Abeer Esber بيروت · مادتي على الترا صوت
Abeer Esber
بيروت ·
مادتي على الترا صوت
عندما قَدِم المدّ العراقي إلى الشام استعادت دمشق جشعها، خفتها، شهيتها للمسكوف والكباب كأفضل ما يمكن، فتحت الشوارع مصراعيها لليل، للمطاعم والسباب، واللهجة الحبيبة للأغاني، واللطميات، وتعلمتُ معنى "القيمر" لأول مرة. حملتْ بغداد راقصيها ومثقفيها وشعراءها وأفاقيها إلى شوارع الشام، حملت روائحها وقهرها، وتهتك واصليها، سكرهم ودوختهم كي لا يعوا كيف خَلُصت البلاد إلى ذاك الخراب، كيف انتهى التاريخ واغتيلت العمارة، كَسر العراقيون بفوضاهم إيقاع المدينة الباهتة إلى الأبد، تفتت ليل الشام كمرايا بألف وجه وضوء، وكُسرت أيضا قلوب الصبايا، اشتكين من خلطة الجلافة والشبق، الشعر والبكاء، وعندما غادر العراقيون كلٌّ إلى منفاه تاركين وراءهم قلوبًا متشظية لم تصدق آنية كل هذا.
بعد الملهاة السورية، وانكفاء الشام على التخوين، واكتفائها بالكآبة والعتمة، أتيتُ بيروت، بتلك الذاكرة التي حملتها طويلًا، أتيت مدينة النور والحرية، وقصائد درويش وتفاحاته، وانفتاح الرمان على الاحتمالات، وزعبرات استرخاء الرحابنة بين المسرح والأغنيات، وطفولة طلال حيدر في الريد شو، أتيت محملة بشحنة انفعال المنفيين والمتسكعين والحزانى وهم يعيشون الحاضر مغمسًا بالانتظار، لكن بيروت عندها كانت قد أصيبت مثلنا، أصيبت في روحها، فقدت براءة لامبالاتها، تعاليها، أرهقت بعد أن هلهلت الحرب كل مفاهيمها، وتحولت مدينة مغموسة بواقعنا وكثرتنا حد التجمد، حد الموات، لم تعد بيروت مسرحا للحكايات، أصبحت هي الحكاية، وملت الرواة.
فالمدن المرهقة تلفظك كمرار الفم، لا تتحملك لأنك وجعها، وصورتك القبيحة في وجدانها، تغتصب جمالها بأسمالك، في هذه البلاد المتعبة أتذكر حكاياتنا وأتحسر على زمن كانت فلسطين فيه حكايتنا. ولاؤنا لها، وأناشيدنا التعبوية البلهاء وعنتريات العروبة، وخبطات أقدامنا الهدارة تسفح فوق أرضها الحلم. كنا بشرًا نحلم بعودة لم نغادر من أجلها، وبأوجاع قلب كانت ملائكية فقط، كي نشبه صورتها في يقيننا.
في حرب 48، استشهد عمي مطانيوس في فلسطين، أجمل الأعمام، أكثرهم تعلّمًا ولياقة، منح أخي وسامته، وألبس تيتا رحمة السواد قهرًا عليه حتى ماتت، وقدّرت نجود ابنة عمي أني ورثتُ الأدب، وتذوقت الجمال بفضل روحه التي تركت في صندوق مخبأ قصائد بالفرنسية والإنجليزية. عمي مطانيوس الذي استشهد في فلسطين كان أسطورة العائلة، شهيدها، بكته ذاكرة الضيعة بسنواتها كلها، ورثاه الرجال، صورته على الدبابة، ذاتها التي احترقت به، اندغمت بدموع جدتي وقهر عماتي الجميلات، وبحرقة قلب أبي على أخيه الحبيب.
بيروت ·
مادتي على الترا صوت
عندما قَدِم المدّ العراقي إلى الشام استعادت دمشق جشعها، خفتها، شهيتها للمسكوف والكباب كأفضل ما يمكن، فتحت الشوارع مصراعيها لليل، للمطاعم والسباب، واللهجة الحبيبة للأغاني، واللطميات، وتعلمتُ معنى "القيمر" لأول مرة. حملتْ بغداد راقصيها ومثقفيها وشعراءها وأفاقيها إلى شوارع الشام، حملت روائحها وقهرها، وتهتك واصليها، سكرهم ودوختهم كي لا يعوا كيف خَلُصت البلاد إلى ذاك الخراب، كيف انتهى التاريخ واغتيلت العمارة، كَسر العراقيون بفوضاهم إيقاع المدينة الباهتة إلى الأبد، تفتت ليل الشام كمرايا بألف وجه وضوء، وكُسرت أيضا قلوب الصبايا، اشتكين من خلطة الجلافة والشبق، الشعر والبكاء، وعندما غادر العراقيون كلٌّ إلى منفاه تاركين وراءهم قلوبًا متشظية لم تصدق آنية كل هذا.
بعد الملهاة السورية، وانكفاء الشام على التخوين، واكتفائها بالكآبة والعتمة، أتيتُ بيروت، بتلك الذاكرة التي حملتها طويلًا، أتيت مدينة النور والحرية، وقصائد درويش وتفاحاته، وانفتاح الرمان على الاحتمالات، وزعبرات استرخاء الرحابنة بين المسرح والأغنيات، وطفولة طلال حيدر في الريد شو، أتيت محملة بشحنة انفعال المنفيين والمتسكعين والحزانى وهم يعيشون الحاضر مغمسًا بالانتظار، لكن بيروت عندها كانت قد أصيبت مثلنا، أصيبت في روحها، فقدت براءة لامبالاتها، تعاليها، أرهقت بعد أن هلهلت الحرب كل مفاهيمها، وتحولت مدينة مغموسة بواقعنا وكثرتنا حد التجمد، حد الموات، لم تعد بيروت مسرحا للحكايات، أصبحت هي الحكاية، وملت الرواة.
فالمدن المرهقة تلفظك كمرار الفم، لا تتحملك لأنك وجعها، وصورتك القبيحة في وجدانها، تغتصب جمالها بأسمالك، في هذه البلاد المتعبة أتذكر حكاياتنا وأتحسر على زمن كانت فلسطين فيه حكايتنا. ولاؤنا لها، وأناشيدنا التعبوية البلهاء وعنتريات العروبة، وخبطات أقدامنا الهدارة تسفح فوق أرضها الحلم. كنا بشرًا نحلم بعودة لم نغادر من أجلها، وبأوجاع قلب كانت ملائكية فقط، كي نشبه صورتها في يقيننا.
في حرب 48، استشهد عمي مطانيوس في فلسطين، أجمل الأعمام، أكثرهم تعلّمًا ولياقة، منح أخي وسامته، وألبس تيتا رحمة السواد قهرًا عليه حتى ماتت، وقدّرت نجود ابنة عمي أني ورثتُ الأدب، وتذوقت الجمال بفضل روحه التي تركت في صندوق مخبأ قصائد بالفرنسية والإنجليزية. عمي مطانيوس الذي استشهد في فلسطين كان أسطورة العائلة، شهيدها، بكته ذاكرة الضيعة بسنواتها كلها، ورثاه الرجال، صورته على الدبابة، ذاتها التي احترقت به، اندغمت بدموع جدتي وقهر عماتي الجميلات، وبحرقة قلب أبي على أخيه الحبيب.