×

اضغط هنا إن لم يقم المتصفح بتحويلك آليًا.

بناءٌ في الهشيم .. قراءات في الماضي القريب مهدي الدهش

بناءٌ في الهشيم .. قراءات في الماضي القريب  مهدي الدهش
 بناءٌ في الهشيم .. قراءات في الماضي القريب
مهدي الدهش
"وللحديث شجون" .. عبارة طالما وجدنا صدا لها في الكثير من النتاجات التي تمحورت حول قضية عرضت جانب من الماضي، أو استعرضت لمحات من سير ذاتية لبعض من الشخصيات التي عاشت وسط مرحلة من مراحل الزمن، كان لهم فيها ذكريات دقيقة الأهمية بعض الشيء أو عاشوا من خلالها ضمن مُنعطفات حاسمة ذات صدى ليس بالهيّن، تَمثّلت نتائجه على أرض الواقع المكاني والزماني للضرف.
ان الجوانب التي أحجم صوت التأريخ عن ترديدها في صدى ذاكرته الطويلة، سواء عن قصد أم لغير ذلك من الأسباب، لهي مجزرة شبيهة بمجاز يرتكبها البشر بحق بعضهم البعض. ومنها جملة من الأحداث التي ترجمة لمرحلة حاسمة من مراحل تأسيس الدولة العراقية أبان العصر الحديث، ذلك مع تشكيل الحكم الوطني ضمن فترة العهد الملكي. كذلك هناك جملة من المغالطات ــ وحسب بعض وجهات النظر ــ التي سيقت في رسم صورة المرحلة تُعد من أهم المراحل بل وأخطرها من حيث الزمن الذي تبلورت فيه، والمكان الذي حضرت عنده.
ان استعراضاً واقعيا بمسحة موضوعية، وبعيداً عن الإسهاب المُفرط أو الإقلال المُخل، للمشهد التاريخي الذي سبق انبثاق الحكم الملكي من تأريخ العراق المعاصر، يؤدي دوراً ضرورياً في تأسيس رؤى بمصداقية عالية حول النتائج التي نبغي إثباتها هنا.
لقد خضع العراق أو ما يُعرف ببلاد السواد، عبر الحقبة الإسلامية التي فرضت سيطرتها على مُجمل أراضي بلاد الرافدين والمُعرّفة جغرافيا من خلال الحدود الطبيعية التي تُحيطها من الجهات المُختلفة. ففي الجهة الشمالية، مناطق جبلية تفصلها عن الأراضي التي تليها من الأجزاء الجنوبية الشرقية لهضبة الأناضول التركية. وشرقا منه تمتد سلاسل جبال زاكروس، التي تُمثّل حاجزا طبيعيا بين التُخوم الشرقية للعراق مع الجهات الغربية للهضبة الإيرانية الواسعة. وأمّا صوب الجنوب فيمكننا تحديد الساحل الشمالي لخليج البصرة وما تلاها باتجاه الجنوب الغربي، بمثابة الحد الفاصل مع الجهات الشمالية للجزيرة العربية. وأمّا في جهة الغرب، فنرى الامتداد الطبيعي للصحراء الواسعة بامتدادها هي الصلة الجغرافية المُترابطة ما بين بادية الشام غرباً وصحاري شمال الجزيرة العربية. لقد انتزعت الفرشة الطبيعية لجغرافية العراق، هذا الموقع مِن أن يكون غائباً عَن الأنظار، بالنسبة لكل موجة بشرية تبحث عن موطئ قدم لها في مُحيط هذا المكان القادمة صوبه. بل غلى العكس، كان مَحطْ اهتمام للكثير من الشُعوب والراغبين من حُكام الجوار لهذهِ البلاد، خاصة بعد ما حلَّ بالعاصمة بغداد على أيدي الموجة المغولية التي اكتسحت أغلب أراضي الدولة العباسية، تلك الأراضي التي كانت على شكل دويلات شبه مستقلة أواخر العصر العباسي السادس والواقعة إلى الشرق من العراق، حيث وصلت تلك الموجة في العام 1258م، لتضع يدها على قلب الدولة، وتُنهي بذلك نبض أقوى مدينة شهدتها العصور الوسطى. وبعد ذلك توالى التواجد الأجنبي بتنوعه على أرض هذه البلاد، حتى وصلت أخيراً لتكون جزءاً من أراضي الدولة العثمانية، بعد ان دخل السلطان سليمان القانوني مدينة بغداد ذلك في الأول من شهر كانون الأول عام 1534م، مركز الخلافة العباسية من قبل ثلاثة قرون تقريباً من الزمان. وبذلك وضِع (العراق) آنذاك تحت السيطرة العثمانية المُباشرة، حتى مَجيء القوات البريطانية للسيطرة عليه، مع بدايات الحرب الكونية الأولى وذلك في السادس من تشرين الثاني 1914م.
