ربما كان يحلم وكنت أحلم.. بقلم / وسيلة الحلبي
ربما كان يحلم وكنت أحلم..
بقلم / وسيلة الحلبي
الصدفة وحدها قادتني إليه ، قطعت المسافات الطويلة حتى وصلت إليه، وبغير شعور حركتُ يدي أود أن أمنعه، بقيت مرتبكة وحائرة، لم أحس بأي خوف تجاهه.. جلست على الكرسي الضخم في مكتبه، كانت يداه تعبثان (بالغليون) أحياناً وبنظارته أحياناً أخرى. ومرات عديدة كان يرد على المكالمات الهاتفية التي كانت تأتي كتوارد الخواطر وقت الخلوة في منتصف الليل أو كان يتكلم مع أحدهم أو إحداهن. شخصية قوية جداً كانت تجلس أمامي خلف المكتب.. كان جلداً صبوراً مبتسماً دائماً.. صوته هادئ، قسماته تتغلغل داخل النفس وترتكز في مراكز الإحساس وتدخل بسلاسة عجيبة إلى المشاعر، ذبذبات صوته كأنها أنغام أم كلثوم على شاطئ البحر الأحمر. لا أنكر أبداً أنني مذ رأيته شعرت بإحساس غريب يدخل فؤادي.. يقرع على باب قلبي.. يدغدغ مشاعري ليستقر في كياني.. يتغلغل في ثنايا أوردتي يلئم جراحي.. ويفتح جراحاً أخرى بهدوء.
تعانقت أيدينا بشوق وذابتا معاً، انصهرتا، نسيت كل ما حولهما، ابتعدتا فجأة، بينما العينان لا تزالان تتعانقان في هدوء عجيب.. شربنا القهوة سوياً.. بل شربت القهوة معه، وكنت أرشفها وكأنني أرشفه معها بكل اللذة وبكل الجوع وبكل العطش وشوق السنوات. قابلته أكثر من مرة وفي كل مرة كانت مشاعري تزداد قوة باتجاهه.. كنت أشعر بأن قلبي سيخرج من صدري كلما سمعت صوته وعانقت عيناي عينيه. وفجأة اقتحمني بأسئلته: ماذا تعملين؟ وأين تقيمين؟ وما رأيك بثلاثية نجيب محفوظ؟ وأغنية ألف ليلة وليلة؟ وشعر نزار قباني؟ وأغنية عودت عيني على رؤياك؟
حدثني عن نفسه، وعن أهله وابنته الصغرى.. وكلما استمعت إليه.. شدني إليه أكثر.. كثيرون هم زواره.. كانوا بكل حب يكلمونه وبكل حب يستقبلهم. نظرت إليه في زحمة عمله.. سرى خدر لذيذ أنعش فؤادي السقيم.. حمل غليونه ولعب به بأصابعه.. كان تارة يفرغ بقايا التنباك منه وتارة أخرى يعبئه ويشعله.. وكان يشعل معه ناراً تؤجج قلبي مرة تلو أخرى. نظر إلي.. وقال في هدوء: لماذا لا تبقين هنا؟ ابق من أجلي أرجوك.. وبكل هدوء وسكينة واطمئنان تحدثنا في أكثر من موضوع ودخلنا في أكثر من حوار. كان حواراً دافئاً ينبض بإحساس قوي وعنيف يهزني من الأعماق.. يخلع النظارة.. يفرك عينيه بيديه يضعها ثانية، يسرق النظر مرات عديدة وكأنه في كل مرة كان يقول: أحبك.. من أين جئت وأين كنت طوال هذه السنوات. حدثني عن زوجته.. عن بناته.. عن أمه.. عن والده لم أنتبه كثيراً لحديثه.. كنت لا زلت مندهشة مأخوذة.. متسمرة.. كيف سلمت له قلبي، وهذا الصوت والطلة الساحرة، أين رأيت مثل هذا الوجه؟ وهذه الرجولة.. أين أجدها؟؟ لا أدري.. أسئلة كثيرة راودتني ولم أجد لها جواباً لا.. لا.. إنه غريب حقاً.. ليس له شبيه لم يساورني القلق ولا الشك في حديثه.. وكنت منصاعة له تماما وكأنه سحرني، وكأن هناك مغناطيسا يجذبني إليه ولسماع المزيد من أحاديثه الشيقة. كنت أستمتع بنبرات صوته الجهوري.. كان شعور لذيذا ينتابني ويدغدغ أوردتي.. وذاتي.. أحسست بشعور غريب تجاهه؟ إحساس لا يقاوم.. شعرت وكأنني التقيته قبل ذلك.. في زمن آخر.. غير هذا الزمن وفي عالم آخر.. غير هذا العالم..
