وراء المحيط ل ندى مأمون -------------------- مبتعث الشؤم ...

وراء المحيط
ل ندى مأمون
--------------------
مبتعث الشؤم ....
نعم هذا اسمي الذي تفضل به علي الأستاذ ' عبدالرزاق'.
منذ أن جئت قبل اسابيع قليلة إلى " منهاتن " ،وسكنت الشقة المقابلة له، على بعد أميال قليلة من مسرح " برودواي " ، وهو يتفنن في مضايقتي و ملاحقتي.
لم أره يوما منشغلا ببيته ، ولا يخرج للعمل ، بل يحوم في الحي مع القطط .
كرسيه منصوب على الدوام أمام البناية ، حتى حسبته أعزبا ، لولا رؤيتي لخيال زوجته من الشرفة بعض الأحيان.
محير بشكل استثنائي ، كل شيء فيه يحمل شارة الوسط، طوله ، لون بشرته ، حجم أنفه ، إلا كرشه الضخم الذي يرخيه تحت قميصه ، ويرخي أذنه مع كل حديث يدور في الحي.
يبهرني كل يوم بلهجة جديدة.
أخرج صباحا ، فأجده جالسا على الكرسي ، يطعم القطط 'التونا' ، ويسألني مهاجما...
- ( شو ما بدك تسلم ؟! على وين رايح يا أزعر؟)
أناقشه في أمر القمامة المكدسة أمام شقته ، فيلوي شفتيه امتعاضا وينهرني...
- ( هو في إيه؟!! ما تخلي ليلتك السودا تعدي يا ولد!)
أعود ليلا ، فيفتح بابه متلصصا .
وعندما أراه ، يبتسم ابتسامة باهتة ،ويصطنع القلق قائلا...
- ( ديما تأخر ، راني تحيرت عليك بزاف ).
لم أتمكن حقا من تحديد البقعة الجغرافية التى أتى منها ، لكني تأكدت قطعا، أنه من يفتح رسائل البريد خاصتي ويتلصص عليها ، فكثيرا ما أجد آثار بقع زيت 'التونا' على المغلفات .
منذ عبرت المحيط ، وأنا أعيش نوعا من الحرية التي لم أجربها في مسقط رأسي ، الناس هنا لا يسألون ولا يتساءلون ، لا يهمهم أصلي ولا نسبي، ولا بطون القبيلة!
لكن السيد 'عبدالرزاق' يصر على أن يذكرني بما يحدث وراء المحيط .
أذكر أني خرجت يوما مرتديا معطفي مقلوبا ،و لم يلحظني أحد ، إلى أن وصلت مدخل الحي ، فإذا بي أجده أمامي حاملا قطا منتوف الوبر وهو يضحك ساخرا...
- ( شنو هذا عيني ؟! مشقلب قميصك علمود صلاة الاستسقاء!!)
تحملت منه كل شيء ، لكن مالم يكن بالحسبان ، هو عمله الاستخباراتي الجليل الذي تطوع به ، فقد هاتف أبي طالبا منه الحضور إلى "منهاتن "على وجه السرعة!!
اتهمني هذا الشرق أوسطي، أني أقيم حفلات ماجنة ، قد تطال سمعة بيته ،عندما سمع اصوات موسيقى وطبول ، تخرج من شرفتي لأيام متتالية .
ما لا يعلمه ، أني أعمل على مشروع مسرحي يخص دراستي الجامعية .
رد أبي عليه كان فاترا ، أخبره ببساطة أني أدرس المسرح والفنون .
وتعجبت ، كيف عرف عني كل شيء في غضون أسابيع قليلة، إلا مجال دراستي!! ...أم أنه تعمد خلق البلبلة كي يبعدني عن الحي ؟!
لايهم ...
فقد نصحني أبي بالابتعاد عن هذا الرجل، والانتقال إلى السكن الجامعي ، بعيدا عن فضوله و رائحة 'التونا ' وقططه المنتوفة .
وما جعلني اطمئن ، هو زميلي الجديد في غرفة السكن الجامعي،
ذلك الأشقر صاحب العينان الخضراوتان ، الذي فتح لي الباب ، غير عابئ بي، فقد بادرني بلكنة فاترة...
- " هالو برو "... وغادر الغرفة بهدوء .
تبسمت أخيرا ، وأنا استعيد خصوصيتي، و فتحت حقيبتي لأرتب ملابسي .
لكن أسمرا ، اجعد الشعر، دخل الغرفة بلا استئذان ، ووقف على جانب السرير يتفحصني، ويتفحص قصة شعري وملابسي بعين تكاد أن تنطلق منها أشعة " إكس" .
نظرت إليه ، وساورني الشك ...
لديه في عينيه فضولا أعرفه، وملامحا تشبه ملامح صاحبي 'عبدالرزاق' ، لا يمكن أن يكون من ذات الفصيلة !!
لكنه لم يمهلني لاستوعب الأمر ، بل صار شكي حقيقة .
رفع صوته وهو يربت على كتفي معرفا بنفسه ...
- أخوك عباس، زميلك وجارك في السكن ...
و أردف مستطلعا ،دون أن ينتظر ردا مني...
- (شنو الجابك من بلدك لبلاد الفرنجة ...يازول ؟) !!!.
تجمدت في مكاني و لم انطق ببنت شفة .
بل تمتمت في نفسي ...
" كان الله في عون مبتعث الشؤم ".
