×

اضغط هنا إن لم يقم المتصفح بتحويلك آليًا.

أهوار جنوب العراق تفتح ذراعيها لـ DER SPIEGEL بقلم: جاسم الأسدي

أهوار جنوب العراق تفتح ذراعيها لـ DER SPIEGEL بقلم: جاسم الأسدي
 
أهوار جنوب العراق تفتح ذراعيها لـ DER SPIEGEL
بقلم: جاسم الأسدي

من الثاني من مايس حتى السادس منه عام 2010 كان لنا لقاء مع الصحافة الألمانية في قلب الأهوار العراقية وتحديداً "مجلة دير شبيغل"،لقاء محبة وأستقصاء،تأمل وأكتشاف حيوات وارهاصات طبيعة وتنوع أحيائي بعيون ألمانية.
على مدى أسابيع وأنا أتابع عبر بريدي الألكتروني رحلة الآلمانيتين الأعلاميتين ،"سميحة الشافعي" المحررة في دير شبيغل ،وجه فرعوني بعينين خضراويين،وعروق يجري فيهما خليط من الدم الألماني من جهة الأم والعربي من جهة الأب.كثيرة الأسئلة والأبتسامة ،ذكية في طرح الملاحظات وتدوين التفاصيل،والوصول الى الأستنتاجات لكتابة ريبورتاج صحفي يليق بمكانة أهوارنا الجميلة،ومصورة ذات حرفية عالية وصبر في أعادة التصوير لمستويات وزوايا مختلفة ،لرسم لوحة ناطقة لطبيعة ولودة ودودة،وملامح وتقاطيع أحفاد الأجداد السومريين الذين مازالوا يمسكون بالفالة ويصنعون حصائر القصب،ويبنون المضائف بنفس طريقة بلاد سومر في الألف الثالث قبل الميلاد.
وفي الطريق من مطار البصرة حيث اصطحبتهما الى مدينة الجبايش ،كنت تواقاً لتوفير أجواء ومساحة حرية واسعة لهما ،لكي تكون دير شبيغل متانقة في استضافة أهوارنا على صفحاتها الملونة،هذه المجلة الأسبوعية الأكثر انتشاراً في اوربا حيث يطبع منها 1100000 نسخة لكل عدد وتعني بالعربية "المرآة" ذات تأكثير كبير في الصحافة العالمية ،حيث تحقيقاتها الجميلة ،وتقصيها لأحداث وخفايا تجري وراء دهاليز السياسة ومكاتب الحكومات بكثير من الدقة .
كان الجو العام يعكس سلاسة الحياة،لايبدو ثمة مظاهر للقتل ولاقلق لأرهاب يقمع لحظة التواصل الحضاري الذي نحن فيه،ثمة ألفة مع نقاط التفتيش،وهمس وحوار صامت مع القرويين عبر زجاج السيارة وهي تنطلق ببطئ ،تتخطى جداول،بيوت قصبية،بائعات حليب وتجمعات لقرى اهوارية ستكون محطات لقاءاتنا القادمة.

الجبايش ترحب
كانت الأقامة في الجبايش تلك المدينة الجميلة التي تغفو على ضفة الفرات اليسرى بكثير من الحبور،مدينة أكتسبت شهرةً عالمية عبر كتابات الرحالة الاوربيين،وأطروحة الراحل مصطفى سليم عنها عام 1955 والتي قدمها لجامعة لندن ونال بها درجة الدكتوراة بأمتياز وترجمة وطبعت بالعربية في ستينات القرن الماضي من قبل مطبعة العاني في بغداد تحت عنوان "الجبايش دراسة أنثربولوجية لقرية في أهوار العراق"
وفي الجبايش كان البيت الطيني محطة أقامة لهما ،حيث البناء التقليدي القابع بين الاهوار الوسطى من جهة وهور الحمار من الجهة الاخرى وعلى مسافة قصيرة منه مداخل الماء الرئيسية لبحيرة بغداد،وقرى أبو صوباط والسحاكي.أنهما الآن باجواء سومرية وايادي امينة لمربي جاموس ،وجامعي قصب،ليالي تغدق عليهما بظلال التاريخ السحقيق ورحابة المودة ،طقوس السمك المسكوف وقوري الشاي الذي يعده ابو صباح على جمر الخشب المستعر،أفرشة بسيطةعلى حصائر قصب منسوجة بفطرة وخبرة اهوارية تستلقي عليهاالأعلاميتان القادمتان من هامبورغ حيث التكنولوجيا والحياة المعاصرة الصاخبة.
الدهشة ترتسم على وجهيين ودودين يرسم حدودهما حجابان يعتمرانهما يوم صعدا سلم الطائرة في عمان،دهشة الذي رآى مالم يتوقعة،حركة لايشوبها حذر ولقاءت حوارية انسيابية،وأبتسامات أينما ذهبا.أنها لغة المعدان وروحية الذين عاشروا الماء وجعلوا منه فردوس حياتهم رغم ضآلة الخدمات.