يهمنا هنا ذكر التقسيمات الإدارية التي خضعت لها البلاد زمن التواجد العثماني. حيث تم التقسيم إلى ثلاثة ولايات هي (بغداد والموصل والبصرة)، وذلك حسب الأهمية والتأثير بالنسبة لمتعلقات جباية الضرائب وحجم التواجد العسكري والإداري ونوعهما. ولكن بشكل عام كانت البلاد وولاياتها لا تُمثّل دوراً أو موقعاً مهماً في أولويات العمل العثماني، ولم يكون لها أهمية تُذكر مقارنة بباقي الولايات في الدولة. بل يمكننا وصفها بأنها كانت عبارة عن مدن وساكنين من الدرجة الثانية من حيث إيلاء الاهتمام والنظر. وبناءً على هذا الأساس يمكننا أن نتصوّر مقدار الإهمال والتأخر الذي عانى منهُ أهل تلك الولايات الثلاث، ومقدار حجم الخسائر المالية والعينية التي كانت تُدفع لخزانة (الدولة العليّة)، ذلك على شكل ضرائب تُستحصل منها من دون أن تحصل ــ المدن العراقية ــ على أي شكل من أشكال التطوير أو التحسين على صعيد الخدمات العامة مثلاً، ومنها جانب التعليم الذي ظلَّ مهملاً وبشكل رهيب.
لقد اتسمت الصيغة العامة لحكم الدولة العثمانية على أغلب ولاياته ومناطق نفوذه البعيدة عن مركز الدولة بالتأخر، وكان نصيب الولايات العراقية الثلاث، نصيبا أوفر من غيرها، طوال القرون الأربعة من تلك السيطرة. وقد أشارت أغلب المصادر التي تناولت تلك الحقبة من تأريخ المنطقة العربية إلى ذلك، ومنها كتابات الرحّالة الأجانب والمؤرخين المحليين وتقارير وزارة المُستعمرات البريطانية وشركة الهند الشرقية والمقيمين التابعين لوزارات الخارجية الأجنبية في المدن العربية الخاضعة للسيطرة العثمانية، بل وحتى الإرساليات التبشيرية المسيحية، وغيرها من المصادر وروافد المعلومات التي كانت ولا تزال رافدا مهما في تقييم تلك المرحلة من تأريخ المنطقة.
الصورة هذه أنطلق منها في رسم ملامح المرحلة الأكثر دقة والتي ورثها رجالات العهد الملكي في العراق، ومن بعد ذلك يكون لهم الدور في بناء دولة في الحدود المعروفة اليوم لها، من تركة مُتعبة لدولة سيطرت على بلاد لم تمنحها سوى الخراب والتأخّر والاضمحلال طيلة (400 سنة) تقريباً من ذلك التسلّط المُباشر مع غياب أي شكل من أشكال النهوض الإنساني أو التشييد العُمراني، مع السعي الحثيث لامتصاص كل ما تجود به تلك الأرض من الخيرات البشرية والزراعية بل وحتى الثقافية.