-------------------------------------
* الكاتبة : د. ندى مأمون إبراهيم . 2025.
ل ندى مأمون
--------------------
مبتعث الشؤم ....
نعم هذا اسمي الذي تفضل به علي الأستاذ ' عبدالرزاق'.
منذ أن جئت قبل اسابيع قليلة إلى " منهاتن " ،وسكنت الشقة المقابلة له، على بعد أميال قليلة من مسرح " برودواي " ، وهو يتفنن في مضايقتي و ملاحقتي.
لم أره يوما منشغلا ببيته ، ولا يخرج للعمل ، بل يحوم في الحي مع القطط .
كرسيه منصوب على الدوام أمام البناية ، حتى حسبته أعزبا ، لولا رؤيتي لخيال زوجته من الشرفة بعض الأحيان.
محير بشكل استثنائي ، كل شيء فيه يحمل شارة الوسط، طوله ، لون بشرته ، حجم أنفه ، إلا كرشه الضخم الذي يرخيه تحت قميصه ، ويرخي أذنه مع كل حديث يدور في الحي.
يبهرني كل يوم بلهجة جديدة.
أخرج صباحا ، فأجده جالسا على الكرسي ، يطعم القطط 'التونا' ، ويسألني مهاجما...
- ( شو ما بدك تسلم ؟! على وين رايح يا أزعر؟)
أناقشه في أمر القمامة المكدسة أمام شقته ، فيلوي شفتيه امتعاضا وينهرني...
- ( هو في إيه؟!! ما تخلي ليلتك السودا تعدي يا ولد!)
أعود ليلا ، فيفتح بابه متلصصا .
وعندما أراه ، يبتسم ابتسامة باهتة ،ويصطنع القلق قائلا...
- ( ديما تأخر ، راني تحيرت عليك بزاف ).
لم أتمكن حقا من تحديد البقعة الجغرافية التى أتى منها ، لكني تأكدت قطعا، أنه من يفتح رسائل البريد خاصتي ويتلصص عليها ، فكثيرا ما أجد آثار بقع زيت 'التونا' على المغلفات .
منذ عبرت المحيط ، وأنا أعيش نوعا من الحرية التي لم أجربها في مسقط رأسي ، الناس هنا لا يسألون ولا يتساءلون ، لا يهمهم أصلي ولا نسبي، ولا بطون القبيلة!
لكن السيد 'عبدالرزاق' يصر على أن يذكرني بما يحدث وراء المحيط .
أذكر أني خرجت يوما مرتديا معطفي مقلوبا ،و لم يلحظني أحد ، إلى أن وصلت مدخل الحي ، فإذا بي أجده أمامي حاملا قطا منتوف الوبر وهو يضحك ساخرا...
- ( شنو هذا عيني ؟! مشقلب قميصك علمود صلاة الاستسقاء!!)
تحملت منه كل شيء ، لكن مالم يكن بالحسبان ، هو عمله الاستخباراتي الجليل الذي تطوع به ، فقد هاتف أبي طالبا منه الحضور إلى "منهاتن "على وجه السرعة!!
اتهمني هذا الشرق أوسطي، أني أقيم حفلات ماجنة ، قد تطال سمعة بيته ،عندما سمع اصوات موسيقى وطبول ، تخرج من شرفتي لأيام متتالية .
ما لا يعلمه ، أني أعمل على مشروع مسرحي يخص دراستي الجامعية .
رد أبي عليه كان فاترا ، أخبره ببساطة أني أدرس المسرح والفنون .
وتعجبت ، كيف عرف عني كل شيء في غضون أسابيع قليلة، إلا مجال دراستي!! ...أم أنه تعمد خلق البلبلة كي يبعدني عن الحي ؟!
لايهم ...
فقد نصحني أبي بالابتعاد عن هذا الرجل، والانتقال إلى السكن الجامعي ، بعيدا عن فضوله و رائحة 'التونا ' وقططه المنتوفة .
وما جعلني اطمئن ، هو زميلي الجديد في غرفة السكن الجامعي،
ذلك الأشقر صاحب العينان الخضراوتان ، الذي فتح لي الباب ، غير عابئ بي، فقد بادرني بلكنة فاترة...
- " هالو برو "... وغادر الغرفة بهدوء .
تبسمت أخيرا ، وأنا استعيد خصوصيتي، و فتحت حقيبتي لأرتب ملابسي .
لكن أسمرا ، اجعد الشعر، دخل الغرفة بلا استئذان ، ووقف على جانب السرير يتفحصني، ويتفحص قصة شعري وملابسي بعين تكاد أن تنطلق منها أشعة " إكس" .
نظرت إليه ، وساورني الشك ...
لديه في عينيه فضولا أعرفه، وملامحا تشبه ملامح صاحبي 'عبدالرزاق' ، لا يمكن أن يكون من ذات الفصيلة !!
لكنه لم يمهلني لاستوعب الأمر ، بل صار شكي حقيقة .
رفع صوته وهو يربت على كتفي معرفا بنفسه ...
- أخوك عباس، زميلك وجارك في السكن ...
و أردف مستطلعا ،دون أن ينتظر ردا مني...
- (شنو الجابك من بلدك لبلاد الفرنجة ...يازول ؟) !!!.
تجمدت في مكاني و لم انطق ببنت شفة .
بل تمتمت في نفسي ...
" كان الله في عون مبتعث الشؤم ".
-------------------------------------
* الكاتبة : د. ندى مأمون إبراهيم . 2025.