×

اضغط هنا إن لم يقم المتصفح بتحويلك آليًا.

سلطان وبغايا" لهدى عيد: المرأة السادسة هي المرأة القاتلة عبد الحكيم القادري

سلطان وبغايا" لهدى عيد: المرأة السادسة هي المرأة القاتلة   عبد الحكيم القادري
 

"سلطان وبغايا" لهدى عيد: المرأة السادسة هي المرأة القاتلة


عبد الحكيم القادري

13 كانون الثاني 2016

تخوض هدى عيد في روايتها السابعة، "سلطان وبغايا" (دار الفارابي)، رحلة قصصيّة جديدة، مغايرة لما سبقها من حيث الأسلوب والرسالة ونسج الحبكة. من العنوان يستشفّ القارئ المناخ العام السائد؛ ثمّة هرم يتدرّج في أسفله من "بغايا"، أي محكومين/مأمورين، ليرتقي الى قمّة يتربّع عليها "سلطان"، بطل القصّة الحاكم/الآمر.

هذه الثنائيّة التي تستعرض وضعًا اجتماعيًّا قائمًا منذ الأزل على تفاوت حادّ بين أحوال النّاس، انّما تُوَظَّف لامرار رسائل أخرى ذات طابع سياسيّ، لا يشوبها وعظ ولا خطابة، اذ تضع الاصبع على الجرح اللبنانيّ الأكثر ايلامًا: فساد النظام الحاكم. يتسم أسلوب الروائية في هذه الحكاية الواقعة في 203 صفحات، بانسيابيّة أجمل بعد من تلك التي طبعت حكاياتها الستّ الأخرى، فتعتمده حجر أساس لتقنيّة السرد المستخدمة، الشبيهة بقطع الـ "puzzle"، فالحبكة التي تتوزّع خيوطها ثلاثة عشر قسمًا وخاتمة، تقوم في كلّ قسم على تقديم جزء من ملامح شخصيّة البطل النفسيّة، حتّى اذا ما وصل القارئ الى الخاتمة، اكتملت لديه صورة "سلطان"، وعرف خصاله ودوافعه. فكلّ قسم عبارة عن لقاء امّا مباشر واما افتراضيّ، بين زهيّة زعتر، السيدة المغتربة التي تبحث عن عمّها سلطان الذي أصيب في آخر أيّامه مهلًا، الآتي ليس افسادًا لحوادث القصّة، بل هو احدى ركائزها أصيب بالألزهايمر، فـ"خرج من قصره ليلًا بملابس نومه، بيجاما حريريّة زرقاء اللون، لم يُعلم أحدًا بوجهته، ولم يترك خلفه سوى هاتفه النّقّال" (ص. 19) ، بينها وبين أحد أبطال القصّة ممّن مرّوا / مرَرْن في حياة عمّها منذ شبابه حتّى عقده السّابع.
زوجات ونساء وفنّانون وتجّار، كلّهم عايشوا "سيّد الدولار"، وكوّنوا عنه صورةً جاءت لدى غالبيّتهم الساحقة سوداء منفّرة، تشتم به، تلعنه، وتتمنّى له نهايةً أفظع من اضمحلال الذاكرة.