ولكن بدأت أتساءل أين؟ وكيف؟ ومتى؟ أجزم بأنني التقيته.. ربما.. هذا هو إحساسي. عيناه في عيناي.. فقد تسرب إلى داخلي خوف من أن يخرج.. يترك مكتبه ولا أستطيع أن أبوح له بمكنون ذاتي.. أو أن أغادر ولا أراه ثانية. كأنني كنت أنتظره كل هذا الوقت؟ وكل هذا العمر منذ رأت عيناي النور.. حتى اللحظة التي أجلس فيها أمامه احتسي قهوته الساحرة. كأنني كنت أحبه في زمن مضى.. وها هو الآن أمامي.. وأنا أمامه أتابع الوصال الذي انقطع. أين رأيت هذا الوجه؟ والطلة الساحرة، والنور الذي أراه.. شد على يدي.. بل أخذ يدي بيديه بقوة غريبة، وجاذبية خارقة. كأنه انتشل قلبي من صدري، كأننا على موعد مع الحب الكبير الخارق، أخذني بلهفة كبيرة وغريبة على صدره، أنساني تعب الرحيل.. وآلام المرض.. وخفف عني كثيراً عبء التفكير والانتظار. كان متلهفاً؟ كان كالسهم يطل.. وكالبرق يغيب؟ قال لي: غيرت حياتي.. كنت مشدوداً إليك منذ رأيت عينيك!! لا أريدك أن تذهبي.. لا تغيبي.. اجلسي قليلاً قلبي عندك أمانة.
أسعدني هذا التصريح العلني وزغرد قلبي من الفرح، وبدأت أحلق مع دخان سيجارته.. وحلقت أكثر بأفكاري، وكانت عيناي تبرقان فرحاً وسعادة وخجلاً.. وتشكره بعنف وقوة. قال: سأكلمك دائماً.. لقد عشعشت في قلبي ومخيلتي وأفكاري.. وسأكون في أقرب فرصة عندك شددت على يديه بقوة.. وشدد هو بقوة مماثلة تعانقت الشفاه.. ارتجف القلبان تمايلت وتمازجت الأرواح مغردة.. مزغرد.. فرحة تناسينا المكان والزمان.. ولم يبق سوى الحب ودقات القلب. لا أحد سوى نبض الإحساس المرهف. مشينا سوياً إلى البوابة.. كنت فخورة بأنه بجانبي، وكان منشرح الصدر سعيداً.
ركبنا السيارة معاً. أمسكت بيده.. ارتجف فؤاده.. لا.. لا. لا أريد أن أتوه أثناء القيادة.. قبلت يده بحرارة ودفء غريب، امتلأ وجهي دماً، وبدأت قطرات الندى تتساقط من وجوهنا.
أين الطريق. لا أعرف إنني غريبة عن الديار تائهة. لا أريد أن أصل أريد أن أبقى معك؟ وأنا أيضاً أريدك لي وحدي وللأبد. تجولنا في أماكن عديدة لم نشعر بالوقت، غابت الشمس، وغاب معها، ولا زلت انتظره ولكني كنت ولا زلت على يقين أنني أحبه، ولا يمكن أن أنساه. سألتمس له الأعذار. ربما مشغول.. مسافر.. مهاجر، ولكنه حتماً سيعود، ربما كان صادقاً في عواطفه.. في إحساسه. ربما كان يحلم.... وكنت أحلم. لا أدري..
