرا ، فإذا كان المشهد يصور شخصاً يمشي نحو أشخاص موجودين في مكان ما ، واختار المخرج أن يضع الكاميرا عند الأشخاص بحيث تصور الشخص القادم إليهم وهو يدخل عليهم ، قلنا عن الشخص إنه ( أتى ) ، لأن الرائي من خلال الكاميرا لم ير الشخص القادم إلا لحظة وصوله ، فلم يعلم إن كان قد صادف مشقة في ( مجيئه ) ، ولا إن كان قد ( جاء ) من مكان بعيد . أما إذا اختار المخرج أن يجعل الكاميرا في مكان يصور المشهد من بعيد بحيث أن الرائي من خلال الكاميرا يرى الشخص القادم وهو يمشي مسافة طويلة نوعاً ما قبل أن يصل الى الأشخاص الآخرين قلنا إنه ( جاء ) .

ويتجلى معنى ( المجيء ) في قوله تعالى : ( وجاء من أقصا المدينة رجل يسعى ) يس: ٢٠ . وفي قوله تعالى : ( وجاء رجل من أقصا المدينة يسعى ) القصص: ٢٠ . لأن الرجل جاء من مكان بعيد ( أقصى المدينة ) ، وهو يسير على رجليه مسرعاً ( يسعى ) وليس راكباً ، فهو إذاً يعاني مشقة المجيء ، ولذلك استخدم القرآن الكريم لفظة ( جاء ) .

بينما يتجلى معنى ( الإتيان ) في قوله تعالى : ( قال عفريت من الجن أنا ءاتيك به قبل أن تقوم من مقامك ) النمل: ٣٩ . وفي قوله تعالى : ( قال الذي عنده علم من الكتب أنا ءاتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك ) النمل: ٤٠ . لأن كلا العفريت والشخص الذي عنده علم من الكتاب أراد أن يظهر لسليمان قدرته الخارقة في إحضار عرش ملكة سبأ في سهولة ويسر وسرعة ، ولذلك استخدم القرآن الكريم تعبير ( آتيك به ) ولم يستخدم ( أجيئك به ) .

على أن القرآن الكريم قد استخدم اللفظتين ( جاء ، أتى ) في مقام واحد في قصة موسى في سورتي طه والنمل . حيث نقرأ في طه : ( إذ رءا ناراً فقال لأهله امكثوا إني ءانست ناراً لعلي ءاتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى (10) فلما أتها .. ) طه: ١٠ - ١١ . فقالت الآية هنا ( فلما أتاها ) . ونقرأ في النمل : ( إذا قال موسى لأهله إني ءانست ناراً سـءاتيكم منها بخبر أو ءاتيكم بشهاب قبس لعلكم تصطلون (7) فلما جاءها .... النمل: ٧ - ٨ . بينما قالت الآية هنا ( فلما جاءها ) .

فالقصة هنا واحدة ، وبطلها هو موسى ، ولكن الذي اختلف هو طريقة عرضها على المستمع ، والواقع أن السياق في السورتين مختلف ، ففي سورة طه نجد السياق ليناً ويسيراً ، بدليل أن حديث موسى لأهله فيه رقة ولطف في قوله ( لعلي ءاتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى ) ، فهو هنا يرجو أن يأتي بقبس في قوله ( لعلي ) ، ولذلك اقتضى السياق أن يأتي التعبير ( فلما أتاها ) موافقاً للرقة واللين ، بينما في سورة النمل نجد السياق قوياً صلباً بدليل أن حديث موسى لأهله فيه قوة وثقة في قوله ( سـءاتيكم منها بخبر أو ءاتيكم بشهاب قبس ) ، فهو هنا يؤكد ( سآتيكم ) ثم يزيد على القبس ( بشهاب قبس ) ، ولذلك اقتضى السياق أن يأتي التعبير ( فلما جاءها ) موافقاً للشدة والقوة .

ولكن حين نتساءل أيهما كان ؟ هل ( جاء ) موسى ؟ أم ( أتى ) ؟ تجيبنا على تساؤلنا آية سورة القصص والتي نقرأ فيها : ( فلما أتها نودي من شاطئ الواد الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يموسى إني أنا الله رب العلمين ) القصص: ٣٠ . وفي ذلك إظهار لروعة الأسلوب القرآني وعظمته ، لأن هذا الإيجاز يجعلنا نفهم القصة بتفصيل أبعد ، فنفهم أن موسى أبلغ أهله في البداية برغبته في الذهاب الى مصدر النار لعله يأتي منه بقبس وقد كان متردداً في الذهاب ، أو كان يحاول إقناع زوجته الخائفة في ليونة ويسر ، ولا بد أن حواراً دار بينه وبين زوجته حول ذلك إذ ربما كانت الزوجة خائفة من ترك موسى لها وحيدة ، أو خائفة عليه من المغامرة ، ثم قرر موسى بعد ذلك بحزم أن يذهب الى مصدر النار ويأتي من هناك بشهاب قبس . ثم نفهم من تفصيل المكان في سورة القصص ( شاطئ الواد الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة ) ، أن موسى قطع بعض المسافة في سهولة ويسر وهي المسافة التي تبدأ من مكان وجود أهله الى بداية صعود الجبل ، ثم قطع الجزء الباقي في شيء من المشقة وهو يصعد الجبل ، حتى نودي من شاطئ الواد الأيمن ، وشاطئ الواد يعني مكاناً مرتفعاً نوعاً عن الوادي .

وقد استخدم القرآن الكريم اللفظتين ( جاء ، أتى ) ، في مقام واحد آخر ، حيث استخدم ( جاء ) في قوله تعالى عن إبراهيم في سورة الصافات ( وإن من شيعته لإبرهيم (83) إذ جاء ربه بقلب سليم ) الصافات: ٨٣ - ٨٤ . واستخدم لفظة ( أتى ) في قوله تعالى على لسان إبراهيم في سورة الشعراء ( ولا تخزني يوم يبعثون (87) يوم لا ينفع مال ولا بنون (88) إلا من أتى الله بقلب سليم ) الشعراء: ٨٧ - ٨٩ .

أما آية الصافات فقد استخدمت ( جاء ) لأن الله تعالى يقص علينا قصة إبراهيم ، وقد أراد أن يبرز معنى المشقة التي خاضها إبراهيم في حياته حتى ( جاء ربه بقلب سليم ) . وأما آية الشعراء فقد استخدمت ( أتى ) لأن المتحدث هو إبراهيم ، فأراد أن يغفل ذكر المشقة ويبرز رحمة الله يوم القيامة .

من هنا يتضح لنا هذا الفرق الدقيق والخيط الرفيع بين لفظتين من ألفاظ القرآن الكريم ، وكيف أن الأسلوب القرآني استخدم اللفظتين كلتيهما في معان على درجة عالية جداً من الدقة .