عودة الى الطفولة وبعض الرسائل
لكلّ مستبدّ ماضٍ أليم أوصله الى ما صار عليه مستقبلًا. وهذه هي الحال مع سلطان، الذي نعلم عن لسان احدى الشخصيّات التي طلبت ابنة أخيه زهيّة لقاءها لبلوغ طرف خيط يدلّها الى مكان اختفائه، أنّه صنيعة سوء تربية. فوالده، أستاذ التّاريخ، أمضى عمره عائمًا على أمجاد الأمّة العربيّة السالفة - تلك التي أَوْلَـمَ عليها الدهر ولم يبقَ منها سوى عظم لم نزل نلعقه ما دفع بوالدته لأن تتّخذ آخر زوجًا لها، لعلّه يشعرها بحاضرها. هذا الشرخ العائليّ ساهم الى حدٍّ كبير في تكوين سلطان، الذي غدا يعتبر أنّ "الحاضر هو الأهمّ، كلّ التّاريخ هراء، وكلّ تاريخ يجعلنا أبناء الوهم والخيال" (ص. 98)، وأنّ "هذا العالم البائس لن يجد السلام قبل أن تركع النساء على أقدام الرجال يطلبن الغفران" (ص. 161).
سلطان الذي لم يترك عملًا فاسدًا الّا قام به (المشاركة في صنع القرارات السياسيّة، تجارة النساء والأراضي، تهريب المخدّرات والأسلحة، تزوير الفنّ...) هو صنيعة المجتمع، الذي يقف مكتوف اليدين متفرّجًا أمام كلّ شرّير وشرّ، اذ يتردّد صدى هذه الآفة في سؤال مستشار سلطان لزهيّة زعتر: "أولئك المجرمون من يصنعهم سيّدتي؟ هم يصنعون أنفسهم بمفردهم أم نحن من يقدّم لهم حجار البناء؟" (ص. 114). ثمّ يأتي التعقيب المستلّ من "جحيم دانتي" في آخر الكتاب ليبلور الرسالة الـمُراد ايصالها في هذا السياق: "أحلك الأماكن في الجحيم هي لأولئك الذين يحافظون على حيادهم في الأزمات الأخلاقيّة". لا داعي هنا لمزيد من الشرح؛ العبرة عالية الصوت.

الكارما
ستّ نساء تعاقبن على حياة "الشيطان"، فكُنّ في معظمهنّ كبغايا، تابعات له، مستسلمات أمام سطوته، وساكتات ازاء طغيانه. الّا أنّ امرأةً واحدة فقط استطاعت قلب الموازين لصالحها، المرأة العشرينيّة الشابّة التي كانت آخر زوجاته، والوحيدة التي أحبّها بكلّ جوارحه. تلك الصبيّة عرفت
من أين تؤكل كتفه، فكانت
مرآةً له في الشّر، قتلته كيدًا، كادت أن تنهب جميع ممتلكاته، وحين بدأت أعراض الألزهايمر تظهر عليه، استغلّت الأمر، وصارت تُنيّمه في غير غرفة، أحيانًا تقيّده في سريره، وأحيانًا تأتي الى قصره بحبيبٍ لها يجاورها سنًّا، الى أن خرج وضاع في الشارع مدّة عام كامل. تلك الصبيّة انّما هي "الكارما" حين تتجسّد لحمًا وعظمًا، وقد جاءت لتقول عبرةً على لسان سلطان شخصيًّا، الذي كان يعتبر
أيّام مجده أن "لا شيء حقيقيًّا، وكلّ شيء مباح"، جاءت لتقول على لسانه انّ "هناك ما هو حقيقيّ في الحياة. الشر. الشر هو حقيقتها الكبرى، ودائمًا كلّ شيء مباح بالنسبة اليه حتّى أنا... سلطان".

الهرب من التاريخ فَاِلَيْه
من كان "يخطّط فقط ويجعل الآخرين يؤمّنون له الحياة"، ومن كان يعتبر أنّ "مثلي وحدي من يصنع الأمجاد"، ومن كان يجري لاهثًا نحو صناعة الحياة على أنقاض الغير، كارهًا لكلّ ثابت، ومحبًّا لكلّ متغيّر، لاقى مصيرًا يشبه ما حاول دومًا الهروب منه؛ الألزهايمر. هذا المرض الذي يتلف خلايا الدماغ رويدًا، يجعل المصاب ينسى ماضيه القريب، ويغرق في الماضي البعيد الذي يغدو مجرّد ذكريات وصور تتهافت على صاحبها بلا هوادة. ذاك الماضي نفسه عاش سلطان عمرًا يحاول تلافيه، ليكبر ويكبر ويكبر. لكنّه كبر كثيرًا حتّى صار - كما جاء في بداية الكتاب على لسان ابن خلدون - "مِسخًا على الحقيقة"، فهوى في مهبّ الوهم، والنسيان.
لعلّ "سلطان وبغايا" أكثر روايات الكاتبة هدى عيد جودةً ونضجًا حتّى اليوم. انّها حفر بازميل جماليّة الأدب، حفر عميق في قضايانا الاجتماعيّة-السّياسيّة التي نتخبّط بها، بل انّها تعرية للفساد والفاسدين، و"الصرخة" لكلّ ساكتٍ يتف