×

اضغط هنا إن لم يقم المتصفح بتحويلك آليًا.
مديرة التخرير سعاد العتابي

رواية"سوسطارة" لــ حنان بوخلالة.. سيرة مدينة تبتلع عشاقها. كتبها: أحمد الشيخاوي

رواية "سوسطارة" لــ حنان بوخلالة.. سيرة مدينة تبتلع عشاقها
أحمد الشيخاوي

image

بداية، تجدر الإشارة إلى أن ما جعل مثل هذا المنجز الروائي، يتخذ هذا الطابع التصاعدي في السرد، ويلتزم بالجملة الواحدة، أي يأتي بلا عناوين فرعية أو فصول أو تبويب يرتب خيوطه الناظمة، ربما، هو عائد إلى الضغط النفسي الهائل، أو المعاناة المركبة التي أنتجت النص،كي تبرزه لحمة واحدة متكاملة، منذ العتبة ولغاية آخر حرف من الرواية.
وهي مسألة كافية، لتحسس الوجع الإنساني، عبر هذه الذات الساردة، في بثّ لواعجها ومكابداتها الناجمة عن عنف مركّب، أيضا: عنف الذات والأسرة والوطن.
بما يقود في النهاية إلى زخم هذه الخيبة والانكسار ومقت الحياة، كون، حتى الحب يُفسد محاولات التصالح مع هذا الثالوث المذكور: الذات والأسرة والوطن، ضمن حدود قاسم مشترك أكبر ألا وهو العنف الرمزي، مثلما هو مستشف من طقوس هذه السردية الفجائعية والواخزة بارتباك الهوية الذاتية، المنصاعة لخطاب شخصية "اللاأحد"، أو ما يناوش بنعت "المبدولة" حسب تعبير صاحبة الرواية، تأكيدا على عمق الجرح المنذور له هذا "الأنثوي" والذائب في قيحه وصديده.
إكراهات تتكالب لتولّد كامل هذا اليأس، وتغذي هذه الروح الانهزامية،وتولد هذه النبرة التشائمية، تبعا لخطوات الذات في متاهات حياتية ومجتمعية جمة، برغم تجريبية التعرض لنفحات الخلاص، تخون المحاولات ويكذب النرد.
نتبين كهذه أساسيات في منظومة مفاهيمية هامسة بوصايا جلد الذات، وهي تستقبح الهوية الوجودية القائمة على ما يشبه تاليه الأقنعة، ونبذ تحجر العقل صولة الصوت الذكوري، في التكريس لنظير هذا الحالات المرضية النازفة بها مدن الجشع المادي، على حساب روح الكائن وأحلامه.
نقتبس من هذا الإصدار الروائي البكر، لمبدعته الجزائرية، حنان بوخلالة، الموقع حديثا عن دار خيال للنشر والترجمة، المقتطف التالي:
[خطر ببالي أن أعود ذلك اليوم إلى البيت مشيا رغم أن حذائي الجديد كان يعض قدمي.. لم آبه يوما بالألم الذي تخلفه الأحذية لم أكترث أبدا للمسافات الطويلة، المشي متعتي الأجمل.
حالما أشعر بالتعب أتذكر قصة عروس البحر التي وافقت على استبدال صوتها الجميل وذيلها الذهبي بساقين يشعرانها بألم الدوس على الدبابير.كلما خططت طمعا في أن يحبها الأمير الوسيم ويهديها روحا خالدة.كنت أفهم كيف لعروس البحر أن تضحي بكل شيء من أجل ساقين. الحياة طريق يمشى. طريق يستحق كل خطوة رغم الألم.رغم جهلنا للنهايات](1).
درجة قصوى من الألم، والزهد الإجباري في العيش، بحيث لم يعد يجدي فتح أي نافذة للأمل، في عتمة الذات والحياة، فحتى تجليات الحب بوصفه أسمى قيمة، لمداواة الجراحات والاضطرابات الأنوية، ههنا، عابرة ومراوغة وكاذبة في كثير من الأحيان.
وبذلك، لا يمكن وضع نهاية على مقاس مشتهى، حتى على الطريقة الكلاسيكية، ومن ثم تبرز تكعيبية هذا الهم الذاتي، لتبسط سلطتها وجبروتها بما يخرس واقع الحكي عن مشاتل أشهى وأنضر، ويلوّن وإن في أدنى الحدود، صفحات هذه الدراما ،وهي ترشقنا بجمرات الجملة الواحدة، تدليلا على إيقاع نرجسي لاهث، لا يهادن مراياه أو يعتقد بشقوق الخلاص التي قد يسيل منها ملح الحياة على بساطتها وبراءة عبورها.
مثلما نطالع لها في مناسبة ثانية قولها:
[ياسمين ليست معشوقة عادية. ليست خرافية الجمال ليتك ترين جسدها الهزيل، وجهلها الواضح للموضة. لكنها وحدها من تنزع الابتسامة مني انتزاعا، تجعلني أرغب في الهروب بها، في أن أكون رجلها، حمايتها. أساعدها دوما في تحميل الكتب. في كتابة البحوث. من أجلها فقط أنسى تسلط صاحب "السيبار" الذي يعاملني كبغل كلما شكوت أخرج بطانية صغيرة قذرة وردد علي تلك القصة المملة التي سمعتها بقدر تعبي، قصته عن تشرده لأيام في شوارع باب الواد قبل أن يصير غنيا نام على الأرصفة أكل من مزابل الحكومات الخلفية.أشفق عليه أحدهم ذات برد فغطاه بتلك البطانية، بطانية كلب الحراسة كما يقول المعلم.كانت البطانية نتنة يملؤها وبر الكلب شعرت يومها لأول مرة في حياتي بطعم الذل.فقررت أن أصير غنيا](2).
كذلك هي سائر شخصيات هذه الرواية، تنهل من ذات المستنقع الحياتي، مرتكنة إلى نبيذ الجلود، والجهد الشخصي الجبار، في محاولات لتغيير المصير، لكنها عبثا تحاول، أن تصنع مصيرها، علما أن مثل هذه الرؤى، تبعا لتجاويف المنجز وضمنياته، يطغى عليها خطاب الوسط الجامعي، مشفوعا بأفكار أكثر انفتاحا وعمقا ووعيا بلعبة الحياة القذرة.
تنطلق الذات الساردة من لحظة غياب، تتلمظ مرارتها، مطعونة بالفراغ الأبوي، أو حضور الأبوة الرمزي المقنع، الرافل في محنة الغياب الفعلي المغذي لنظير هذه المأساة، العصية والمستأسدة والتي لم تلملم شظايا ما أفرزته، ولا جبرت الناجم عنها من أضرار نفسية بليغة، حتى ملامسات الحب المخملية ضمن محطات عمرية متنوعة وورافة بغوايات الأنثوي.
تقول الراوية:
[ـــــ تريدين غيتارا لزوجك؟ سألني.
ــــــ لا.أريد مندولا لأبي.
ـــــ عيد ميلاده؟
سيعود من سفر طويل، أريد مفاجأته بأجمل مندول يمكن أن يحصل عليه.
كنا نفكر دوما برعب في أنه لن يعود، ماذا لو عاد؟
كان المندول الأجمل هو الأكثر شبها بذلك الذي أذكر،كنت على حق، يمكن لما انكسر، لما ضاع، أن يتحول لشيء أبهي يمكن لذلك الجزء الذي تعلق بي أن يعود لما كان عليه يوما، حملت المندول، عانقته كما تمنيت أن أفعل منذ زمن، عاكسني أحدهم:
ـــــ لو كان غير جيت أنا لي راكي معنقتني هكذا.](3).
بهذا المعنى إذن، تترجم الرواية خطاب جلد الذات، توغلا في دوائر الوجع الإنساني، مقدمة منظومة من الدلالات عن جور المكان وعنفه، وهي معادلة صعبة اقتضت هذا السياق الرأس الضاج بحمولات الذات المستشعرة لأضرب جمة من الكبت والقهر.
سفر في فراغات الحياة، لم تنفع معه حتى المغامرات العاطفية التي من المفترض أن تحقق نوعا من التوازن، وتتيح انفلاتا وأفقا للتصالح.
ذلك وأحسب المنجز على سلاسة لغته، ورهانه على تقنية السهل الممتنع، استطاع استفزاز العقل العربي المتعطش لأسلوبية مغاير في مقاربة راهن البؤس والفاقة الوجدانية،عبر سبره للكينونة التي تُعنى بها كائنات الظل والذيل، وهكذا تنفّسنا إلى حدّ كبير بعضا من أحلامها المشروعة في إدانة عالم بات يتجاوزنا بصنوف مختلفة من الاضطهاد وآليات القمع والاختناق، بحيث بات الكائن فيه مصدر إزعاج لذاته أولا، ثم ما ينبثق عنها، ليؤوب إليها في الأخير، من خلال دورة حياتية أقرب إلى العدمية والخلل الهوياتي، إذعانا لأبجديات تقدس ما هو ماديا وشهوانيا صرفا، وتنتصر لمدنية تذبح جيلها.
هامش:
(1)مقطع من الرواية من الصفحتين:25و26.
(2)مقتطف من الصفحة31.
(3)الصفحة 130.
*سوسطارة (رواية) طبعة أولى2019، دار خيال للنشر والترجمة، الجزائر.
*شاعر وناقد مغربي

 0  0  739