في قلب الأهوار
وفي الأهوار كانت الأيام اللاحقه لوصولهما مسرحاً لجولات جميلة يرافقنا فيها الدكتور عزام علوش المدير التنفيذي لمنظمة طبيعة العراق ،تلك المنظمةالتي تركت بصماتها على اعادة الاغمارلبيئة قطع التجفيف اوصالهامنذعام 1991 حتى عام 2003 .كانت الأنطلاقة قبل شروق الشمس كل يوم،"شخاتير" تمخر عباب المجاري العميقة في "شط أبو لحية" المتفرع من الغراف حيث تندفع مياهه الى هور" أبو أبو زرك " عبر فتحة أحدثها السكان المحليون في نيسان 2003 في جدار السدة الترابية التي اقامها النظام الدكتاتوري السابق لتجفيف الهور عام 1991 .اشجار النخيل الباسقة تلقي بظلالها على ضفتي الشط ،وقرويات يغسلن الأواني والملابس منذ باكورة الصباح،أطفال يبادلوننا التحية . وعند مداخل الهور تنطلق الجواميس في رحلة نحو مواطن الكلاْ.
صيادوا الاسماك،يذهبون الى حيث شباكهم القابعة طيلة الليل في البحيرات الجميلة،وصيادوا الطيور ينطلقون بزوارقهم الضيقة "التوابيت" الى حيث يوجد الحذاف،الزركي،دجاج الماء.
عزام علوش يلقي بالتفاصيل لما جرى لهذا الهور،وخطوات منظمة طبيعة العراق في دراسته ومراقبته البيئية،وسميحة تسجل وتزيد في الاسئلة ،تدون التفاصيل وتحثه على المزيد،أما مصورتنا "أغاتا" فقد أذهلها الهور،نباتاته،مسالكه،بحيراته،هدوءه،مرةً تصور وهي جالسة على حافة الزورق،ومرةً أخرى وهي تستلقي على بطنها مقربةً الكاميرا من سطح الماء.
وفي الاهوارالأخرى، كانت المشاهد متعددة،جامعوا وبائعوا قصب وحشيش،مربوا جاموس، أجناس مختلفة يوحدهم الهور وجذور أجتماعية واحدة، وثقافة واحدة،وتطلعات لاتتعدى توفير المياة والخدمات الاساسية ،وبين هذا وذاك تقبع مناطق جافة محترقة من الأهوار قريبة من منطقة الصيكل تلك التي كتب عنها "كافن يانغ" في كتابه الموسوم "العودة الى الأهوار العراقية" بكثير من الحبور يوم كانت ممرات قصبية اخاذة،مزارع رز ساحرة،جزر تتوسد الماء ،وعالم قائم بذاته،ومكتفي بما حوله.
صديقتاي الألمانيتان مأخوذتان بكل شيئ ،بتلك البساطة في اقامة بيت قصبي في أقل من نصف نهار!!،في توازن الاطفال وقوفاً مع انطلاق "المشاحيف"،من مهارة القرويات في قطع الحشيش،من الحكايات المفجعة لهجرات قسرية حدثت بفعل سياسات التجفيف والقمع السياسي.
وجوه متعددة....ورؤية واحدة
ومن هور لهور كانت المشاهد توحي بأن السلالة السومرية مازالت قائمة،لكن من يمثلها في البرلمان يجهل همومها،أو يتناسى أوجاعها وماعانته بعد ان آوته وقدمت له الزاد والملاذ الآمن في سنوات الحكم الدكتاتوري البغيض.
فعلى "أيشان" يعود لفجر السلالات تقوم قرية "أم الودع"،قرية كانت تعيش مستقرة منذ أحقاب طويلة على مسافة ليست بعيدة من سوق الشيوخ،يستوطنها الآ ن أغلبية من بني اسد ،يقول" صياد ناهي" احد سكانها الذين عاد أليها بعد أن عادت المياه "أن هذه الجزيرة يسكنها الآن مايزيد عن 1500 نسمة،أقتصادها يقوم على الماء ولاشيئ غير الماء،صناعة حصران القصب،صيد الأسماك والطيور،تربية الأبقار والجاموس،بيع الحشيش.