هكذا كانت الصورة بالمُجمل، لمن عليه أن يقرأ واقع بلاد تَحوّل في غضون (37عام)، وهي المدة الزمنية التي دام فيها حُكم النظام الملكي للعراق، وذلك بدءاً من العام 1921م وحتى الانقلاب العسكري الذي أنها الملكية وأوقف عمليات التحوّل في المجتمع عام 1958م.
واعرّج هنا بالقول، إلى ان الفترة الزمنية الواقعة ما بين السنوات (1914 ــ 1921م)، والتي أصبحت فيها البلاد بحكم السيطرة العسكرية البريطانية المُباشرة، نجدها فترة بدأت فيها البلاد تشهد حالة من التغير صوب التحسّن في مُختلف مفاصل الحيات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وان كان ذلك يسير بشكلٍ بطيء، بحكم التركة الثقيلة التي خلّفها التواجد العثماني. ولو تطرقنا لعمل وإنجازات لشخصية واحدة فقط من الشخصيات العاملة في العراق آنذاك، لكان شاهداً مهماً على جوانب حُسن النية التي عملت فيها بريطانيا لبناء هذه البلاد التي أنهكتها سياسات الدولة العثمانية طوال القرون المنصرمة. تلك الشخصية التي تركت بصماتها الإيجابية ضمن مفاصل لم تكن ذات قيمة أو أهمية تُذكر عند الإنسان العراقي ذلك الحين، وتبيّنت قيمتها العالية فيما بعد. فالمس "غيرترود بيل" كانت قد عُينت لأول مرة في البصرة ذلك بتأريخ 26/ 6/ 1916م، بعد أن قدمت مع الحملة العسكرية البريطانية التي فتحت العراق، ثم انتقلت مع دائرة المكتب السياسي للسير "بيرسي كوكس"، رئيس الحُكام السياسيين للحملة، إلى بغداد حيث بقيت تقوم بمهمة خاصة في }دائرة الشؤون العربية{ حتى تأسست دائرة المندوب السامي البريطاني، فعينت بها بوظيفة }السكرتير الشرقي{. وظلت تعمل هناك حتى وافاها الأجل في العراق يوم 12/ تموز/ 1926م، فدفنت في مقبرة المسيحيين بالقرب من ساحة الطيران اليوم ببغداد. لقد خدمت هذه المرأة التوجهات الرامية إلى تأسيس نوع من الحكم الوطني في العراق، وهي مؤسسة دائرة الآثار القديمة ومُتحف الآثار القديمة في جناح خاص ضمن بناية (القُشلة) وواضعة نوات مكتبة هذا المتحف الصغير في حينه، وذلك بمجموعة من الكُتُب النادرة والمهمة في حقل التأريخ العام والآثار القديمة وغيرها من المواضيع، هذا إضافة إلى كونها قد استطاعت من توثيق جملة كبيرة من الأماكن العراقية المُختلفة والشواخص الجغرافية والأبنية التاريخية القديمة، ذلك عبر ما تركته لنا من صور التقطتها عبر عدستها التوثيقية وحسها الفني المُرهف، حيث كانت الحصيلة من تلك الصور قد تجاوزت العشرة آلاف صورة في غضون سنوات عملها العشر في العراق.
وخلاصة لكل ما ذكرت أعلاه، أعود فأقول، بأنّ الحُكم الملكي في العراق قد استطاع ان يضع القطار على السكة، وان ينهض بواقع التركة العثمانية المُنهكة التي ورثها، وان يحوّلها (أي تلك الولايات الثلاث) إلى بلد ذو شأن في غضون مدة وجيزة من عُمر الأمم، لا تتجاوز أربعة عقود من الزمن. ويسير بالبلاد نحو البناء والاستقرار الاجتماعي الذي بدأنا نفقدهُ تدريجيا، وبشكل واضح مع الانقلابات العسكرية المُتعاقبة، والتي بدأت مع العام 1958م. وصولاً لليوم الذي تغيّر فيه الواقع وباتجاه الفوضى بشكل جلي لا يقبل التشكيك أو المُراوغة.
إنهاء الدردشة