أصول التكوين في فن الرسم في لوحة (قربان) لـ سعاد العتّابي قراءة بقلم/ الناقد مختار أمين
سعاد العتابي
أصول التكوين في فن الرسم في لوحة (قربان) لـ سعاد العتّابي
كثيرا ما يعجبني في لوحاتك (التكوين) هائلة أنتِ في رسم التكتلات والمجامبع البشرية والأحراش والأعشاب والنوارس كل هذا بتنويعات غاية في التفرد، كادت تكون متشابهة في التكوين الكلي أو في وحدة الموضوع، ولكن كل عنصر أو جزء أو تفصيلة شخصيته المتفردة التي تعزف جملة لونية وتعبيرية مختلفة عن نفس الجنس الذي يجاورها، أنتِ لم تكرري النماذج ذات العنصر أو الجنس الواحد كما يظن الرائي السريع الغير متخصص، ولكنك متفردة بإجادة التنويع واختلاف تفاصيل، كما نرى هذا في هذه اللوحة بعنوان قربان: اللوحة من المدرسة التعبيرية الكلاسيكية في الأدوات، وقدرة في التنويع حتى باللون الواحد وتقسيم درجات لونه، هنا مثلا نرى مجموعة نساء يتجمعن في قلب الصورة يشكلن ساق نخلة ميتورة في أول مراحل الساق الثمين دلالة غلى المتانة والخصوبة، وجذورها غير مخفية لتأكيد عامل الاقتلاع والجثّ في دلالة على الوحدة الكلية للموضوع، ونرى عدد من النساء في الأسفل يمثلون الجذور يلتفون بشكل دائري متشابكات الأيدي هن يمثلن الحماة والراعيات لتلك النخلة ـ وما للنخلة من دلالة على العمر المديد ورمز للبقاء ـ يدللن على رعايتهن لعملية النماء والولادةن وكأنهن في دهشة.. دهشة تؤكد روع الحدث.. كما نرى على يمين اللوحة نخلة أخرى من تشكيل أجساد النساء بكامل جسدها ولكنها وكأنها قطعت رأسها ووضع بدلا منه رأس رجل على الساق بشكل مخيف وكأنه شيطان على رأسه شعر النخلة الطويل في الخلف وفي المقدمة رأسه الصلعاء، وكأنه يقول أن القاتل..
في تحليل لرموز اللوحة:
نرى قد عنونتها الفنانة تحت اسم قربان، ومايدل الاسم من معنى مباشر لا ينطبق على نوع المدرسة التي تنتمي إليها اللوحة، ولكنه قطعي الدلالة لما له من معنى واضح في ذهن المتلقي.. قربان، وكان هؤلاء النسوة قربان لبقاء هذا الرجل، الذي بنرجسيته وترفه ودلاله عليهن قد قطع رأس النخلة ولا يدري بذلك أنه أوقف الحياة للبشرية، والحلقة الدائرة في ديمومة وصيرورة الحياة قد توقفت، كما نشاهد في أسفل اللوحة النساء المتشابكات بالأيدي كأنهن يدورن دلالة على دفع عجلة الحياة ودورانها، ونرى تشكيل جمعي هائل لصنوف النساء، وكأن كل منهن تدل على نموذج في الحياة في اختلاف الأزمان والعصور والأجناسن والسلوك والأخلاقيات، نرى على حافة اليسار في المنتصف تمثيل لامرأة بدوية صغيرة بجلبابها الديوي الريفي وشعرها الطويل المنسدل على طول ذراعها الأيمن في استكانة دلالة على القهر والمعناه، وانتحار الحلم والحياة لهذه الصبية في مقتبل شبابها.. كما نرى في وسط اللوحة نماذج من النساء المتحررات المودرن باختلاف أجناسهن، حتى بنات الليل في الجزء الأيسر من اللوحة بأشكال متعددة ومنهن المنكسرات أيضا لما يدل هذا الانكسار على الإجبار، وأخريات يتخيلن أنهن في متعة وسعادة...