حين جفف النظام السابق هور السناف الذي يحيط بالجزيرة عام 1991 هاجر مع من هاجر،وتشتت السكان بين مدن متعددة الأسكندرية،الفلوجة،سامراء،بلد....الخ من مدن العراق الاخرى واشتغل هناك كعامل زراعي اجير حيث يفتقد الى قهوة الصباح المرة في جلسة عشائرية تجمعه مع ابناء عشيرته،أما اليوم وقد عاد بعد أن عاد الهور وتخطى معضلة الجفاف بفضل أعادة اغماره بمياه المصب العام فقد اطمئن قلبه ووجد في بيع الحشيش فرصة للعيش رغم انعدام الخدمات ألا انه يشعر ان اعظم ما أكتسبه هذه الحرية في التنقل والتعبير....ليس عسيراً عليه ان يتخطى الحدود الأدارية لأي مدينه وهو لايحمل مايثبت هويته"
أما أبو جاسم فقد استرسل مع الاوربية القادمة من هامبورغ وقص عليها خفايا الهور وخباياه،أنه أبن الهور الذي لايستطيع ان يعيش بدونه.وجد بين احضان الكرماشية مأوى ،وما الكرماشية سوى جزءاً محلياً من هور الحمار.
على اطراف الأهوار الوسطى وضمن حدود ناحية الخير وليس بعيداً عن أهوار الجبايش والمناطق الاثرية المنتشرة هنا وهناك في "حلاب" و"ايشان غضبان" ثمة بيوت لاتتجاوز اصابع اليد الواحدة،تشكل نسيجاً أجتماعياً مستوحداً ،بعيداً عن التجمعات الكبرى،أنها عوائل من مربي الجاموس"المعدان" بلغة أبناء الحواضر الأهوارية،هنا وعلى مقربة من الأراضي الزراعيه وقناة مائية آتية من نهر العز وتشكل هوراً مغلقاً صغيراً وجد "ابو فرج ال فريجي" نفسه وقليل من أقاربه مكاناً للسكن وتربية الجاموس،ليس بعيداً عن كوخه القصبي نصب شباك الصيد في مياه تشكل مصدر حياته.حين طلبنا منه الحديث عن ذكرياته قص في حضرة سميحة الشافعي حكايات وحكايات ، تنقلاته عبر سنوات الجدب والتجفيف،معاناته مع رجال الامن والشرطة والجيش في زمن الحروب والخطوب،قال مفاخراً وبضحكة من القلب "انه لم يخدم في جيش السلطة السابقة مطلقاً،لم يعرف البسطال والبيرية،ولم يكن واحداً من وقود الحروب العاتيه"،وحين سألتة الصحفية وكيف استطاع الأفلات من براثن السلطة قال بزهو" مياه الهور وقصبه قادر على حمايتي"
أبو فرج هذا ترك الهور يوم تم تجفيفة واتجه شمالاً حتى ناحية "جديدة الشط " في بعقوبه وهناك كون علاقات طيبه مع الوسط الاجتماعي الجديد،وحين سأله سائقنا ومن تعرف هناك ،أجاب بتحبب"محمد جميل علاوكة" وحين رد عليه صاحبنا "هذا الرجل من ابناء عمومتي وقد توفى قبل اشهر قليلة" ضرب ابو فرج كفيه ببعضهما وتاوه كثيراً وقرا الفاتحة وأعقبها بسرد محاسن الرجل وطيبته.
هذه هي خريطة العراق الاجتماعية علاقات متينة أفسدها التطرف الديني والغلو القومي ،ودهاليز السياسة القائمة على أستثارة المشاعر المذهبية والأثنية.

وداعاً وعلى أمل اللقاء
خمسة ايام بلياليها جمعتني والألمانيتين متعة الحديث مع ابناء الاهوار ،سحر التوحد مع الطبيعة،تبادل الافكار والرؤى والبحث في مكنونات السكان المحليين وتجاربهم.
كان السمك المسكوف،واجبان الظفائر المحلية،وخبز التنور الحار،وشاي ابو الهيل وليمة الضيفتين اللتين قطعتا بحار وحدود ليكون لهن مع الجبايش لقاء مودة ومتعة.
وحين جاءت لحظة المغادرة قذف أبو صباح حارس البيت الطيني الذي ضيفهن ،بسيل ماء من آنية معدنية"طاسة" كما تفعل جداتنا وامهاتنا نحن المعدان حين نهم بالسفر ،تعويذةً للحماية من الشر ومخاطر الطريق.
وحين لوحت أغاتا بيديها لمن اصطفوا لوداعها رفع الجميع ايديهم وبادلها الاطفال على طول الطريق تحية الصباح
image
image
image