×

اضغط هنا إن لم يقم المتصفح بتحويلك آليًا.

رسالة إلى الصديق الدكتور طه جزاع .. من ستالينغراد إلى حديثة رباح آل جعفر

رسالة إلى الصديق الدكتور طه جزاع .. من ستالينغراد إلى حديثة رباح آل جعفر
 رسالة إلى الصديق الدكتور طه جزاع ..
من ستالينغراد إلى حديثة
رباح آل جعفر

صديقي الكبير طه جزاع :
قرأت مقالتك الجميلة عن حصار مدينة حديثة وهي تتعرض للمجاعة ، فشعرت بالأسى ، وتحدرت من عينيّ دمعتان ، وانفرطت حبّات القلب . تذكرت ستالينغراد في ذروة المأساة الإنسانية . دعنا نسميها حديثة غراد . وأخذني الحنين بعيداً إلى قرية طاب فيها المقام ، في زمن كانت لنا أحلام تأكل ، وتشرب ، وتمشي ، وتنام .
هل تتذكر يوم جلسنا في السنوات الخوالي على صخرة وسط نهر الفرات ؟ مرّ زمن طويل كأنه دهر منذ التقينا كلانا هناك . كان الجرح في بدايته ، والحزن في بدايته ، ونحن نبحث عن فردوسنا المفقود .
كنّا نراقب سرب طيور مهاجرة في حمرة الغسق . ثم تبدّى أمامنا سرب آخر من الحمام فوق حصى مصقولة قبالة الشاطئ . كانت حديثة يومها تفتح لنا باب الماهيّات في الوجود . مثل عشتار في سومر ، أو مثل عشتروت عند الفينيق . وكان الفرات يومها يتدفق من حولنا كالسيل العرم . يدفع أمواجه الصاخبة المتموجة ، متلاحقة ، متتابعة . والسماء ذات انعكاسات من ألوان قزحية تبعث البهجة في النفس الحزينة . هل تعلم أن النهر في حديثة قد جفّ هو الآخر ، وأصبح مجرد ساقية شحيحة ؟ هل تعلم أن المدينة خلف المتاريس أصبحت أشبه بقفص بلا طيور ؟!.
أعرف يا صديقي أن الصور الإنسانية لا تموت في الذاكرة . أعرف أن من يستدعي ذكرياته يُصاب بمرض الحنين الجارف . دعني أسألك بمقدار محبتي لك : هل بقي في القلب موضع لشوق قديم ، وتذكارات عزيزة ، وصور معلّقة على الحيطان ، ووردة منسيّة في كتاب ، وحنين ، وحبيب غائب ؟!.
ماذا سنقول لبكاء العصافير ؟ ماذا سنقول لأنين ناعور يعاتبنا من بعيد ، مثل عاشق مهموم يغنّي عذابه على الربابة ؟!.
لعلك تعلم أن الناس في حديثة بدأوا نسيان مواعيد الطعام والشراب والدواء ، لأنهم بلا طعام ، ولا شراب ، ولا دواء ، ولا كهرباء ، ولا ماء ، ولا إله إلا الله . السعيد منهم من يظفر بوجبة طعام واحدة في اليوم وهي لا تعدو عن قضم كسرة خبز يابسة . تعصف بهم غوائل الجوع ، ولا يملكون شروى نقير . أحياناً يأخذ البدر شكل رغيف الخبز في عيون أهلها ، بل هناك من أطفالها من يتخيّل الهلال في السماء على شكل فاكهة الموز ، ويتمنى لو يستطيع التهامه . أقسم لك ، يا صديقي ، ليس هذا وصف مبالغة ، ولا خيالاً شعرياً . ولا لوحة سريالية . هذه حكاية حدثت مع أحد أطفال البلدة البارحة . هل تلاحظ حتى الحلم في حديثة أصبح حلماً هو الآخر ؟!.
إنها حديثة . صرخة ضمير في وطن بلا ضمير . حديثة التي تملك أحلى حاء في اللغة العربية انقطعت عن الزمان والمكان ولا زالت تدافع عن وجودها . لا تاريخ للأيام في هذه المدينة . الوجوه غائمة ، والطرقات مرتبكة ، والنوافذ حزينة . إنها في عزلة تامة عن العالم إلا عن ربّها ، فلا زالت تستمسك بالعروة الوثقى ، وتتلو ما تيّسر لها من آيات القرآن الكريم .
إنها حديثة توحي لمن يراها اليوم بسبعة قرون عجاف من القحط لا سبع سنين ، في زمن تعمى عيون هذا العالم التافه عن أصناف الطيّبات من فائض الطعام والشراب في سهرة حافلة بالعربدة .
وأنا أقرأ في مقالتك يا صديقي العزيز ، شدّني شوق غريب إلى حديثة وأهلها . ليست حديثة هي الجنة ، لكنني لا أرى الجنة إلا في حديثة .. ثم تلفتت عيني مع الشريف الرضي ، فمذ خفيت عنّي الطلول تلفّت القلب .