ويبقى جزء الإجادة للفنانة وقدرتها واحترافيتها للتعبير باللون الواحد ورسم تفاصيل دقيقة مهمه، وتجزيع اللون من شفاف وغامض إلى بارز غامق كثيف بمهارة مقصودة، نراها خففت اللون في بعض تفاصيل جسد بعض النساءوجعلته أقرب للشفافية للدلالة على أنهن أرواح شفافة قد غربن عن هذه الدنيا، والمعادل التركيز بالقلم وتكثيف اللون في بعض تفاصيل أجساد نساء أخريات للتأكيد عليهن وعلى هذا العنصر من النساء في حافة اللوحة على اليمن لدلالتين.. دلالة على صنف من النساء اللاتي يمارسن البغاء، أو اللاتي وهبن نفسهن لمتعة الرجل ودلت على ذلك بالتركيز بالقلم الكثيف على تفاصيلهن الجسدية وشعرهن الحر الجريء المتروك للهواء بدلالته، وكأنها أرادت أن تقول حتى هؤلاء النسوة مقتولات في تفانيهن لاسعاد الرجل حتى ينلن جزء من الراحة والسعادة أو الرخاء في حظوته، والدلالة الفنية لتصنع بتعاريج أجسادهن على طول حافة اللوحة من اليمين من أسفل لأعلى تجسيد للنخلة الرمز المنبثقة من النخلة الأم الكبرى الحاوية للوحة المجتثة، ونرى تأكيدا لذلك رسم طبقات النخلة في ساقها وجزوع النخلة وزعانفها برؤوس نساء تعمدت اخفاء معالهمن للتعد والشمول، وقد نرى اللون الغامق والكثيف في تفاصيل مهمة لازمة للتوضيح والتفسير، ظهور النساء في الوسط الأسفل حتى وسط اليمين لتجسّد في أسفل الوسط ظهور الخادمات الراعيات ودلالة على التنكير لهن، أو المجهود الغير مرئي أو الملحوظ ولكنه مهما للغاية، كما أكد اللون الغامق الكثيف على شعر البنت أو الصبية في وسط اليسار وانسداله في استكانة دلالة على استكانة الفتاة، وأيضا لشعر النخلة التي على حافة يمين اللوحة على رأس الرجل، وأيضا لخلق معالم الحدة على وجه الرجل ونوع من الشراسة، وأيضا في بعض أزياء النساء والفتايات ليدل عليهن، وبشكل مهم استخدم التكثيف للترابط ودقة التفاصيل، كما أنها استخدمت اللون الشفاف الخفيف بداية على ترك فراغ باللون الأبيض بين النساء وبعضها في الوسط لدلالة على الشسوع والعمومية، واختلاف البقاع على وجه البسيطة أو دلالة على أنها تتكلم عن المرأة بشكل عام بأنها أضحت قربانا..
ونأتي لعامل آخر في التقنية والاحترافية وهو الخطوط:
نلاحظ خطوط الفنانة تميل للحدّة والشراسة، وكأنها تود أن تصرخ أو تريد أن تضع كتالوجا شارحا للوحة يفهم الكل مقصدها منها، كما أنها ساعدتها لخلق تفاصيل لها الأثر القوي، مثلا لتجسيد الجذور للنخلة في الأسفل دلالة على الاقتلاع، وأيضا لرسم شعر نساء الليل المفرود الحر في يمين اللوحة دلالة على الجرأة والحرية، وأيضا استخدامها لرسم الأذرع الكثيرة المتعددة للنساء والفتايات دلالة على الأيدي الممدودة دوما للفعل، وأيضا لتخلق الترابط كما اعتادنا في لوحاتها، وقليلا ما تترك سعاد فراغات في قلب لوحاتها لتميزها في التشكيل المتكتل الجامع الشامل مثل مدرسة دافنشي وعامل من مميزات لوحاته ـ وإن كان الأخير يميل للمدرسة الواقعية والبورتريه ـ ونراه جليا في لوحات جوخ وخاصة لوحة ليلة النجوم وما فيها من خدعة بصرية باللون والخطوط، وليلة مرصعة بالنجوم، والتأثير بالخطوط وما تصتع من منحنيات وتموجات والتشكيل باللون الواحد بكل درجاته.. في الحقيقة لا أمل عن الحديث في الفن والرسم بالذات، وخاصة هذه اللوحة التي تبدو بسيطة ومجرد شخبطات قلم كما قالت عنها، ولكني أجدها لوحة لا تقل جودة مثل أشهر لوحات رسامي العالم، فهي سهل ممتنع تعد من العبقريات، وأني لأنوي الحديث في مجال آخر عن هذه الفنانة سعاد العتّابي.. الفنانة الشاملة في مختلف الفنون والآداب بجدارة واحترافية، وأرجو أن يعينني ربي على ذلك؛ فأني بهذه القراءة أرسل لها تحية فخر وإعجاب..