*عضو الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينيين
*عضو اتحاد الكتاب والمثقفين العرب
بقلم / وسيلة الحلبي
الصدفة وحدها قادتني إليه ، قطعت المسافات الطويلة حتى وصلت إليه، وبغير شعور حركتُ يدي أود أن أمنعه، بقيت مرتبكة وحائرة، لم أحس بأي خوف تجاهه.. جلست على الكرسي الضخم في مكتبه، كانت يداه تعبثان (بالغليون) أحياناً وبنظارته أحياناً أخرى. ومرات عديدة كان يرد على المكالمات الهاتفية التي كانت تأتي كتوارد الخواطر وقت الخلوة في منتصف الليل أو كان يتكلم مع أحدهم أو إحداهن. شخصية قوية جداً كانت تجلس أمامي خلف المكتب.. كان جلداً صبوراً مبتسماً دائماً.. صوته هادئ، قسماته تتغلغل داخل النفس وترتكز في مراكز الإحساس وتدخل بسلاسة عجيبة إلى المشاعر، ذبذبات صوته كأنها أنغام أم كلثوم على شاطئ البحر الأحمر. لا أنكر أبداً أنني مذ رأيته شعرت بإحساس غريب يدخل فؤادي.. يقرع على باب قلبي.. يدغدغ مشاعري ليستقر في كياني.. يتغلغل في ثنايا أوردتي يلئم جراحي.. ويفتح جراحاً أخرى بهدوء.
تعانقت أيدينا بشوق وذابتا معاً، انصهرتا، نسيت كل ما حولهما، ابتعدتا فجأة، بينما العينان لا تزالان تتعانقان في هدوء عجيب.. شربنا القهوة سوياً.. بل شربت القهوة معه، وكنت أرشفها وكأنني أرشفه معها بكل اللذة وبكل الجوع وبكل العطش وشوق السنوات. قابلته أكثر من مرة وفي كل مرة كانت مشاعري تزداد قوة باتجاهه.. كنت أشعر بأن قلبي سيخرج من صدري كلما سمعت صوته وعانقت عيناي عينيه. وفجأة اقتحمني بأسئلته: ماذا تعملين؟ وأين تقيمين؟ وما رأيك بثلاثية نجيب محفوظ؟ وأغنية ألف ليلة وليلة؟ وشعر نزار قباني؟ وأغنية عودت عيني على رؤياك؟
حدثني عن نفسه، وعن أهله وابنته الصغرى.. وكلما استمعت إليه.. شدني إليه أكثر.. كثيرون هم زواره.. كانوا بكل حب يكلمونه وبكل حب يستقبلهم. نظرت إليه في زحمة عمله.. سرى خدر لذيذ أنعش فؤادي السقيم.. حمل غليونه ولعب به بأصابعه.. كان تارة يفرغ بقايا التنباك منه وتارة أخرى يعبئه ويشعله.. وكان يشعل معه ناراً تؤجج قلبي مرة تلو أخرى. نظر إلي.. وقال في هدوء: لماذا لا تبقين هنا؟ ابق من أجلي أرجوك.. وبكل هدوء وسكينة واطمئنان تحدثنا في أكثر من موضوع ودخلنا في أكثر من حوار. كان حواراً دافئاً ينبض بإحساس قوي وعنيف يهزني من الأعماق.. يخلع النظارة.. يفرك عينيه بيديه يضعها ثانية، يسرق النظر مرات عديدة وكأنه في كل مرة كان يقول: أحبك.. من أين جئت وأين كنت طوال هذه السنوات. حدثني عن زوجته.. عن بناته.. عن أمه.. عن والده لم أنتبه كثيراً لحديثه.. كنت لا زلت مندهشة مأخوذة.. متسمرة.. كيف سلمت له قلبي، وهذا الصوت والطلة الساحرة، أين رأيت مثل هذا الوجه؟ وهذه الرجولة.. أين أجدها؟؟ لا أدري.. أسئلة كثيرة راودتني ولم أجد لها جواباً لا.. لا.. إنه غريب حقاً.. ليس له شبيه لم يساورني القلق ولا الشك في حديثه.. وكنت منصاعة له تماما وكأنه سحرني، وكأن هناك مغناطيسا يجذبني إليه ولسماع المزيد من أحاديثه الشيقة. كنت أستمتع بنبرات صوته الجهوري.. كان شعور لذيذا ينتابني ويدغدغ أوردتي.. وذاتي.. أحسست بشعور غريب تجاهه؟ إحساس لا يقاوم.. شعرت وكأنني التقيته قبل ذلك.. في زمن آخر.. غير هذا الزمن وفي عالم آخر.. غير هذا العالم..
ولكن بدأت أتساءل أين؟ وكيف؟ ومتى؟ أجزم بأنني التقيته.. ربما.. هذا هو إحساسي. عيناه في عيناي.. فقد تسرب إلى داخلي خوف من أن يخرج.. يترك مكتبه ولا أستطيع أن أبوح له بمكنون ذاتي.. أو أن أغادر ولا أراه ثانية. كأنني كنت أنتظره كل هذا الوقت؟ وكل هذا العمر منذ رأت عيناي النور.. حتى اللحظة التي أجلس فيها أمامه احتسي قهوته الساحرة. كأنني كنت أحبه في زمن مضى.. وها هو الآن أمامي.. وأنا أمامه أتابع الوصال الذي انقطع. أين رأيت هذا الوجه؟ والطلة الساحرة، والنور الذي أراه.. شد على يدي.. بل أخذ يدي بيديه بقوة غريبة، وجاذبية خارقة. كأنه انتشل قلبي من صدري، كأننا على موعد مع الحب الكبير الخارق، أخذني بلهفة كبيرة وغريبة على صدره، أنساني تعب الرحيل.. وآلام المرض.. وخفف عني كثيراً عبء التفكير والانتظار. كان متلهفاً؟ كان كالسهم يطل.. وكالبرق يغيب؟ قال لي: غيرت حياتي.. كنت مشدوداً إليك منذ رأيت عينيك!! لا أريدك أن تذهبي.. لا تغيبي.. اجلسي قليلاً قلبي عندك أمانة.
أسعدني هذا التصريح العلني وزغرد قلبي من الفرح، وبدأت أحلق مع دخان سيجارته.. وحلقت أكثر بأفكاري، وكانت عيناي تبرقان فرحاً وسعادة وخجلاً.. وتشكره بعنف وقوة. قال: سأكلمك دائماً.. لقد عشعشت في قلبي ومخيلتي وأفكاري.. وسأكون في أقرب فرصة عندك شددت على يديه بقوة.. وشدد هو بقوة مماثلة تعانقت الشفاه.. ارتجف القلبان تمايلت وتمازجت الأرواح مغردة.. مزغرد.. فرحة تناسينا المكان والزمان.. ولم يبق سوى الحب ودقات القلب. لا أحد سوى نبض الإحساس المرهف. مشينا سوياً إلى البوابة.. كنت فخورة بأنه بجانبي، وكان منشرح الصدر سعيداً.
ركبنا السيارة معاً. أمسكت بيده.. ارتجف فؤاده.. لا.. لا. لا أريد أن أتوه أثناء القيادة.. قبلت يده بحرارة ودفء غريب، امتلأ وجهي دماً، وبدأت قطرات الندى تتساقط من وجوهنا.
أين الطريق. لا أعرف إنني غريبة عن الديار تائهة. لا أريد أن أصل أريد أن أبقى معك؟ وأنا أيضاً أريدك لي وحدي وللأبد. تجولنا في أماكن عديدة لم نشعر بالوقت، غابت الشمس، وغاب معها، ولا زلت انتظره ولكني كنت ولا زلت على يقين أنني أحبه، ولا يمكن أن أنساه. سألتمس له الأعذار. ربما مشغول.. مسافر.. مهاجر، ولكنه حتماً سيعود، ربما كان صادقاً في عواطفه.. في إحساسه. ربما كان يحلم.... وكنت أحلم. لا أدري..
*عضو الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينيين
*عضو اتحاد الكتاب والمثقفين العرب